كانتوات جمع كانتو, والكانتو هو جزء من قصيدة مطولة , وابرز مثال على ذلك هو قصيدة دانتي العصماء “الكوميديا الألهية” والتي بها تأثر عزرا باوند و كتب كانتواته التي استغرقت اكثر من اربعين سنة. بمطلع القرن العشرين انتعش اهتمام الادباء الانكليز و الامريكان بعملين كلاسيكيين من دون سواهما هما: “الكوميديا الألهية” و ملحمة هوميروس “الأوديسا”, وكان الرائد الاول في هذا الانعاش الادبي هو الشاعر الامريكي عزرا باوند الذي بدأ يكتب الكانتوات متأثرا بدانتي , و تبعه مريده الادبي الروائي الايرلندي جيمز جويس الذي كتب درة الادب الحديث الا وهي رواية “يوليسيز” التي اخذت اسمها من اسم يوليسيز بطل “الأوديسا”. أن اسم يوليسيز هو النسخة اللاتينية من اودسيوس النسخة الاصلية اليونانية للأسم والتي منها اشتق هوميروس اسم “الأوديسا” (نسبة الى أوديسيوس , فنقول أوديسا نسبة الى أودسيوس كما نقول عنتريات نسبة الى عنتر), وان النسخة العربية من اسم اودسيوس هي عولس , و كانما هناك قوى كثونية تعمل سيميولوجيتها عملها تأبى ألا ان يكون هناك تماثل في أسماء أبطال , نجد أن النسخة العربية من أسم أودسيوس هي عولس وهو الاسم الذي يبدأ بنفس الحرف و الصوت الذي يبدأ بهما أسم عنتر.
كتب دانتي كانتواته في “الكوميديا المقدسة” بالشعر الايطالي من بحر التيرزا ريما, وكتب باوند كانتواته بالشعر الحديث المرسل و الحر, و صديق توفيق يكتب كانتواته بالنثر العادي اليومي المحادثي , لكنه نثر يحمل الكتروكهربائية شعر القصائد في حميميته حرارته بوحه و صدقه–ولعل كذلك, في كذبه دجله جمبازياته و ,كما نقول بالعراقي, كلاواته .(“كلاوات” جمع كلاو بمعنى الضحك على الذقون و كلمة “كلاو” هي أصلا كلمة كردية تعني حرفيا طاقية الرأس , وحسب نظام اشتقاق الأسماء الوصفية على الطريقة العراقية يستخدم العراقيون كلمة “كلاوجي” لوصف الذي يتعاطى الكلاوات , أي الخداع و الدجل و الضحك على الذقون). وبادئ ذي بدء , على القراء ان يطمأنوا الى أن كلاوات صديق توفيق هي من النوع اللذيذ, وبالتالي ممكن ان نطلق على صديق توفيق تسمية “الكلاوجي اللطيف” الذي أصلا فكر بان تكون تسمية هذا الركن ليس “كانتوات صديق توفيق”, انما “كلاوات صديق توفيق”.
هناك نوعان من الشعر: شعر القصائد كما لدى دانتي, هوميروس , باوند, المتنبي, شكسبير , وهناك “شعر اللاقصائد” وهذه تسمية صديق توفيق التي بها — اضافة الى أمور اخرى ستتبين في بحر أوديسيتيه الكانتوية الكلاوجية هذه والتي سيشير اليها حال حصولها– يدعي لا بل يطالب بحقه في أن يأخذ له مكانا قصيا على احد رفوف دكان الثقافة الحديثة.
سيعتمد صديق توفيق طريقتين سردويتين, هما طريقةبطلة مسرحية صموئيل بيكت في مسرحية “ليس أنا” التي بطلتها لا تشير الى نفسها بكلمة “أنا” انما بكلمة “هي”, وذلك لأنه ينطبق على صديق توفيق كلام المسرحي الطلياني الصقلبي لويجي بيرانديلو الذي علق عن نفسه قائلا في اخريات عمره المديد :”هناك شخص بداخلي عاش حياتي عوضا عني و انا لا أعرف عنه شيئا.” و الطريقة السردوية الأخرى التي سيعتمدها صديق توفيق هنا هي طريقة سقراط في دفاعه الشهير الذي دونه كلمة كلمة مريده أفلاطون و هو الدفاع الذي يستهله سقراط مخاطبا المحكمة قائلا :”لا يوجد لدي دفاع سبق لي و ان اعددته لكني سأتحدث اليكم بكل عفوية و صراحة و مصداقية بأول الكلمات التي ستخطر على بالي من دون سابق اعداد او تفكير”. ويقول سقراط مستطردا :”أيها السادة, اني أختزي من ان اذكر لكم الحقيقة.” و هكذا, فطالما الحقيقة مخزية , أفليس من حق صديق توفيق اللجوء الى روعة الكلاوات في هذه الكانتوات! ولكن لننتبه جميعا, الى ان بقدر ما هذه الكانتوات هي كلاوات , سنكتشف فيها كل الطرب و كل المرح و لعل, كل الحقيقة, لأن الأدب –بمعنى الأدب الرفيع الرائع الراقي –يقدم لنا الحقيقة في غلاف خيالات, أكاذيب و–كلاوات. والآن تم تبرير الجانب الكلاوجي لدى صديق توفيق , ولكن بقي الجانب الجمبازي فيه. الجمباز هو نوع من الرياضة البدنية التي تعتمد على النط و القفز , واكتسبت كلمة “جمبازي” معنى مجازيا لتسمية الشخص الذي يتلاعب بالالفاظ و الافكار فهو من نوع الحواة و المقمبرين (اي المستحوذين) على العيون حين القيام بأعمال السحر و الشعوذة بأستخدام حقيبة مليئة بالأدوات الخاصة بفنونهم. و ههنا سوف يسركم صديق توفيق بتقديم ما في حقيبة سحره من قراءات و تأملات و حكايات (انكدوتات) و مذكرات و ذكريات و اسرار عن الطبيعة البشرية اذ بأمكان صديق توفيق الأدعاء انه قطع رحلة (أوديسا) في أعماق القلب البشري و ههو عاد كالذي رأى عاد في ملحمةكلكامش كي يروي القصة كلها. وكما يقولون في الطائرة على وشك الاقلاع , يقول صديق توفيق :”شدوا الأحزمة.”
الاستاذ صديق توفيق بكر
المتخصص في الادب الانكليزي الحديث
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …