” سوف لن ابالي .. لأن الدماء تخط تاريخ الوطن ”
جبران تويني
عرف المتخلفون والشوفينيون والارهابيون البدائيون التوحّش ضد كل من يعارضهم ويخالفهم الرأي منذ زمن بعيد فهم يختطفون ويعذبّون ويقتلون .. واليوم يفخخون ويفجّرون ويقطّعون الاوصال ويستخدمون كل وسائل الموت لاسكات من يختلف معهم أو يعارضهم من الساسة والاعلاميين والمثقفين الاحرار .. واذا كانت بقية مجتمعات الدنيا اليوم قد تخلصت من الوحوش ومن صلفها وبدائيتها وشراستها ، فان العرب الاحرار ما زالوا قيد الافتراس من هذا او ذاك .. ولكن الزمن كفيل بهزيمة كل التوحّش والارهاب وستختفي كل الموبقات السياسية والايديولوجية والتوتاليتاريات الشوفينية العربية وغيرها ليطل عصر جديد يستعيد العرب فيه كرامتهم وقيمهم الحّرة مع الاخرين وقبل ذلك يرجعوا اخلاقياتهم العالية في التعامل مع بعضهم البعض .
سوف لن يكون زعيم الكلمة الحرة صديقنا الراحل الفقيد جبران تويني آخر المثقفين والاعلاميين العرب الاحرار الذين يودعوننا فجأة بلا استئذان .. بل سيمضي في ركب القافلة آخرون من الذين لهم من ضروب الشجاعة ما يجعلهم يقولون ما يريدون ويفعلون ما يقولون .. ولهم الثبات على مبادئهم الراسخة التي تربوا عليها منذ صغرهم .. وما آذى جبران أحدا ولا ظلم احد عندما كتب مقالاته الساخنة في النهار او صدح بخطاباته القوية في وضح النهار .. بل انه نافح بكلمته من اجل وطنه واستقلال بلاده .. ليس اّلا ! وسوف لن تنفع كل التبريرات التي يقدّمها هذا او المسوغّات التي يدفعها ذاك .. قال لي في آخر لقاء لي معه : ” ان سفح دمه من اجل قضيته العادلة .. فسوف لن يبالي لأن الدماء تخط تاريخ الوطن ” .
عرفت الفقيد منذ زمن بعيد ، عرفته مذ بدأت انشر مقالاتي الاسبوعية في صحيفة ” النهار ” الاغر ببيروت قبل قرابة خمسة عشر عاما .. وتابعت مقالات جبران الواقعية عن كثب اذ كانت له مقالته الجريئة التي يحرص ان تكون في مكان خاص بها في صحيفته النهار .. وتمتع الرجل بنبوغ اعلامي قل نظيره ، فهو سليل عائلة ارثودكسية لبنانية عريقة مثقفة عالية المستوى في تفكيرها ومبادئها وقيمها الحضارية .. وجبران الفقيد حفيد جدّه جبران تويني الكبير مؤسس النهار البيروتية قبل عقود طوال من الزمن ، وهو الابن البكر للاستاذ الكبير غسان تويني الذي كان ولم يزل شعلة وقادّة من الابداع الفكري والتحليل السياسي .. لقد نهل جبران الابن من ابيه وجدّه وعرف كيف يلمع على صفحات النهار بكلماته التي يصوغها بلغة خصبة المعاني وهو يؤجج من خلالها كل القراء والمهتمين والساسة والمثقفين لما تحمله مضامينها من فكر حر ومباشرة معهودة .
ان الوحوش العربية لم تلد من فراغ ولم تولد من عدم .. انها سائبة منذ خمسين سنة تنهش في البلاد والعباد من دون ان يتجّرد أحد للوقوف بوجهها .. ان الذين وقفوا بوجه الوحوش الكاسرة لقوا نفس المصير بل ابشع منه في بعض الاحيان .. تلك الوحوش الضارية التي لا تريد ان يعترض عليها أحد ولا ان يخالفها احد ولا ان ينتقدها أحد ولا حتى ان ينصحها احد .. وحوش تعد الكلمة الحرة اعدى اعدائها وقد استخدمت على مدى تاريخها الطويل من حياتنا العربية كل وسائل القهر والعهر والقتل والتغييب حفاظا على ما تريد .. ان الوحوش الكاسرة تجدها في حالة وعندما تفترس تجدها في حالة اخرى .. ولقد وصف احد الاصدقاء مصرع الصديق جبران تويني انه حلقة مأساوية في سلسلة من قافلة الشهداء الاحرار الابرار الذين ذهبوا ضحايا الوحوش الضارية وباساليب غاية في القساوة والالم .
ان ما يقضّ مضجع اي وحش قاتل ما أنتجه قلم جبران من كلمات رددتها الجماهير التي اعلنت ولاءها لكلمة حرة ولتربة وطن ولارزة جبل وروشة بحر ومزرعة جنوب وسهل اعناب وبوابة شمال .. كان الصديق جبران يعيش حلما جميلا وهو يحادثني عندما التقيته قبل ايام من رحيله كان يتكلم وانا مصغيا اليه وبرفقتنا اصدقاء من المثقفين العرب والاجانب .. رن جرس التلفون ليسألني صديقي الاستاذ سمير ابو علي ان ارافق اصحابي في جلسة سمر وعشاء ، اجبته قائلا : دعني اليوم فأنا في صحبة صديق قديم هو جبران تويني . كان جبران يرسم ابتسامة عريضة على محياه .. قلت له : بماذا تفكّر ؟ قال : اصوات تزمجر بالقرب مني وكأن الاشجار تبكي .. وكأن الغيوم تتدفق بكل ما لديها في هذه اللحظات الصعبة .. تركته يرسم بشفتيه مرثيته الحزينة ! وعندما ودعته ، قلت له ان يخفف من حدة كلامه ، فاجابني : وهل تقبل ان امسك اليوم العصا من الوسط بعد كل هذا النضال ؟ قلت : لم تخلق الا ان تقول كلمتك الحرة يا ابن النهار الاغر ..
مّرت الايام ثقيلة على نفسي وكنت اتخوّف ان يصيب جبران مكروه .. وفعلا ، صعقت وانا اسمع خبر مصرعه .. نعم ، بعد ايام مثقلة بالهموم والاكدار ، وانا ادخل بهو القسم العلمي نادى علّي صديقي سمير ابو علي قائلا : لقد فجّروا صديقك جبران تويني هذا الصباح . صرخت : لا !!!!! هل فعلتها الوحوش الكاسرة مرة اخرى ؟ صحت : لقد فقدانك يا جبران .. وامتعق لون وجهي ومشيت على غير هدى لا الوي على شئ وانسلت دموعي بحرارة ، ومات صوتي بلا صدى ، ولم ار الاطيار العربية الا وقد طارت من فوق الاشجار وهي تغني اغنياتها الحزينة كعادتها .. مشيت على غير هدى ثم عدت لاكتب كلمة عزاء !
مرّت الذكرى كأشباح سوداء وارتسم جبران وكأنه يرسم شهادته الحرة على صفحة نقية من تاريخ لبنان المضمّخ بالدماء الزكية منذ قرون خلت وعبر سنوات مضت .. وكأن جبران يدرك ادراكا عميقا بأن الوحش قد اقترب منه ، وقد ادرك قيمة مجابهة كل مخالب التوحش وكل رعونة الهمجية وكل بلادة السفاح .. وكأن صوت جبران يناديني مرة تلو اخرى من وراء الغيوم البيضاء ويقول : ها انا ذا لقد رسمت خطّا جديدا من الحرية الحمراء وسيقف عنده أنصارها ليزرعوا زهورا ونرجسا واقحوانا وليكبروا جيلا بعد جيل ليعلنوا للعالم عن دورهم الحضاري .. اما الوحش ، فلقد اختفى لبرهة حتى يتخطف بقية الاحرار من دون ان يعلم بأن الاحرار سوف لن ينتهوا ابدا من فوق ترابهم ابدا .. وسيأتي اليوم الذي يحتفل فيه العرب جميعا من نهاية كل الوحوش الضارية .. وسيبقى الاحرار يعشقون الحياة في عز النهار وتحت وهج الشمس الساطع .
الصباح البغدادية ، الخميس 23 ديسمبر 2005
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …