كانت الاقليات القومية او الدينية او المذهبية ، موجودة في جميع بلدان الكرة الارضية منذ ان عرفت البشرية رسم خرائط اقطار المعمورة ، وحتى يوم الناس هذا . حيث استأثرت الاكثرية بالسلطة والجاه – بعد تشكيلها للحكومات القومية – مع رفضها للآخر المتمثل بتلك الاقليات التي القى بها القدر في احضانها ليسوموها سوء العذاب ويحرمونها من ابسط حقوقها الانسانية : ممارسة لغاتها او التمتع بابداعات ثقافاتها وملامح فولكلورها ، لاسيما في بلدان الشرق الاوسط . و قد استطاعت الاقطار الاوروبية حل مشكلة الاقليات منذ منتصف القرن العشرين بالاعتراف بحقوق تلك الاقليات ، السياسية والثقافية ، في اطار الديموقراطية والتعددية واخيرا ، الفيدرالية . شرط ان لا يؤدي ذلك الى الحاق اجزاء من تلك الدول الاوروبية بدول الجوار بحجة حق تقرير المصير او التمتع بفضائل الفيدرالية الديموقراطية ، لاسيما وان الاتحاد الاوروبي – بتشكيلته الحالية – قد حلّ هذه المعضلة بجمع شتات كل الاقليات ضمن دولة الاتحاد .
واذا كانت كل الايديولوجيات السياسية – ومن ضمنها الايديولوجية القومية – قد سقطت بسقوط جدار برلين وبهيمنة العولمة الاقتصادية الثقافية – لان العولمة السياسية كانت موجودة منذ ايام الاسكندر المقدوني – وفق النمط الاميركي على العالم ، فانه قد بات على العرب ضرورة اكتشاف سبل جديدة لتحقيق الوحدة العربية ، اذا كانوا يريدون فعلا … اللحاق بركوب قطار العولمة الانسانية ، من اجل التقدم والازدهار الحضاري . لاسيما وان اسس الفكر القومي التي نشرها المفكرون العثمانيون – المتأثرين بالفكر القومي الالماني – للاقوام الاخرى وليس لابناء جلدتهم ، كانت تعتمد – بالدرجة الاولى – على افكار شتراوس وشوبنهاور ونيتشه الفاشية المغلفة بالعنف والارهاب ورفض الاخر . فقد كان المفكر العثماني الكردي ( ضياء كوك ألب ) والمربي العثماني التركي ساطع بك ( ساطع الحصري ) فرسا رهان الفكر القومي خلال 1912 – 1918 بعد ان تبنى كوك الب وضع اسس الطورانية الحديثة ، في حين دافع ساطع بك – من خلال دراساته التربوية ، حيث كان مفتشا عاما في وزارة التربية والمعارف ايام الاتحاديين – عن ” ضرورة منح القوميات و الاقليات المتآلفة في الدولة العثمانية نوعا من الادارة المحلية اللامركزية لتنشيط عمليات الاعمار والمشاركة السياسية الفعالة – لاسيما بالنسبة الى العرب الذين كانوا يشكلون القومية الثانية بعد الاتراك والاكراد الذين يشكلون القومية الثالثة – في نطاق فكرة ( الوحدة العثمانية ) التي دعا اليها السلطان عبدالحميد الثاني ، باعتبار ان كل القوميات القاطنة في الدولة هم عثمانيون من حيث الانتماء والهوية الوطنية ” . غير ان القوميين العرب ، رفضوا في انطلاقتهم الفكرية للدعوة القومية فكرة اللامركزية العثمانية : بدءا بصرخة الشيخ ابراهيم اليازجي ” تنبهوا واستفيقوا ايها العرب ” وصولا الى نجيب عازوري المنادي باقامة امبراطورية عربية تمتد من العراق الى مصر .
واذا كانت المحاصصة اللبنانية المعترف بها دستوريا كانت فيدرالية ” مستورة ” او غير شرعية وحلا استعماريا – كما يذهب القوميون الشوفينيون – لحماية الاقليات من جور الاكثرية ، فان اول دولة فيدرالية في الشرق الاوسط – بل الشرق كله – هي دولة الامارات العربية المتحدة التي تأسست او قامت على اساس فيدرالية الامارات السبع القائمة أنذاك ، في اطار الديموقراطية والتعددية والمشاركة السياسية الفعالة لحكام الولايات وافراد الشعب – كل الشعب – سواءا بسواء . فكان هذا الازدهار السياسي – الاجتماعي – الثقافي والاقتصادي ، الذي تشهده دولة الامارات العربية المتحدة ، بحيث اصبحت تعتمد على 8 بالمئة فقط من مواردها البترولية الغنية ، في ميزانيتها الضخمة الموظفة للتحول الحضاري والازدهار الثقافي والنمو الاقتصادي . لان الفيدرالية الديموقراطية اساس التقدم والازدهار الحضاري ، ولنا في الفيدراليات الديموقراطية الاوروبية : سويسرا وبلجيكا والنمسا ، خير مثل على ذلك .
ان معظم اقطار الشرق الاوسط : العربية والاسلامية ، لا تزال تحرم مواطنيها من الاقليات من ابسط حقوقها ، بل وتتهمها احيانا بالعمالة لدولتها الأم او للدول الاخرى ذات الايديولوجيات المسيطرة في المنطقة او بضعف ولائها للدولة ، او برغبتها في الانفصال – مع اعترافنا بوجود مثل هذه الميول لدى القلة القليلة من الاقليات – غير ان تلك الحكومات تنسى – او تتناسى – ان الاقليات هي جزء من النسيج الاجتماعي في بلادها ، ولها ما للاكثرية من الحقوق والالتزامات ، ضمن الوحدة الوطنية ، ولذلك يجب قيام تلك الحكومات بشرعنة حق الاختلاف مع الآخر . لاسيما وان استبداد دولها وحرمانها لاقلياتها من حقوقها او محاولتها القضاء عليها ، هي التي تدفع تلك الاقليات العرقية والدينية والمذهبية الى التمرد على الاغلبية والتظلم من استبدادها اوطلب المعونات الخارجية . ولنا في علاقات تركيا والعراق ولبنان والسودان وسوريا ومصر ، السيئة والمشينة مع اقلياتها ، خير مثل على ما نقول .
ان الديموقراطية والفيدرالية ، وجهان لعملة واحدة ، لانهما يجسدان مصطلح ” السلام الاجتماعي ” حيث تكمل أحداهما الاخرى . ومن هنا فان الثلاثي : الديموقراطية والفيدرالية والسلام الاجتماعي ، هو الاثافي الثلاث التي تستقر عليها بودقة الوحدة الوطنية لدولة القانون ، التي دينها التسامح وايديولوجيتها الحياد ومذهبها العلمانية … لكي تستطيع نشر المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية للجميع . كما انها – أي الاثافي – هي خميرة الولاء الجغرافي للهوية الوطنية الديموقراطية واساس الانسجام الاجتماعي ، والحل الديموقراطي المأمول لمشكلة الاقليات في عراق الغد ، وفي اقطار الشرق الاوسط الاخرى .
الرئيسية / قراءات اخترتها لكم / الاقليات … وشرعنة حق الاختلاف مع الآخر …!!!.. أ. د. ابراهيم الداقوقي
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …