” لقد تعلمّت من الشاعر احمد شوقي الكثير الكثير .. ”
عبد الوهاب
لقد نال الفنان الكبير محمد عبد الوهاب شهرته على امتداد القرن العشرين ، ويعد واحدا من ابرز عمالقة الفن الموسيقي العربي الذي ساهم بتطوير بعض تقاليده ضمن مراحل زمنية معينة . وكان عبد الوهاب قد وصل الى مرتبة عالية في الابداع بالرغم من انتقادات عنيفة وجّهت اليه كونه قد استلهم ( ولا اقول سرق ) العديد من الالحان والجمل الموسيقية الغربية والشرقية من غيره .. كان مطربا شنّف الاذان والاسماع بقصائده واغنياته الجميلة التي غنّاها على امتداد سنوات حياته باستثناء مرحلة شيخوخته التي قّضاها في التلحين ولكنه اختتم حياته بغناء اغنية مطولة انشّدت لها الاسماع .. كما وّلحن جملة هائلة من الالحان والمقطوعات الموسيقية والاناشيد الوطنية والاغاني العاطفية لعدد كبير لا يحصى من المطربين المصريين والعرب .. لعل اشهرها تلك التي غّناها اشهر المطربين والفنانين المصريين .
حياته : جذوره ودراسته وتجربته
ولد محمد عبد الوهاب في القاهرة العام 1896 تقريبا ، اذ لا يمكن الوقوف على حقيقة سنة مولده ، وكان والده يتعاطى مهنة تعليم الأولاد في مسجد الشعراني بحي الشعرية في القاهرة ، فنشأ عبد الوهاب منشأ بسيطا بين عامة الناس ، وكان يجوب الحارات القديمة والأزقة مرتديا جلبابه البسيط مع اقرانه واصدقائه الصغار وهو يغني بينهم ، اذ عرف منذ صغره بتدفق صوته وحلاوته وجماله من خلال موهبته الفطرية الطبيعية ويقال انه دوما ما كان يقلق الجيران بصوته .. وكان هو نفسه معجبا بصوته هو ذاته . لقد لعب القدر لعبته وطرق الحظ بابه فجأة وبطريقة غريبة عجيبة قد لا تخطر على بال ، ذلك إن محمد عبد الوهاب قد تسلق سلم المجد اثر تجواله وارتياده رفقة اصحابه في الحي بعض الفعاليات الفنية ، اذ كانوا قد ذهبوا إلى تياترو ( = مسرح ) دار السلام بحي سيدنا الحسين لمشاهدة تمثيلية لفرقة فوزي الجزائرلي فدخلوا الصالة بعد أن دفع كل منهم عشرة مليمات ثمنا للتذكرة .
ولما انتهى الفصل الأول من الرواية وأسدل الستار على الممثلين قام هؤلاء الأولاد رافعين أصواتهم بالغناء ولكن هذا الغناء كان على سبيل التسلية والمرح فصفق لهم الجمهور سخرية واستهزاء غير أن رئيس الفرقة التمثيلية فوزي الجزائرلي لم يسخر منهم ، بل تقدم إليهم ودعاهم للغناء على المسرح مما أثار دهشة المتفرجين والمستمعين ولكن الطفل محمد عبد الوهاب اهتزت جوانحه وانفعلت قوائمه أمام هذه المفاجأة ووجدها فرصة ان يبيّن قدراته من دون ان يصيبه وهن او خجل ، فصعد على المسرح وراح يغني مع رفاقه فطرب الجمهور من فرقة الأطفال وصفق لها طويلا واستعاد أغانيها مرات ومرات فما كان من فوزي الجزائرلي إلا أن اكرم فرقة الأطفال بشلن كامل لكل واحد منهم وتكررت الزيارة في أيام أخرى إلى المسرح نفسه وتكررت الشلنات حتى أصبحت هذه الفرقة من مستلزمات مسرح الجزائرلي ومن ضرورات العرض الساهر وجزءا من كيان فرقة الجزائرلي !
وفي عام 1917 بعد وفاة الفنان الشيخ سلامة حجازي ، نجح نجله عبد القادر حجازي بتشكيل فرقة تمثيلية لتقديم الروايات الأدبية وكان عبد القادر حجازي يقوم بالدور الأول في التمثيل والغناء ولما كان صوته لا يؤدي المطلوب فكان يحرك شفتيه ومحمد عبد الوهاب يغني اللحن من وراء ستار ، ثم عمل محمد عبد الوهاب في فرقة الفنان عبد الرحمن رشدي مغنيا بين فصول الروايات إلى جانب المطربة فاطمة قدري قتلا للوقت ولم يكن له آنذاك معجبون يقدرون فنه وظل على هذا الحال يتنقل من فرقة إلى أخرى طلبا للرزق حتى عاد أخيرا إلى فرقة عبد الرحمن رشدي مرة ثانية وكان بين أفراد فرقته عبد الخالق صابر الذي شغل فيما بعد منصب وكيل وزارة الدفاع . وكان صابر يجيد إلقاء الأغاني البلدية والمواويل فشجع محمد عبد الوهاب على الغناء والإستزادة من معرفة هذا الفن وكشف أسراره .
انتسب محمد عبد الوهاب للمعهد الموسيقي الملكي الذي كان قد افتتح حديثا ، لكنه لم يمكث فيه طويلا اذ انتقل إلى معهد موسيقي خاص وكان يزامله فيه المرحوم مصطفى رضا وصفر علي اللذان احتلا فيما بعد ادارة المعهد الموسيقي الإدارية والفنية فاستفاد عبد الوهاب بعض ثقافته الموسيقية من تلك الدراسات ثم أكمل علومه الموسيقية على يد المرحوم الشيخ علي الدرويش الحلبي الذي تعاقدت معه حكومة القاهرة على التدريس في المعهد الموسيقي العالي وخبر النوتة الموسيقية وبدأ يستمع للموسيقى الغربية لأول مرة ويتأثر بها ..
أعماله عبر المراحل
غدا الفنان محمد عبد الوهاب يوظّف موهبته الموسيقية في خلق العديد من الانغام والجمل الموسيقية الجديدة ومر ابداعه بأربعة أدوار و مدارس ، اذ جعله الرأي العام هو المجدد الأول للغناء العربي :
فالدور الأول ظهرت فيه تجديداته للطقوقة المصرية ثم انطلق باغنيات ” يا جارة الوادي ” و ” كلنا نحب القمر” و ” بالله يا ليل تجينا ” و غيرها فكانت هذه الأغاني من نوع خاص يسميه الأدباء بالسهل الممتنع ، فشعرت الكافة و الخاصة بأن دماً جديداً قد جرى في عروق فن الأغنية العربية و أصبحت أغانيه على كل لسان تتردد ، فتزعمت هذه المدرسة مركز الطليعة في الميدان الموسيقي الغنائي و أصبح لها أنصار و مريدون و تهافتت شركات الاسطوانات على تسجيل أغانيه فانتشرت تتغنى على كل مسرح و أصبحت أغانيه هي المادة الرئيسية في الثقافة الفنية لكل مطرب و منشد وهاو للطرب !
أما المرحلة الثانية من مدرسته الإبداعية ، فتتمثلها الأغاني الوصفية أذ ظهرت أفلامه السينمائية و كان لها دوي هائل في ميدان الغناء العربي على الساحة العربية وفي اللون الوصفي الجديد الذي أتى به هذا الفنان الموهوب والوصف هو إدراك سر الكلمة و تلبيسها اللحن المناسب لها واعتمد محمد عبد الوهاب في هذا العمل على ذكائه أكثر من اعتماده و معرفته و لذا كان وصفه مجازياً أكثر من كونه حقيقياً وهكذا كانت بعض ألحانه في بقية أفلامه ممنوع الحب و رصاصة في القلب ثم في ألحانه التي كانت لغير أفلامه !
وفي الدور الثالث لهذه المدرسة الموسيقية أخذ عبد الوهاب يلحن القصائد الطويلة بأسلوب جديد يختلف عن الدورين الأولين فظهرت أغاني ” الجندول” و ” الكرنك ” .. وكانت حدثا جديدا في ميدان الغناء العربي ولكن هذه الأغاني على روعتها وعظمتها لم تنس الناس أغاني الدور الأول تلك الأغاني التي رفعت صاحبها إلى زعامة الميدان الموسيقي والغنائي عربيا .. إنها أغان لم يداخلها التصنيع في تركيبها ولا التقليد في هيكلها لقد كانت استمرارا لمدرسة الشيخ سيد درويش ولذا كانت قريبة من كل مزاج ومتغلغلة في كل نفس !
أما أغاني الدور الرابع ، فلقدت هبطت عن مستوى الألحان المألوفة في هذه الحقبة الزمنية ، ولكنها تبقى دوما فوق المستوى المألوف فهو صاحب مدرسة وصل في الماضي بإنتاجه إلى ذروة الجمال .. وليس معنى ذلك أن الأستاذ عبد الوهاب قد تناقصت مقدرته التلحينية فألحانه بقيت جميلة وبقي الرجل سيدا للتلحين وذروة في الميدان الموسيقي .
ابداعاته
لحن عبد الوهاب الكثير من الأغاني الخفيفة في بدء حياته الفنية ولكنه عندما تعرف على الشاعر الشهير أحمد شوقي فتحت له الدنيا أبوابا جديدة كانت موصدة أمامه فيما قبل فظهر لعبد الوهاب أحلى القصائد وأطرب الأغاني وأمتع الألحان والخلاصة أن محمد عبد الوهاب هو رائد الموسيقى في هذا الجيل وكانت ألحانه في أدوارها الأربعة ممتعة مطربة لسائر الأفراد على اختلاف أمزجتهم وطبائعهم وثقافاتهم ويعتبر من أساتذة الدور الرابع للمدرسة الموسيقية الحديثة بحق وامتياز بالرغم من تأثره بالحان غيره وخصوصا من الغربيين بل واقتباساته لجمل موسيقية كاملة منهم ، وهو بذلك اختلف عن كل من الموسيقار محمد القصبجي والشيخ زكريا احمد والفنان فيلمون وهبه .. انني اعتبر القصبجي هو الفنان الوحيد الذي بقي اصيلا في تجديداته للموسيقى العربية .. في حين كان حال عبد الوهاب كما كان حال سيد درويش من قبله ، او فريد الاطرش والاخوين رحباني وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي من بعده .. لقد تعامل عبد الوهاب مع اشهر الفنانين ، بل ويكاد يكون هو نفسه وراء شهرة العديد منهم . ولعل اروع الحانه هي التي قدمها الى نفسه ومن ثم الى فائزة ونجاة وعبد الحليم وصباح وورده وكان اللقاء بينه وبين ام كلثوم تاريخيا وبطلب من الرئيس جمال عبد الناصر ليقدما تاريخا مشتركا تجّلى اساسا في ” انت عمري ” .
خصال عبد الوهاب
تمّيز الفنان عبد الوهاب بخصال قلما تمّيز بها غيره من الناس ، فهو يهوى العزلة الى حد كبير ورفيقه الوحيد في زمنه الطويل عوده وما يسمعه من تسجيلات متنوعة من الموسيقى والغناء .. ولا يذهب الى الاخرين اذ جعل الاخرون يقصدونه .. يهوى النوم مبكرا ليصحو مبكرا ايضا ويعتني باكله وشربه ونظافته وكل شيىء من حوله لأن الوسواس يتملكه طوال حياته فهو له ادواته وحاجياته التي لا يمكن لبشر ان يمسسها ، ويقتني العطور وانواع الصوابين .. يراعي صحته بشكل غريب .. يخشى الموت ويرتعب منه ويكره الطائرات بشكل لا يصدق .. كان يهوى الاصوات وسماعها وله القدرة على تمييز الجيد منها بسرعة خارقة ..
وأخيرا اقول ، لقد كان عبد الوهاب حتى رحيله في العام 1991 ، فنانا موهوبا وقديرا احتل مساحته في تاريخ القرن العشرين بطوله ، ولم يزل وسيبقى ذكره على امتداد الزمن .
فصلة منت كتاب نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية للمؤلف سيّار الجميل
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …