ها نحن في غمرة قاسية من تناقضات الواقع والتفكير ، بعد ان أصبحنا ازاء تحديات لا اول لها ولا آخر ، اذ باغتت عالمنا السمح قوى التعصب والانغلاق . وعندما انادي في مزامناتي الفكرية والنقدية باعادة التفكير في قضايانا من جديد ، ذلك لأن اجيالنا الجديدة بحاجة ماسة لذلك كله ، خصوصا وان الوسائل الاعلامية الحديثة تكشف يوما بعد آخر عن ازمة حادة من التباينات لدى النخب من ساسة ومفكرين ومثقفين عرب ومسلمين .. ناهيكم عن مشكلات في الفهم والوعي والادراك غير المتبادل ، وقد أفرزتها ذهنيات مركبة وانقسامات حادة ، وكلها تطفو على السطح بحيث تمنع ما يكمن في الاعماق من الابداعات والتجليات ! ثمة نقاط أساسية لابد من اثارتها ومناقشتها بهدوء ، خصوصا وان هذا العصر يمنحنا الثقة بأن ما ينفع الناس يمكث في الارض ، وأما الزبد فيذهب جفاء .. وقد آليت اثارة هكذا موضوعات لأنني على ثقة تامة بأن الامور ستستقيم على ايدي الاجيال القادمة .
ماذا عن قاسم أمين وتحرر المرأة ؟
لقد قرأت مؤخرا مقالة نشرت في مجلة مصرية عريقة وقد كتبت بقلم كاتبة معروفة تهين عن عمد وسبق اصرار الكاتب المعروف قاسم أمين ، كونه دعا الى حرية المرأة ! ولقد خرج نقدها عن الاسلوب المألوف في نقد التفكير الى اسلوب القدح والهجوم غير المسوغ ، بسبب من دعوة الرجل للمرأة قبل أكثر من مئة سنة للتعلم من المرأة (المتحضرة) الاوربية ، كونه قد اعجب بها على غرار أترابه من النهضويين العرب بالاوربيين !! وأنه سمى الاشياء باسمائها عندما وصف مجتمعنا أيامئذ بالتخلف والركود . ان الهجمة السافرة على رجل مفكر مثل قاسم أمين لا يمكن أن تفسّر تفسيرا حياديا ، بل تبدو هجمة مقصودة وعلنية على كل الرجال النهضويين الذين حملوا فكرا مستنيرا مدنيا صرفا برغم اختلافنا مع رؤاهم وتوجهاتهم .. ومن مصائب القدر ان تقوم هذه الكاتبة بالهجوم السيىء على مفكر دعا الى تحرير المرأة على صفحات مجلة مصرية عريقة كان قد أسسها قبل أكثر من مئة سنة أيضا رجل نهضوي آخر كان لا يختلف في تفكيره النهضوي والمدني المستنير عن قاسم أمين أبدا . ان الهجومات البذيئة التي نقرأها في الصحف والمجلات أو نسمعها ونشاهدها على شاشات الفضائيات التلفزيونية اليوم ، انما تأتي بمنتهى السطحية ، لأنها أصلا لا ترى في المرأة الاوربية الا الساقطة والمنحلة والعاهرة !! في حين لم يقصد قاسم أمين في مصر ولا الزهاوي في العراق الا التمثّل بالمرأة العاملة والمثقفة والمنتجة والمبدعة ، وما أكثرهن في أوروبا والغرب ، فليس كل امرأة اوربية وغربية ساقطة ومنحلة وعاهرة وداعرة كما يفهمها كل المنغلقين ، فهم لم يسمعوا بنسوة امثال : شارلوت برونتي واغاثا كريستي وهيلين كيلر الصماء البكماء العمياء التي انتصرت على الحياة مثلا ، ولم يفهموا ما اكتشفته مدام كورى او ما أبدعته سيمون دي فوار ، وصولا الى ماري شميل .. وغيرهن كثيرات من الاديبات والعالمات والمثقفات !
ليس الامر كما يتصور أغلب الناس في محيطنا العربي والاسلامي من أن المرأة الغربية سلعة تباع وتشرى ، ناهيكم عن أن وضعها قبل مئة سنة ليس كما هو وضعها اليوم أبدا . لقد كان لكل من الحربين العالميتين الاولى والثانية القاسيتين تأثيرهما البالغ في مجتمعات أوروبا الغربية والشرقية ، وعلى المرأة والاطفال بشكل كبير ! كما لا يمكن تطبيق قياسات تفكيرنا عن المرأة من خلال مظاهرها حسب ، فالمرأة عالم معقد ومخفي جدا ولكنه انساني رائع وجميل ، وان للمرأة ايضا ظروفها وتقاليد التعامل معها في كل بيئة اجتماعية من بيئات العالم . اننا لا نقبل ان تكون نسوتنا كالغربيات ابدا .. ولكن حبذا لو تعلمت المرأة عندنا الكثير من عادات وتقاليد وثقافات العالم ومجتمعاته وربما ثمة اشياء في الغرب تثري عاداتها وتقاليدها وثقافتها .. ولا أدري لماذا لم يفهم البعض بأن لكل جيل من الاجيال تقاليده ومناخه وأفكاره وأوضاعه وظروفه ؟ فلا يمكن أن تنتقد اليوم كتابات قديمة متقدمة على عصرها من وجهات نظر انغلاقية التفكير ورجعية الهوى وماضوية التفكير تحت ذرائع ومسوغات لم تجد لها سوقها الا في هذه الايام ! وكثيرا ما يغمض الاغبياء عيونهم عن الواقع ! وكم به من امتهان للمرأة واجحاف لحقوقها ومس بكرامتها .. وهذا ما لا يأمر به الاسلام الحنيف أبدا ! ولقد سمعت مؤخرا بأن مسلسلا تلفزيونيا يعد ويصور الان عن المفكرالنهضوي قاسم أمين ، آملين أن يناله التوفيق اذ لابد ان يعكس الحقيقة التاريخية المجردة بعيدا عن اية تخوفات او اجراء أي نوع من الاقصاء لفكر الرجل وتوجهاته ، فضلا عن مطالبتنا بأن تحترم نصوص الرجل احتراما كاملا وان لا يتم أي تحوير او تحريف في شخصيته او عن أي نص من نصوص تراثه الفكري . انني لست ضد النقد والنقاد ابدا ، ولكن لننقد الافكار والمعلومات بدل ممارسة الشتائم والسباب والتنكيل بالاخرين مهما كانت رؤاهم وافكارهم وهم في رحاب الله .
ماذا عن تفكير طه حسين ؟
قبل قرابة ثلاثين سنة وأنا على مقاعد الدراسة ، وبينما كنت أتحدث امام استاذي وثلة من زملائي في جلسة علمية استشهدت بعقل طه حسين ورجاحة تفكيره وترحمت عليه ، فانتفض ذلك الاستاذ وزاغ بصره وبدأ يدمدم مع نفسه كلاما لم أسمعه .. فقلت له : لم اسمع ان كان لديك ما تقوله ضده أو ضدي ؟ سكت على مضض خوفا من أن يسمعه بعض زملائه او طلبته وراح كل منا الى سبيله ! ومضت سنوات طوال على تلك المناسبة وقد عركتنا التجارب ، وغيرّتنا السنوات فالتقينا من دون ميعاد ليفاجئني بقوله : كان الحق معك يا سيار ، لقد عدت لأقرأ أعمال طه حسين ، فاكتشفته من جديد بعد أن كنت اسمع ضده من المتخلفين المتعصبين ، فشكرت له بادرته وعلقت قائلا : حبذا يعيد الجميع تفكيرهم من جديد !؟ قبل أيام ، كنت أسمع احداهن في حوار تلفزيوني على واحدة من القنوات الفضائية ، وهي من مدعيات الكتابة والادب غير المعروفات ، واذ بها تشن هجوما كاسحا وغبيا وبليدا مليئا بالشتائم ضد طه حسين وأعماله متهمة اياه بالالحاد وأنه ضد الاسلام وضد القيم وضد العروبة وضد العلم .. وانه (كافر غير مسلم) ـ كذا ـ وانه تلميذ المستشرقين وانه متأورب ومتفرنس وقد شوّه ثقافتنا الاسلامية .. الخ من التهم الرخيصة التي لا تستقيم لا مع قيم المعرفة ولا مع اصول النقد الادبي ولا الاخلاق الاسلامية الرائعة ! قلت مع نفسي : يا لتفاهة هذا العصر العربي .. كيف لم يتجرأ استاذ جامعي قبل ثلاثين سنة على النيل من ذكرى طه حسين امام طلبته ؟ وكيف تقوم اليوم كاتبة متخلفة بشتم طه حسين في قناة فضائية على العالم كله ؟
انها حالة خطيرة تعبر عن ظاهرة أخطر تغزو حياة ثقافتنا العربية وتفكيرنا الحضاري الاسلامي اليوم ، في ان يتعّرض اناس لا يفكرون بشتيمة رجال مفكرين حقيقيين .. من دون ان يقرأ اولئك الناس أبدا قراءة جادة ما كتبه ابناء الرعيل النهضوي الاول من اعمال متميزة رفدت حياة الفكرالعربي الحديث . ولعل أبرز صفة تميز بها طه حسين نفسه انه جمع بين خبراته وتمكنه من التراث الادبي والتاريخي العربي الزاهر وبين حداثة العصر ومدارسه ، وان دوره لا يقتصر على ما انتجه لنا من كتب واعمال متميزة في التاريخ والنقد والفكر ، بل كان استاذا جامعيا قديرا عمل على تطوير المناهج العلمية في جامعة فؤاد الاول ( القاهرة حاليا ) وكان حريصا عندما كان عميدا لكلية الاداب والعلوم فيها على ان يتسلح المتخرج بثقافة عليا وافق واسع وعلم وأدب ومعرفة بالزامه دراسة الفلسفة والمنطق ، لا أن يكون المتخرج صاحب مظهر تافه يحمل شهادة ورقية وهو فضفاض وهزيل في عقله وتفكيره !!
ماذا قدم رجالات الاستنارة العربية ؟
بعيدا عن الغبن الذي يحيق بهم اليوم على ايدي البعض من الانشائيين والمتخلفين المتكلسين ، لابد من القول ان المستنيرين الاوائل خدموا ثقافتنا الحديثة باساليب متنوعة منذ عشرات السنين ، فاذا كان طه حسين قد دعا الى التغريب في بعض كتاباته ، الا انه قال بجملة مبادىء أساسية ومعرفية اصيلة في كتابات اخرى له ، وحتى ان اختلفنا مع بعض افكاره ، او مع من اطلق عليه صفة (عميد الادب العربي) ،الا أن حصيلة ما قدمه الرجل سواء في خدمته للتراث العربي عموما كافية كي تكون علامات متميزة في ثقافتنا الحديثة بحق وحقيق .
واذا كان قاسم أمين من قبله قد دعا الى تحرر المرأة من قيودها ، فليس معنى ذلك انه دعا الى الاباحية والى الدعارة والمحرمات .. والعياذ بالله ! لقد أراد أن يخّلص المرأة مما هي عليه ، وأن يجعل نصف المجتمع له حركته وله حقوقه المعنوية والمادية .. وان تساهم المرأة الى جانب الرجل في صناعة الحياة الكريمة بفعاليتها النظيفة : السياسية والاجتماعية والعلمية والخدمية والمدنية . كما أراد ان يقضي على التخلف الاجتماعي بأن تعي المرأة مسؤولياتها وحقوقها في الحياة .. ومن أغرب الحالات ان يدعو ذلك النهضوي الى تحرر المرأة من أغلالها وتخلفها قبل أكثر من مئة سنة .. ونأتي نحن اليوم لنهاجمه بكل قسوة وقد ازدادت نسبة الامية عند المرأة في محيطنا العربي والاسلامي لكي تصل الى سبعين بالمئة !
ان أبرز مظاهر تخلفنا العربي والاسلامي التي غدت واضحة للعيان لكل ذي عقل راجح ، ان تجد البعض ممن يكتبون ويتقولون أو يسبّون ويشتمون رجالاتنا النهضويين المستنيرين وهم لم يقرأوا أعمالهم في اصولها ، وان قرأوا ، فليس لهم أي بعد للنظر أوالافق الواسع .. وانهم لم يعرفوا تاريخنا ، ولم يتعمقوا في فهم مجتمعاتنا وهم سطحيون ليس عندهم الا الجعجعة واللعب بالكلمات والهروب الى النصوص ، اذ سيطرت عليهم بعض الافكار المتجمدة سيطرة عمياء فاوقفت تفكيرهم عن كل التطلعات واعمال العقل وانهم يستخدمون الدين غطاء لهم وهم من ابعد الناس عن فهم الاسلام وعلاقته بالتجديد والحياة .
وأخيرا أقول : هل باستطاعة العرب أن يعيدوا قراءة تفكيرهم من جديد من أجل أن يختزلوا الزمن فما هو أصيل وحقيقي سيبقى مهما كانت قوة الهجمة عليه ، وما هو ضعيف هزيل فسيطويه الزمن تحت طياته .. وعند ذاك سيقول العقلاء كم اتلفنا من الزمن وكم قسونا على رجالات استنارتنا الاوائل الذين اضاءوا الشموع العسلية في الظلام الدجي.
نشرت في ملحق ألف ياء ، الزمان اللندنية ، العدد 1248، الاثنين 1 تموز / يوليو 2002.*
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …