ساكتب الان عن فنان مالىء الدنيا وشاغل الناس .. واذكر انني رأيته مرة واحدة وانا صبي صغير في واحدة من المناسبات الاجتماعية.. انه ناظم الغزالي المطرب العراقي الشهير الذي طالما رددت الاجيال العربية اغنياته والتي غناها بصوته الشجي وحنجرته الصادحة .. فالغزالي ذو صوت مؤثر وكلام معبر وقارئ للمقامات العراقية القديمة ، يثير بتؤوهاته الارواح ، ويزرع النشوة في الصدور .. يحلق بالانسان إلى فضاءات عالية من الرحابة والخيال كلما صدح صوته بالقصيد وانسجم مع روائع النغم .. كان يمتلك ملامح عراقية صرفة انيقا ووسيما ووصفه اصدقاؤه بعفة النفس ورقة الحاشية وحلو المعشر وجمال الابتسامة لا يرد احدا ولا يعرف اغتياب الاخر ولا طول اللسان .. كان خجولا وخصوصا امام المرأة .. كان يتأمل كثيرا في صنع الوجود مخلصا لاصدقائه وفيا لمناسباتهم يحترم الاخرين ويثمن كل الذين علموه او رافقوه من العازفين .. وبقي يعد نفسه تلميذا نجيبا في محراب فن الغناء العربي . وامتلك قدرة فنية هائلة في الغناء الصادح وهو يتحكم في مفاتيح صنعته كما وكانت له شجاعته في حفلاته العامة والخاصة .. وبقدر ما احب الشعر والشعراء فقد احبته الناس وعشقت صوته لحظة اندماجها معه ..
من يكون بين طفولة قاسية وتكوين مرير ؟
حدثّني صديقه الاستاذ الراحل عبد الباسط يونس بأن حياة الغزالي القصيرة ممتلئة بالمآسي؛ فقد ولد في العام 1921 يتيمًا، لأم ضريرة تسكن في غرفة متواضعة جدا مع شقيقتها في منطقة “الحيدرخانة”، ثم انتقلت بعد الولادة إلى منطقة أشد فقرًا، فكانت طفولته قلقة، غامضة، عاش فيها على الكفاف. وبمنتهى الصعوبة اكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة المأمونية انضم الى معهد الفنون الجميلة قسم المسرح باشراف الفنان الكبير الراحل حقي الشبلي، الذي احتضنه خلال دراسته في المعهد، لما رأى فيه من قدرة وطاقة في مجال التمثيل ، لكنه لم يستمر في دراسته بمعهد الفنون ، فالفقر كان ملازمًا له، وزاد الفقر حدة بعد وفاة والدته، ورعاية خالته لها وله، وهي التي كانت تستلم راتبا لا يتجاوز الدينار ونصف الدينار. هذه الفترة، أكسبته طموحا غير محدود وعنادا وإصرارا على إكمال الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية، التي واجهته، فطرق باب الوظيفة وعين مراقبا في مشروع الطحين بأمانة عاصمة بغداد في اوائل الاربعينيات. ولكنه عاد الى المعهد يبذل قصارى جهده ليحصل على أعلى الدرجات. شغف بسماع جميع فنون الغناء العربي في فترة الاربعينيات والخمسينيات، اذ كانت تلك المرحلة تزخر بالاصوات الجميلة . وانضم الغزالي إلى فرقة (الزبانية) للتمثيل وشارك في اداء مسرحيات درامية وكوميدية، ومنها مسرحية (مجنون ليلى) .. وقد لحن له حقي الشبلي اول اغنية، وهي عبارة عن مقطوعة يؤديها في المسرحية بعنوان (هلا هلا)، ولكنه لم يستمر في تمثيلياته اذ دخل دار الاذاعة العراقية باغنيته الأولى (هلا هلا) واردفها باغنية ثانية لحنها له الفنان وديع خونده ( الذي تسّمى في ما بعد بسمير بغدادي وتزّوج الفنانة مائدة نزهت ) ، اذ كان لها الصدى الجميل كسابقتها فاشتهر ناظم الغزالي شهرة عريضة وبين عامي 1947 ـ 1948 ، انضم عضوا في فرقة الموشحات التي يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش والتي تضم بعض المطربات والمطربين.أما قراءاته فجعلته يمتاز عن زملائه بثقافته، تلك الثقافة التي ظهرت عام 1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة “النديم” تحت عنوان “أشهر المغنين العرب”، وظهرت أيضا في كتابه “طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962″، كما ميزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، وجعلته طوال حياته حتى في أحلك الظروف لا يتخلى عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في الأيام التي كان يعاني فيها من الفقر المدقع . ومن الاصوات التي كان يهواها ويردد اغانيها صوت عبد الوهاب وام كلثوم وليلى مراد ..
الفنان الشهير
وفي صيف العام 1948 سافر ناظم الغزالي خارج العراق مع الوفد الفني للترفيه عن الجيش العراقي المتواجد في أرض فلسطين للدفاع عنها ضد العدو الصهيوني المحتل.. وتألق هناك في فلسطين وسوريا ولبنان . وعند عودته إلى بغداد تتلمذ على يد استاذه الفنان الكبير محمد القبانجي الذي علّمه اداء المقام العراقي واصول غنائه وتتلمذ ايضا على يد الموسيقار اليهودي العراقي روحي الخماش في دراسة العود وعلى يد الموسيقار المتميز جميل بشير في دراسة (الصولفيج) وتعلم النوطة الموسيقية وتدوين ما امكن تدوينه من الاغاني التراثية التي كانت قد تداولت في المجتمعين البغدادي والموصلي على امتداد القرن العشرين بفعل ملحنها الموسيقار المعلم الاكبر الملا عثمان الموصلي . وكان ناظم يعشق صوت المطربة العراقية اليهودية سليمة مراد التي اشتهرت بلقب ” سليمه باشا ” والتي كانت تمتلك صوتا ساحرا وقابلية هائلة في اداء الاغاني التراثية وقد عاش الاثنان تجربة حب عميقة انتهت بالزواج الذي لم يثمر عن اطفال ، وقد علمّته زوجته الفنانة المقتدرة الاغنيات الصعبة ونجح من خلالها في التعرف على الطبقة الارستقراطية البغدادية في ذلك الوقت وعشاق الحفلات والغناء.. فكان الثنائي الغنائي المحبوب والمتألق دائما في جميع الحفلات العامة والخاصة واصبح بيتها صالونا ادبيا يؤمه الشعراء والادباء والفنانون. وتعاقد في منتصف الخمسينيات مع شركة (جقماقجي) على تسجيل اسطوانات له وتعامل مع ملحنين وشعراء لهم ابداعهم وتجديدهم امثال الفنان ناظم نعيم والشاعر جبوّري النجار والموسيقار جميل بشير.. فاخذ هذا النجم يسطع ويتوهج في سماء الغناء العربي وملأ الآفاق شهرة وصداحا .
في الكويت حتى انبلاج الصبح !
وفي الأشهر الأولى من العام 1963 تلقى الغزالي دعوة من الكويت لاحياء حفلات غنائية فيها فاستعد استعدادا فنيا كبيرا ، وصحبه من العازفين كل من الفنانين : حسين عبدالله ( ايقاع )، وخضر الياس (الناي) ، وناظم نعيم ( كمان )، وسالم حسين ( قانون) وانضمت اليهم ايضا فرقة الاذاعة الكويتية. ولقد عدت حفلاته في الكويت من اشهر ابداعاته التي لاقت ترحابا وحماسا كبيرين ويقال انه استمر بالغناء والجماهير تطلب المزيد حتى انبلاج الصباح.. لما رأت الكويت تعلق الجماهير بناظم طلب منه المسؤولون آنذاك ان يمكث في الكويت لتسجيل بعض اغانيه ومقاماته للاذاعة والتلفزيون فبقي عشرين يوما.. وكما كان في الكويت كان في لبنان ايضا حيث احيا 35 حفلة كبرى وصغرى .. وصنف النقاد صوته ضمن الأصوات الرجالية الحادة “التينور”، وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية. بين أوكتاف ونصف وأوكتافين، يتراوح مجاله الصوتي، والأوكتاف أو “الديوان” بالعربية يتضمن ثماني نوتات أو درجات، وتنحصر حلاوة الأماكن في صوت الغزالي بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين، بهذا الشكل تكون مساحة صوت ناظم قد زادت على أربع عشرة درجة في السلم الموسيقي، ومع انفتاح حنجرته كانت قدرته غير العادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها .
نهاية مأساوية !
وساح بعد ذلك بجولة فنية اخيرة إلى اوروبا بسيارته الخاصة ترافقه زوجته المطربة الكبيرة سليمة مراد حتى وصل الى لندن واحتفت به الاذاعات العربية المتواجدة في أوروبا ثم عاد فمكث بعض الوقت للراحة والاستجمام في فندق نورماندي بالزيتونة على البحر في بيروت وعادت زوجته الى بغداد بالطائرة وسافر الى العراق ووصل وهو يقود سيارته بصحبة سالم حسين إلى بغداد الساعة الثانية بعد منتصف الليل وفي الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم 21/10/1963 توقف نبضه الى الابد فصعق العراقيون والعرب وشيع الى مثواه الاخير وهو لم يتجاوز الـ (42) سنة من عمره وكان في قمة ابداعاته . نعم قبل أربعين عاما من اليوم، تحديدا في الساعة الثالثة ظهرا أو عصرا، كسرت إذاعة بغداد القاعدة، وقطعت إرسالها لتعلن الخبر الذي امتد تأثيره ليصيب العالم العربي كله بحزن بالغ: خبر وفاة ناظم الغزالي. وتدافع الناس الافا مؤلفة إلى الشوارع ليسيروا في الجنازة التي جابت شوارع بغداد، ونقلت شاشة التلفزيون العراقي وقائعها كاملة. أربعون عاما مرت -إذن- على وفاة هذا الفنان ، ورغم ذلك ما زال يغني بيننا سواء بصوته المسجل أو بصوت مطرب يردد أغنياته، دافعا الأذن إلى استعادة ذلك الصوت الذي لن يتكرر أبدا .
فصلة من كتاب سيار الجميل : زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ
الرئيسية / فن وموسيقى / ناظم الغزالي.. مطرب العراق الشهير خالد الذكر ..فنان اصيل صاحب حنجرة رخيمة لا يمتلك مثلها غيره !!
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …