الغرفة واسعة تطلُِِ على الشط وأشجار النخيل وأنا وحدي فيها،أعرف كل قطعة من أثاثها التي كانت تعود السرير الكبير ودولاب الملابس ودولاب خشبي آ خر،مستطيل ا لشكل بواجهة زجاجية،يضم ثلاثة رفوف، يحوي تحفاً دقيقة، انبهرت بها ولم استطع أن أرفع عيني عنها ذات يوم . وفي ا لغرفة بيانو كبير عّلق فوقه، على الجدار ، ساعة خشبية من الطراز ا لقديم ، وفيها أيضا ثلاثة كراسي ، أحدها من النوع ا لهزّاز ،ومرآ ة مستطيلة كبيرة بإطار خشبي عريض ذا زخارف بارزة بلون ذهبي داكن ، وضعت تحتها مائدة صغيرة مستطيلة،قريبة من نافذة عريضة، عليها ستارة زرقاء – رمادية ، بهت لونها ،الذي كان عميقاً ، وأثار في نفسي ،ذات يوم أيضاً، إحساسا غريباً بالحزن ، مع إنني في تلك ا لسن ا لمبكرة من عمري ، لم أكن أعرف الأحزان.
كنت قد سمعت عنها الكثير إذ كانت الحاضرة – الغائبة في محيط أحاديث الأسرة ،كلما جئنا البصرة من بغداد ،في بداية كل عطلة صيفية لتمضية أسابيع في دار عمتي. كانت تسكن الدار المجاورة لنا امرأة من اقرباء ابي ، بل ابنة عمه بالتحديد، حذرونا مراراً وبشدة، من الاقتراب منها او من دارها، كونها امرأة غريبة الاطوار،لا علاقة تربطها بالجوار،لا احد يشاهدها خارج الدار، الا نادراً، ويعمل في حديقتها بستاني عجوز، تكلفه اسبوعياً، بشراء ما تحتاجه.احاديث اخرى كنت اسمعها تدور همساً في الدار، تتفاعل في اعماقي وتتتحول الى حكايات اشبه بالحكايات التي كانت جدتي تقصها علينا،في ايام الشتاء، وتثير في خيالنا الفضول والخوف احياناً.
كان الجدار الفاصل بين دارينا قد تهدم في جزء صغير منه، وكنت اجتازه، كلما قفزت كرتي ،الى حديقتها التي كنت اتجول فيها واطوف حول دارها علّني المحها .ولكنني اجد بابها والنوافذ موصدة تماماً.وذات يوم من الايام ، وفي خلال لعبي ، قفزت الكرة الى حديقتها، كما يحدث مراراً. فتسللت عبر الشق الضيّق في الجدار الخارجي .كي اعود بها، وعندما استدرت عائدة، حانت مني التفاتة الى نافذة خلفية في دارها، ووجدتها ، ويالدهشتي ، نصف مفتوحة، وعندما اقتربت منها، وصلت سمعي نغمات عذبة هادئة ، اقتربت من النافذة اكثر. يدفعني فضول كبير ، محدقة في الغرفة ، شبه المعتمة، ورأيتها ، كانت جالسة امام البيانو تمرر اصابعها عليه.لم اتبين ملامحها جيداً ، لكنني راقبتها بانفاس متلاحقة ، كأنني عثرت على كنز ضللت ابحث عنه اعواماً.لا ادري ان كانت انتبهت الى وجودي ام لم تنتبه، لكنها توقفت عن العزف فجأة ، مستديرة نحو النافذة التي ابتعدت عنها مسرعة ، وانا ارتجف خوفاً.
كنت آنذاك صغيرة ، في حوالي العاشرة من عمري ،خلال ذلك الصيف ، الذي تكررت فيه زياراتي السرية الى الحديقة الخلفية ،كنت المحها عبر النافذة ، امرأة جميلة ، ذات شعر كستنائي وقامة طويلة ، وفي خلال تطلعي اليها ،كان يراودني احساس بانها ، وبعد ان اخذت تشعر بوجودي ، بدأت تتخلى عن حرصها على اغلاق النافذة او اسدال ستارتها جيداً ، اتراها بدورها كانت تريد الاقتراب مني! لا ادري ! لكن شيئاً غامضاً كالقدر ، جمع بيننا ،منذ ذلك الحين ، هل ان النغمات الموسيقية العذبة التي كانت تعزفها ، والتي بدت اشبه بمزمار سحري ، هي التي اجتذبتني اليها ، ام انه ذلك الشبه الواضح، الذي وجدته بين ملامح وجهينا ، ام ان الامر كان مجرد اوهام انبثقت من خيالي المختزن بالاحاديث والحكايات ! لم اعرف الحقيقة ، ولكني اتذكر انني ازددت التصاقاً بالنافذة ، دون ان يحدث تغيير ما في علاقتنا. كنت ارقبها بصمت ، وهي تعي حضوري ، متجاهلة اياي مواسم اربعة .ثم لتؤكده في الصيف الخامس ، عندما التفتت اليّ وابتسامة واضحة تنير وجهها.
كنت في تلك العطلة الصيفية ، بلغت الخامسة عشرة من العمر ، عنما خرقت الحاجز الزجاجي الذي كان يفصل بيننا فعند اقترابي من النافذة ، في ذلك اليوم ، من ايام حزيران، وجدتها واقفة خلفها تماماً ، وتلك الابتسامة على شفتيها ، وكأنها كانت في انتظاري منذ زمن طويل. وقفت قبالتها، نتبادل النظرات ، ابتسمت لي ثانية وهي تفتح النافذة وتدعوني الى الدخول بصوت ضعيف ولكنه آمر.لم اتردد كثيراً في قبول دعوتها ، اذ ساورني ، في تلك الايام ، احساس فتاة اجتازت مرحلة الطفولة ولم تعد في حاجة الى اختلاس زيارة لقريبة لها. اجتزت الباب الخشبي وخطوت داخل الدار التي كانت محرمة علي ، حتى ذلك الوقت ،ووجدت نفسي في صالة انيقة تحوي مكتبة ضخمة وتحفاً ولوحات جميلة.كان حديثاً قصيراً ، سألتني في خلاله عن اسمي ودراستي وهواياتي. وقبل ان اودعها ، اعطتني مجموعة من الكتب لقراءتها ، انكببت عليها ،حال عودتي ، وانا اتذكرها في كل كتاب. هادئة ، ناعمة الصوت ، متعبة ،وخيوط من الحزن تجري في عينيها العسليتين الواسعتين.
لم انقطع عن زيارتها بل اختلست من الزمن زمناً، كي ازورها واتحدث معها فيه.والحديث الذي كان بدأ بيننا عن اسمي ودراستي ، نما وتشعب بعدئذ، ليشمل حياتي في البيت والمدرسة وصديقاتي والكتب التي افضل قراءتها والاغاني التي احب الاستماع اليها.اقتربنا من بعضنا في تلك الايام، ولكنني احسست في قرارة نفسي، انني لم اقترب من زوايا عديدة ومظلمة في اعماقها، حتى جاء ذلك اليوم ، الذي ما زلت اذكره جيداً، على الرغم من مرور اعوام كثيرة عليه ، عندما قادتني فيه الى غرفة كنت اجد بابها موصداً باستمرار. وما ان ادارت مقبضه حتى وجدت نفسي ، في تلك الغرفة الخلفية التي كنت اتطلع اليها عبر زجاج النافذة ، وقامتي بالكاد تصل افريزها . انها الغرفة الواسعة التي اجلس فيها اليوم ، والتي ما زالت على حالها. تابعت خطواتها البطيئة ، وهي تتحرك في ارجائها ، (نفس خطواتي اليوم ) ، متنقلة من النافذة الى السرير والى البيانو الكبير. كنت احس توترها وقلقها في تلك الساعة، وهي تدمدم بكلمات غير واضحة ، لم ادرِ ان كانت توجهها اليّ ،ام ان تلك الدمدمة المتواصلة قد غدت جزءاً من عادات اكتسبتها في الاعوام الاخيرة. تطلعت بانبهار الى التحفيات الدقيقة الموضوعة في داخل الدولاب الخشبي وعيناي تنتقلان من رف الى آخر ، تتأملان التحف الخزفية والعاجية والزجاجية وهمهمتها الخافتة تصل سمعي ، مثل نغمة موسيقية ، دون ان اتبين منها شيئاً. لكنها ، وعنما جلست على الكرسي الهزّاز، اغمضت عينيها وبدأت تقول ” كان والدي يذهب الى البحر ، يزور الموانئ والمدن ، وسفنه الكبيرة ، حملت كل شيء الى دارنا الكبيرة. الحديقة اكثر اتساعاً ، ذات اشجار باسقة وزهور متنوعة وحيوانات في اقفاص كبيرة ، اسود ونمور وقرود وطاووس جميل الريش ” ، ثم اخذت في وصف تلك الاشياء بالتفصيل ، نقية الذاكرة في كل ما يخص الماضي ، خطوطه وصوره والوانه.وبعد ان انهت كلامها، حلّ بيننا الصمت برهة ، قامت في خلاله من مكانها ، لتتوقف امام المرآة وتتناول مشطاً في يدها اليمنى وتفك باليد الاخرى الشريط الذي يشد شعرها الى الوراء.وعندما بدأت تسرح شعرها البني – الابيض ، الغزير ، برقت عيناها العسليتان بغتة ودبّت فيهما الحياة ، ثم قالت:
“كنت صغيرة ، لم اذهب الى المدرسة ، لكن المدرسين جاءوا الى البيت ، وعندما اصبحت في الثامنة عشرة ، اقترح علي والدي ، ان اتعلم الموسيقى والرسم” ، وغرقت مرة اخرى في الصمت. وفي هذه المرة قطعته بسؤالي:
– ” وماذا بعد!”
وصلني صوتها خافتاً ، كمن تتحدث في نومها:
– ” كان يعلمني الموسيقى ، وتدفق ، مرة واحدة ، بحر من المشاعر والاحاسيس بيننا ومرت اشهر…
– ” وماذا بعد ..! ”
– ” واغلقوا علي الباب ، ودفعوه بعيداً ، وجدت نفسي وحيدة ، في هذه الغرفة المطلة على الشط واشجار النخيل ، رحل الجميع ، ماتوا ، الواحد بعد الآخر وبقيت ..
توقفت عن الكلام بعد ان تهدج صوتها ، تطلعت الى نفسها في المرآة ، جمعت اطراف شعرها شدّته ثانية الى الخلف ، عادت لتجلس على الكرسي الهزاز، وعيناها مثبتتان على الساعة الخشبية الجدارية.
عدت لاقول لها :
– ” من هو .. ما اسمه ؟”
تقلصت ملامحها ، زمّت شفتيها ، حتى تحولتا الى خيط رفيع ، داكن . وعدت الى سؤالي اكرره..
– “ما اسمه؟”
استدارت نحوي ، تسألني بدورها :
– “من ؟”
قلت بهدوء ، ” ذلك الذي رحل .. ذلك الذي أُوصد الباب بينك وبينه.”
وبصوت خافت اجابت:
– “لا اعرف .. ماذا تريدين .. عن ماذا كنا نتحدث ”
وكان شعاع من الشمس المتسلل في ساعة المغيب تلك يسقط باهتاً على شعرها وجزء من وجهها ، يكشف لي شيئاً من خوفها وحزنها، وعيناها ،مثل جمرتين من نار ، اوشكتا على الانطفاء ،لكن نفخة من هواء هبّت عليهما وجعلتهما تبرقان لحظات ، قبل ان تخمدا في موقدهما .وقلت لها بالحاح فتاة في الثانية والعشرين من عمرها ، كان الحب يصطخب بين جوانحها ، احبت بدورها وانتظرت وتألمت لرحيل الحبيب.
– ” وماذا بعد ذلك.. تكلمي..”
والكرسي يهتز بها الى الامام والى الخلف ، تساءلت بصوت واهن:
– ” وماذا بعد ذلك ؟.. بعد ماذا ؟”
– ” بعد الرحيل .. بعد رحيله..”
تطلعت الي بعينين ، ركد فيهما العسل وتعتق قطرتين داكنتين ، وقالت بانكسار ، وهي منكمشة في مكانها ، صبية مذعورة..
– ” لاشيء ، انا في الغرفة المطلة على الشط واشجار النخيل والموسيقى..”
واخذت تدندن بنغمات ((دو .. ري .. مي..)) ، وصوت دقات الساعة يقطع الصمت التام الذي حلّ في الغرفة.
الساعة ما تزال تعمل وترسل دقاتها بانتظام ، وانا ، كما قلت لكم ، في الغرفة اياها. اشعة الشمس تخترق زجاج النافذة وتنعكس على المرآة ، ثم تسقط باهتة على شعري البني – الابيض اشده الى الخلف بشريط اسود ، اجلس على الكرسي الهزاز ، اهزه ويهزني ،واحس بحركة ما في الخارج، استدير نحو النافذة المفتوحة ويخيل الي بل وكأنني فعلاً ارى وجه طفلة بضفيرتين ، ترنو الي بحذر ، تقترب من النافذة ، ثم تبتعد عنها ، وكأنها جالسة في ارجوحة ، طفلة في حوالي العاشرة من عمرها ، واقوم من مكاني ، اجلس خلف البيانو ، لأكرر نغمات .. ((دو ، ري ، مي ، ..)).
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …