شعبٌ يُجاعُ وتُستدرُ ضروعُه ولقد تُمار لتحلبَ الأغنـام
وتعطّل الدستورُ عن أحكامِه منْ فرْطِ ما ألوى به الحكام
فالوعي بغيٌ والتحررُ سُبّةٌ والهمسُ جُرمٌ والكلامُ حـرامُ
محمد مهدي الجواهري
نعم يا سيد الشعراء العرب ، لقد غدا الوعي بغي والتحرر سّبة والهمس جرم والكلام حرام عند البعض من العراقيين ممن لم يمتلك مفاتيح التفكير او المنطق او الافق المفتوح وعند من يخلط الاخضر بسعر اليابس وعند من لم يقّدر الناس واتعابهم وجهودهم ونضالاتهم حق قدرها .. وعند من يهيم ذات اليمين وذات الشمال وعند من اغرقته العواطف ولم يعد يمّيز بين الغث والسمين .. وعند من يؤول الافكار الصائبة ويزّيف المعاني ويحّرف المعلومات ويضلل الناس .. وعند من غدا يشّوه تاريخ العراق ومجتمع العراق ومناطق العراق عن قصد وسبق اصرار .. وعند من يتكلم باسم الشريعة والجهاد وكأن العراق لم يكن بلدا يعمل بالقوانين الوضعية منذ القدم في كل أوصاله ومفاصله .. وعند من يقتل العراق بقتل العراقيين وذبحهم باسم الجهاد وتحت مظلة التحّزب للدين !! ثمة خصال وقيم عراقية راقية وعالية المستوى لم نعد نجدها عند اصحابها العراقيين الذين تمردّوا حتى على ذاتهم واصولهم ولم تعد تحركّهم الا الكراهية والبغضاء والاحقاد نتيجة ما صادفوه عبر السنين العجاف .. بل وخلقت مفاهيم وتعابير وتقاليد لم يألفها العراقيون ابدا لا في مدنهم ولا اريافهم ولا حتى في بواديهم !! فهل سينجح العراقيون في اخطر عملية تحدد طريقهم نحو المستقبل ؟ هل سينجح العراقيون في الاتفاق على دستور دائم لهم وللاجيال من بعدهم ؟ هل سيعملون على البدء بمشروع حضاري عراقي كنت اتأمّل حدوثه منذ سنوات مذ كتبت عنه قبل او بعد سقوط الطاغية ؟ وعليه اقول متسائلا :
تساؤلات عن قيم ومبادئ
من لا يؤمن بالافكار الحرة وبالمبادئ الدستورية الحديثة وبالمساواة والتحديث السياسي .. فلا يتشّدق بالدستور وشعاراته .. من لا يؤمن بالمواطنة العراقية مرجعية اساسية له ويعمل من اجل حياة العراق ويدافع عن مصالح كل العراق واعلاء شأن كل العراقيين ، فلا يتعبنا ويتعب نفسه بالدستور .. من لا يؤمن بالمبادئ الدستورية المدنية وبالقانون المدني الاساسي للبلاد .. فليذهب يبحث له عن مشروعية اخرى غير ما تعارفت عليه (الدساتير) في كل هذا الوجود .. من لا يدرك معنى المسألة الدستورية وتواريخها الحديثة منذ مائتي سنة في كل تجارب هذه الشعوب المعاصرة ، فليترك مكانه للاخرين في لجنة صياغة دستور العراق ..
من يريد ان يجمع نقائضه بين الدين والدنيا .. اي بين الشرع والقانون في دستور العراق يصدر في مطلع القرن الواحد والعشرين فسيجنى جملة هائلة من التناقضات التي ستجني بدورها على العراق وكل العراقيين .. من يريد ان يستغل الظروف الصعبة كي يشّرع لنفسه وحده دستورا يحتكر فيه ما له وما لغيره في الزمان والمكان ، فليدرك بأن الفشل سيلاحقه منذ ان يدق مسمارا واحدا في نعش العراق – لا سمح الله – .. من يريد الاستحواذ باسم الدستور على زمنه وزمن الاجيال القادمة كي يرتهن ارادتها تحت اي مظلة كانت ، فانه سيجني على العراق والعراقيين ..
من لا يؤمن بالعملية السياسية خالصة من اي مرجعية الا مرجعية العراق ويفصل من خلالها الدين عن الدولة ، فلقد زرع اسفينا في قلب العراق ودق خازوقا غليضا في تاريخ العراق لا يمكن شلعه بيسر وسهولة .. من لا يؤمن بالعراق ووحدته ومركزه واطرافه وارضه وسمائه وهوائه ومائه من شماله حتى جنوبه .. فليترك العمل بالدستور ولا يشغل باله بالتصويت عليه .. من لا يؤمن بالسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ومن ثم بالرأي العام ويرسخ مبدأ الفصل بينها في الدستور فهو بعيد جدا عن الحياة الدستورية الحقيقية .. من لا يطمح ان يجعل كل العراقيين شركاء في وطنهم وحكم بلادهم دستوريا .. فلا مكان له في دستور يثلمه ببنود جائرة لا دستورية اصلا ..
من لا يؤمن بالاعلان العالمي لحقوق الانسان والحريات التي تضمن للانسان في العراق حقوقه الوطنية والمدنية والفكرية والعقائدية والشخصية وتكرّس واجباته .. ومن لم يستفد من تجارب ودساتير الشعوب الاخرى الحديثة فلا يعتبر نتاجه اذ ذاك دستورا حقيقيا .. من لا يؤمن بمحو كل اشكال التمييز على اساس المعتقد والطائفة والعرق واللون والجنس والانتماء القومي ، فلا حياة دستورية في العراق .. من لا يؤمن باعطاء كل العراقيين حقوقهم المدنية والقومية والاجتماعية والخدمية والمعاشية والتعليمية والثقافية فهو باق على نفس النهج الذي ساد في القرن العشرين .. من لا يؤمن بحماية وحقوق المرأة العراقية والطفل العراقي والمساواة بين الرجل والمرأة من الناحية المدنية في الحقوق والواجبات فلقد أخّل بالقيم الدستورية الحديثة . من لا يؤمن بالعراق وطنا حقيقيا له ويّقدم عليه عرقه وطائفته ومذهبه وقوميته .. فلا يتشّدق باسم العراق ولا يتكلم باسم العراقيين ..
المحور الاول : العراقيون والعملية الدستورية
1/ المسألة الدستورية تشغلنا نحن العراقيين
نعم ، تشغلنا نحن العراقيين جميعا اليوم مسألة الدستور ، خصوصا وان العملية الدستورية هي اصعب بكثير من العملية السياسية وأخطر منها ، اذ انها ستحدد مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع العراقيين ، فضلا عن كونها ستحدد العلاقة بين السلطة والزمن ، اي انها ستكون سلطة زمنية بحق وحقيق ، ام انها سلطة مراوغة تتلاعب بالدستور من اجل مصالح معينة ؟ ناهيكم عن كونها عملية ستحدد علاقة القوى الاجتماعية العراقية بعضها بالبعض الاخر ، وهي مسألة خطيرة .. ان المجتمع العراقي له خصوصياته وتعقيداته ومشكلاته المعاصرة التي اورثتها اياه معضلات تاريخية صعبة باعتباره شكّل مركزية التاريخ العربي الاسلامي لأكثر من ستة قرون .. وعاش ستة قرون تالية على كل تلك الموروثات التاريخية ، فبقدر ما كانت مركزيته تطغى على كل الاطراف سياسيا وحضاريا ، فلقد دمّرته تلك الاطراف على مر الاحقاب والعصور ، وهو بحاجة اليوم الى اعادة استكشاف نفسه بعيدا عن كل المألوفات البليدة ، واذا ما اعاد انفتاحه على العالم فسينطلق من جديد ، وبعكس ذلك فسوف يبقى يصارع نفسه بنفسه وفي الوقت ذاته يتلقّى التحديات من كل الاطراف .
انني اتابع بشكل يومي تقريبا مشاركات ومقالات ومداخلات وحوارات العديد من الاخوة الساسة والمثقفين العراقيين حول هذه المسألة الدستورية وخصوصا تلك التي شارك بها كل من عدد من الاساتذة الاصدقاء في الاسبوعين الاخيرين : جاسم المطير واسامة مهدي وعبد المنعم الاعسم وامير الدراجي ورشيد الخيون وحمزة الجواهري ورياض الامير وعبد الخالق حسين وجلال الماشطة وزهير الدجيلي وزهير كاظم عبود وخالد عيسى طه وخالد القشطيني وبلقيس حميد حسن ولميس كاظم وجمال الخرسان ومنذر الفضل وتيسير الالوسي واكرم الحمداني ووسام السيد طاهر وهادي المالكي .. وغيرهم اضافة الى عدد من الكتاب العرب المنتشرين في هذا العالم . وهنا أهيب بلجنة كتابة الدستور العراقي ان تستوعب حصيلة الاراء التي يدلي بها ابناء النخب المثقفة وخصوصا من العراقيين الذين لهم تطلعاتهم ومعلوماتهم وافكارهم التي حتى وان اختلفت جلها مع توجّهات اعضاء اللجنة الموقرة ، فان من الواجب الاستئناس بها ، خصوصا وانها تتعلق بمستقبل البلاد وبالرؤى المنفتحة على تجارب متنوعة .
2/ المسألة الدستورية : باب واسع نحو المستقبل
سيدخل كل العراقيين حالة جديدة وهم في خضم مخاض تاريخي صعب اذ ينشغلون اليوم بالمسألة الدستورية التي ستأخذ منهم جهدا ونضالا وسيخوضون صراعا خصوصا اذا علمنا بأن هناك اتجاهات فكرية وسياسية ودينية وقومية وطائفية واجتماعية وسايكلوجية تتصارع جميعها من اجل تحقيق اهدافها في قانون البلاد الاساسي الذي سيحدد مستقبل العراق والعراقيين في المرحلة التاريخية الجديدة ، فالمسألة الدستورية هي التي اعتقد بأنها ستلبس طبيعة ثوبها للعراق الجديد . ويمكننا ان نفرز اتجاهين اساسيين وتيارات متعددة يشكلها صراع القوى العراقية حول المسألة الدستورية :
اولا : الاتجاه الديني الذي يجمع كل القوى والاحزاب الدينية الشيعية والسنّية والتي يجمعها برغم كل الفوارق الدينية والطائفية موضوع ( الشرع الاسلامي ) والذي تريد تكريسه عن ايمان حقيقي به او لاستخدامه ورقة من اجل مصالح معينة ، وسواء كانت تلك القوى والفئات متزمتة المواقف ام اصلاحية الرؤى فانها جميعا تستمد قوتها من القواعد الشعبية التي يغيب عنها الوعي الدستوري والمفاهيم السياسية الحقيقية .
ثانيا : الاتجاه المدني الذي يجمع كل القوى والاحزاب السياسية والنخب العلمانية التي يجمعها برغم كل الفوارق السياسية والايديولوجية موضوع ( فصل الدين عن الدولة ) والذي تطمح عن ايمان حقيقي به او لاستخدامه ورقة من اجل مصالح معينة ، وسواء كانت تلك القوى والنخب راديكالية المحتوى ام ليبرالية الرؤى ام قومية النزعة .. فانها جميعا تستمد قوتها من حداثة تفكير النخب السياسية والمثقفة التي تتمتع الى حد كبير بالوعي السياسي والمفاهيم السياسية الحديثة .
ان اي عراقي يخرج عن هذين السربين ليغّرد بعيدا عنهما فاما يكون غير مؤمن بالعراق جغرافية ومستقبلا ، واما يكون مغاليا ومتعصبا لموقف او عهد او ايديولوجية ودين .. واما يكون من انصار العهد السابق الذي افتقد مصالحه ويطمح ساعيا بشتى الوسائل لايقاف عجلة العملية السياسية برمتها ( وبضمنها العملية الدستورية ) .. واما ان يكون قد تضّرر جدا من كل هذه التحولات وافتقد الوعي باهمية متغّيراتها ولم يعد يهمّه اصلا كل ما يجري من تطورات او تراجعات معا!
3/ نحن والدستور والعالم
إن نظرة العراقيين لأنفسهم وللعالم لابد ان تتغّير تغييرا جذريا من خلال القانون الاساسي الذي سيجتمعون عليه واعتقد انهم بأمس الحاجة الى ركائز أساسية تتقدمها محاولتهم نزع اي احقاد او ضغائن تستشري في ما بينهم منذ ازمان طوال وخصوصا تلك التي استشرت تحت الرماد ومنذ قرابة خمسين سنة وبالذات على عهد البعثيين الاول القصير وعهد البعثيين الثاني الطويل .. على العراقيين ان يكفوا عن مناورة بعضهم البعض من اجل تحقيق مكاسب تافهة طائفية او حزبية او فئوية او جهوية او عشائرية او حتى شخصية ويتركون الباب مفتوحا لخصومهم الحقيقيين الذين يتربصون بهم الدوائر من وراء الحدود .. عليهم ان يدركوا الفرق بين السياسة الشرعية والسياسة المدنية واين تكمن حاجة العراق بكل الوانه وتنوعاته وتعددياته واطيافه بعيدا عن تفاهة او بلادة وسم السياسة المدنية بالتغريب او التأثّر بالغرب وكأن العالم كله لم يعمل بمنتجات الغرب المعاصرة .. عليهم ان يدركوا بأن الجميع سواسية وان المساواة لا توفرها الا الحياة الدستورية المدنية .. عليهم ان يدركوا بأن اي فقرة غير معلمنة واي بند يكرّس غاية دينية او طائفية او مذهبية فسيثير ذلك النقمة والاحتدام والكراهية .. عليهم ان يدركوا بأن السياسة المدنية سترضي جميع الاطراف العراقية ، اذ لا يستطيع كائنا من كان ان يفرض اجندته على الاخر من العراقيين تحت اي مظلة او اي مرجعية او اي باب .. عليهم ان يدركوا بأن ثمة مرجعيات عدة في العراق يمكنها ان تهدي الى الصراط المستقيم وتدلي برأيها ولكن تبقى مرجعية العراق هي فوق الجميع .. عليهم ان يدركوا كيف ينظمون اساليبهم السياسية الداخلية والخارجية كي تغدو قيما عراقية يحترمها العالم كله .. عليهم ان يتعلموا من خلال دستورهم كيف يمارسون حياتهم وما هي فنونهم وطقوسهم وكرنفالاتهم وتقاليدهم الفكرية والسياسية ، اذ تبقى قيمهم وتقاليدهم الاجتماعية والدينية والمذهبية خاصة بسيرورة المجتمع لدى كل فئة وعند كل مذهب .. عليهم ان يتوقفوا عن هوس الدعاية الدينية المسيطرة اليوم إعلاماً وتعليماً ومنهجا وتربية وسلوكا سياسيا يثير نقمة الناس .. عليهم ان يدركوا بأن العراقيين سيصطدمون بمشكلات مستعصية على الحل ان ابقى النظام السياسي الجديد هذا الهوس الديني في العملية السياسية .. ربما تستفيد منه احزاب وقوى متعددة ، ولكنه سيهجم العراق حجرا فوق حجر من الناحية الاجتماعية ، وهذا ما يبدو واضحا من خلال ما يسجله بعض الشباب الذي يغالي بنزعته ضد العراقيين انفسهم . ان الارهاب لا يمكن اجتثاثه الا بالاحكام المدنية وان الطائفية في العراق لا يمكن انتزاعها الا بمشروع مدني حضاري يسمو فوق كل الجراحات .
المحور الثاني : من اجل مبادئ دستورية عراقية
1/ الضرورات الاولى
ان العراقيين من المتنورين جميعا يدركون ويعترفون جميعا بأن لديهم في العراق الجديد شيئاً ما خاطئاً وخطرا وفاسدا ورثوه عن نظام الحكم السابق ، وأدى إلى كل الانحطاط والتخلف لحد الازدراء والتحقير من قبل العراقيين انفسهم .. ويطمح كل العراقيين بأن العراق سيتفوق بسرعة في مشروعه المدني الحضاري ويحقق الاعاجيب في العلم والارتقاء والحريات وحقوق الإنسان اذا ما اعطي للعراقيين كل الحرية والتفكير المتمدن وممارسة كل الاساليب المدنية وعلى اسس ومبادئ دستورية معلمنة .. ان العراقيين يدركون بما لا يقبل مجالا للشك بأنهم سادة انفسهم ولا يمكن ابدا ان يكونوا تحت اي وصاية او انتداب او احتلال .. انهم اهل للشراكة مع كل هذا العالم ولكن ضمن حياة مستقلة كريمة .. انهم يدركون بأنهم من اكثر الناس اليوم في هذا العالم من عاش اصعب الاحداث التاريخية المريرة ، فلقد عاينوها ولامسوها وعاشوا كل الاوصاب والمآسي عبر سنوات عجاف لم يألفها اي شعب من الشعوب وانهم اكتووا بنار الحروب وعرفوا الظلم بكل اشكاله وابعاده رجالا ونساء واطفالا .. انهم بحاجة لا اقول الى استراحة تاريخية لجندي محارب ، بل الى تحول نوعي الى مشروع حضاري لعراق الاذكياء .. انهم يدركون انهم اول من اعطى البشرية اول قانون في هذا الوجود .. وبالرغم من انهم ما زالوا يعيشون في ارض الشمس ، فلا يمكن لحمورابي هذا العصر العراقي ان يستمد دستوره اليوم من نفس تلك الشمس ليسجلها على مسلّة القرن الحادي والعشرين ! انهم يدركون جيدا معنى الحريات وحقوق الإنسان ولابد عليهم ان يدركوا بأن لا طريق امامهم ولا مستقبل لهم الا بالاستفادة من تجارب كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان وتركيا وكوريا… إلخ، وان يدخلوا كما دخلت هذه الدول الحداثة الحقوقية متأخرة فإنها بلغت ما أرادت ، وسيبلغون ما يريدون ، وبعكسه فانهم سيسجلون جملة تناقضات شنيعة ستحرمهم زمنا اخر من فرص التقدم الحضاري والتسارع التاريخي .. ان اي بنود تحجّرهم وتضع العصا في عجلتهم ستزيد من تناقضاتهم واحقادهم وانقساماتهم .
2/ مسؤوليتان خطيرتان : صياغة الدستور والاستفتاء عليه
ليست عملية صياغة الدستور بعملية خطيرة حسب ، بل الاخطر يكمن بالاستفتاء عليه خصوصا اذا ما علمنا بأن ثمة اوراق نجح البعض من العراقيين ان يلعبوها في عملية الانتخابات وخصوصا عندما استخدم الدين وسيلة للترويج السياسي والاعلامي ، وهذا ما تتخّوف منه اليوم كل القوى السياسية التنويرية والعلمانية من ان تستخدم المرجعية الدينية لكل من الاطياف العراقية المتنوعة ( ربما من دون علم اصحابها الاجلاء ) لاغراض الاستفتاء بدل مرجعية العراق الوطنية ، وهذا ما نلحظه اليوم باستدعاء اطياف دينية تمّثل السنة .. لأنها اصلا قد بدأت العملية السياسية على اساس الطيف الديني لا السياسي .. فلا يمكن لأي تنويري يؤمن بالحداثة السياسية والفكرية ان يجالس مثل هذا الطيف فاللغة ليست مشتركة بين الاثنين . واذا ما تحجج المدافعون عن هذه المحاصصة بسبب الواقع ، فدعوني اتوقّف قليلا عند كل من هذين الجانبين الخطيرين التاليين :
اولا : لجنة صياغة الدستور
يتشبث المدافعون عن هذه ” اللجنة ” كونها انبثقت عن الجمعية العامة ، وما دامت تلك الجمعية قد انتخبها الشعب العراقي ، فمن حقها وحدها صياغة الدستور . وانني اتفق مع المبدأ من حيث سلامته القانونية ، ولكن لم تكن دساتير العالم كلها قد انبثقت عن مثل هكذا لجان .. وصحيح انها دستورية ، ولكن هل انها تمّثل كل اطياف العراق ؟ وهل يمكنها ان تحتكر لنفسها صياغة قانون اساسي للعراق سيحدد ملامح المستقبل لمدى زمني طويل ؟ وهل يتمتع كل اعضاء هذه اللجنة الموقرة وقد زاد عددهم على الخمسين عضوا بمزايا ( المشّرع ) الحقيقي ؟ انني لا اعترض على الاخوة الاعضاء فليس غيرهم بافضل منهم ، ولكنني اعترض على عددهم وتخصصاتهم . فكلما زاد عدد اي لجنة سيزداد اللغو فيها والاختلاف عندها ، وحبذا لو كانت من خمسة اشخاص فقط بدل خمسين او يزيد .. وحبذا لو اقرت الجمعية العامة ووافقت على تسمية لجنة مصّغرة من العراقيين الذين بامكانهم كتابة نسخة اولية من الدستور تجري عليها تعديلات بما يتوافق وبناء دولة حديثة يمكنها ان تعتمد على الدستور في مواجهة القرن الواحد والعشرين .
ثانيا : الاستفتاء على الدستور
ان مسألة اقرار الدستور اخطر بكثير من عملية كتابته ، اذ لابد ان يحصل على موافقات الشعب العراقي كلّه .. وان أي ثلاث محافظات لا تتفق عليه ، فسيبطل عمله .. وربما لا يشعر العراقيون اليوم بما لهذا ” الشرط ” من صعوبة ، وكم ستكون ” اللجنة ” المقررة لصياغة الدستور صبورة ومتنازلة عن تصلباتها ازاء ترضية كل الاطراف من العراقيين . اي بمعنى ان عليها مهمة الحصول على موافقة ستة اطراف ( = اقاليم ) ، كل طرف يمّثل اقليما بحد ذاته ، فان لم يقل اي طرف من الاطراف الستة كلمته ويوافق بـ نعم ، ليس من حق كائن من كان ان يفرض الدستور بالقوة ، اللهم الا اذا تدخّلت الولايات المتحدة الامريكية تدخلا سافرا ، وقررت اصدار الدستور برغم كل الظروف ومن دون اي تأجيل حتى وان كان ذلك ” التأجيل ” يقّره قانون ادارة الدولة . وعليه ، فان المهمة صعبة جدا خصوصا اذا ما علمنا بأن هناك من يطالب مطالب صعبة جدا ، يصعب التوافق عليها .
3/ الحاجة الى التقويم الدستوري
ان العملية السياسية ستنال من الاخفاقات الكثيرة وان حجم الاختلافات حول مشكلات وطنية عويصة .. لا اعتقد ان من السهولة ابدا بالالتفاف حولها ، الا بعد مضي زمن ليس بالقصير. انني انصح كل الاخوة المسؤولين العراقيين الجدد وخصوصا اولئك الذين يديرون العملية السياسية في البلاد من رئيس الدولة ونوابه ورئيس مجلس الوزراء ونوابه ورئيس الجمعية العامة ونوابه ولجنة كتابة الدستور العمل منذ اللحظة ليس فقط ما نسمعه من اشراك ممثّلي قوى دينية او اجتماعية حسب وكأن امر الدستور يأتي كوسيلة ترضية .. الجواب : لا ابدا ، فالامر لا يقتصر على ترضية هذه الفئة او تلك الجماعة .. بل ان الحاجة تقضي باستدعاء اناس عراقيين لهم خبرتهم الدستورية والسياسية ولهم تجاربهم في كتابة الدساتير سابقا فضلا عن اساتذة عراقيين يتوزعون في هذا العالم الرحب وهم من رجالات المعرفة .. ربما لا اتفق مع اسلوب الاخ الدكتور عدنان الباجه جي السياسي ولم اشاركه في حزبه او تجمّعه ، ولكنني أتساءل : لا ادري لماذا استبعد الرجل من كل العملية السياسية والدستورية ، فحتى ان لم يحّصل على اصوات في الانتخابات السابقة ،ولكن خبرته السياسية قديمة في الشأن العراقي ، حتى انه قد ساهم في كتابة دساتير غير عراقية .. وهنا اقول : بان العالم كله يستأنس بمن له خبراته وتجاربه ليستفيد منه ، فلماذا يطغى الرأي السياسي والموقف الشخصي في اقصاء الاخرين عند العراقيين ؟؟ .. هل استطاع النظام الجديد ان يستأنس بآراء نخبة من علماء السياسة والقانون العراقيين والخبراء الكبار في الشأن العراقي ولهم باعهم الدولي في مراكز ومعاهد وجامعات عدة في العالم ، اذكر منهم الاصدقاء الاساتذة الدكاترة : كاظم حبيب ومأمون أمين زكي وفالح عبد الجبار وعباس الكليدار وعدنان رجيب وحنا الصايغ ومحمد الشكرجي وسعدون القشطيني وجواد هاشم وعبد الامير محمد امين وعزيز الحاج ومهدي الحافظ وغسان العطية وفوزية العطية وسهيل السنوي ومحمد جواد رضا وجبار قادر غفور وغيرهم ممن يصعب تعدادهم .
المحور الثالث : من اجل مشروع مدني حضاري بعيدا عن الادلجة الدينية والسياسية
1/ العراقيون .. الى اين سيمضون ؟ وهل سينجحون في مهمتهم ؟
ان تشكيل لجنة برلمانية من 55 نائبا لتولي كتابة الدستور العراقي الدائم والتي تقرر ان تنتهي من اعمالها بعد نحو ثلاثة اشهر فقط، قد أثارت تفكير العراقيين الان في ما الذي سيحتوي عليه دستور العراق الدائم ، وهل سيحقق هذا القانون الاساسي العدالة والتكافؤ والانسجام بين العراقيين بعد ان غابت عنهم الحريات عهدا طويلا .. وبالرغم من انشغال الناس بهذه الظاهرة التي اتمنى انها سوف لن تتكرر اذا نجح العراقيون في مهمتهم الا بعد عقود طويلة من السنين ، فان الحاجة باتت ماسة اليوم ليس الى الوعي الدستوري فحسب ، بل بحاجة أساسية الى مانفيستو وطني يمحي من سجله مفاهيم الطائفية والمحاصصة والترضية التوافقية على حساب تكافؤ الفرص العراقية كي يؤمن العراقيون من جديد بالوطنية والحرية والتحديث . صحيح ان ما اطالب به – كما يبدو – بعيد عن واقع العراق السياسي الذي باتت تنهشه المفارقات والكراهية والاحقاد والانقسامات .. وهي قضايا محددة ومعدودة وتافهة مقارنة بما يمكن الشروع به والمتمثّل بـ ( مشروع العراق الحضاري ) .. ولكن من الصعوبة ان تجد كل العراقيين يجمعون على اجندة معينة بحكم اسباب شتى .. وهنا تكمن نقطة الخلاف بين المشروع الحضاري وبين خلافه ، وهذه هي المسألة التي ستأخذ القسط الاعقد في المناقشات واحتدام الجدل بين العراقيين لزمن طويل .. واعتقد بأن ثلاث مسائل معقدّة ستأخذ جهدا وزمنا كبيرين من العراقيين وهم يصنعون دستورا ثابتا لهم ، فماذا نرى ؟
الاولى تكمن ليس في الفيدرالية ( علما بأن ليس كل العراقيين مع مبدأ الفيدرالية ) بل مع تطبيقها وخصوصا ما طبيعة تلك الفيدرالية التي يختلف في تفسيرها العراقيون بين عربهم وكردهم .
والثانية هي مشكلة المواطنة العراقية اذا ما جعلت الثانية على حساب المحاصصة ( التي لم يتفق عليها العراقيون وخصوصا المحاصصة الطائفية التي اصطلح ان يطلق عليها بالتوافقية ) .
والثالثة هي مشكلة طبيعة الدستور ، فهل سيكون على غرار الدساتير العربية التي تكتفي بأن دين الدولة هو الاسلام ، ام انه سيلزم العراقيين بعيدا باسم الثوابت الدينية بعيدا عن القوانين الوضعية ( وهنا ينقسم الرأي العام العراقي انقساما حادا أيضا ) .
2/ لماذا علمنة العراق ؟ تصويب مفاهيم تاريخية
لابد ان يتم التمييز بين الشريعة وبين الفقه وبين اصول الفقه وبين مفارقات المذاهب الاسلامية .. الخ فلم تكن الشريعة الاسلامية مصدرا وحيدا للقوانين في البلاد الاسلامية عبر التاريخ ولابد ان يقرأ التاريخ الاسلامي قراءة متمعنة كي نجد ان قطيعة واضحة بين الادارة وبين القضاء وان ما استعير من تقاليد ومواريث شعوب وثقافات قد استخدم استخداما حقيقيا في دول ومجتمعات اسلامية .. وان دولا معينة بحد ذاتها لم تستطع ان تطبّق السياسة الشرعية الموحّدة في مجتمعاتها نظرا لتنوعات مذهبية شتى فيها .. ان من يدقق في واقع الامم الاسلامية عبر الف سنة من تاريخها سيجد ان ما طبّق فيها من احكام تختلف واحدتها عن الاخرى .. وعليه فلم تكن الشريعة الاسلامية مصدرا وحيدا للقانون بكل فروعه زهاء ثلاثة عشر قرناً تقريباً .. ولابد ان يدرك قادة العراق ومثقفيه وسياسييه بأن القوانين الوضعية الغربية لم تزحف الينا في العالمين العربي والاسلامي في القرن التاسع عشر – كما يشاع عن قصد او عن عدم فهم – وكما يقولون ” نتيجة للإستعمار العسكري من جانب الدول الغربية الاستعمارية من ناحية، ولكي تتمكن نزعة تقليد الغرب وحضارته في نفوس حكام المسلمين وقادتهم وكثير ممن تأثروا بهذه الحضارة من ناحية أخرى “. بل من يرجع الى تواريخ المغول المسلمين والتيموريين والعثمانيين والصفويين والسعديين والعلويين وغيرهم سيجد ان سياسات وقوانين قد صدرت عن تلك الدول لا تمت لا للشريعة ولا للفقه بصلة .. وان ما صدر عنها يسبق القرن التاسع عشر ويسبق ظاهرة الاستعمار الغربي واملاءاته .. وكأن القوانين الوضعية من صنع الغرب فقط .. لقد كانت الحاجة والظروف الموضوعية والواقع المعاش تتطلب اصدار قوانين في البر والادارة وتقسيم الاقاليم والبحر والاقتصاد والمعاملات الدولية ومشروعات الحكم وما يتعلق بالاسر الحاكمة والحريم والقصر وقرارات السلم والحرب والقرصنة بعيدا عن الافتاء وعن الشريعة الاسلامية .. وعندما جاء القرن التاسع عشر ، كانت الحاجة ملحة تماما لاستيعاب المفاهيم الجديدة التي لم يصدّرها الغرب لنا وحدنا ، بل استلهمتها كل شعوب الارض الاسيوية والافريقية ، فالمواطنة والدستورية والديمقراطية والسلطات والفصل بين السلطات والقوانين المدنية والعلاقات الدولية الحديثة والفيدرالية والكونفيدرالية والمعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية والهيئات ولجان الحدود والمنظمات والدبلوماسية والوزارات الحديثة .. الخ كلها آتية من الغرب ، فاذا كان الاستعمار الغربي قد فرضها على المسلمين ، فلماذا يستخدمها المسلمون اليوم وهم يتحدثون باسم الشريعة ؟
ان من أسوأ ما ابتلي به عصرنا يتمّثل بهذا التناقض الصارخ بين القديم والحديث .. وعليه ، فاذا كان الدين يلبي كل هذا الذي ذكرناه فلماذا تستخدمون كل مفاهيم الغرب وآليات عمله الوضعية وانتم من اشد اعدائه ومن اشد اعداء الوضعية ؟؟ ولا اعتقد ان دولا عربية قد غزاها الاستعمار وطبق عليها مفاهيمه أو أن دولا اخرى قد نجت من الخضوع اليه .. اذ اتحّدى من يأتيني بدولة واحدة تزعم ان الشريعة الاسلامية هي المصدر الوحيد للقانون فيها وهي لا تعرف القوانين الوضعية في الادارة والاقتصاد والعلاقات الخارجية وحتى اسلوب نظام الحكم المطلق !! وحتى قانون الاحوال الشخصية في البلدان العربية والاسلامية كان قد تعّرض للعديد من التعديلات الوضعية في ما يخص المواريث واموال القاصرين والزيجات والطلاقات والمرأة والعمل والتركات والضرائب .. الخ ان الاستاذ عبد الرزاق السنهوري كان يدرك وهو ابن القرن العشرين ان بعض القوانين المدنية لابد ان تجد لها مخارج في الشريعة والفقه الاسلامي .. وكان الرجل قد بنى قوانينه على التشريعات الوضعية ، ولكن لابد من فقه جديد اليوم ونحن عند فاتحة القرن الواحد والعشرين يحدد كيفية استخدام القوانين المدنية والوضعية في كل عالمنا الاسلامي .
3/ ماذا لو طبّق دستورا (دينيا) في العراق ؟
ان ثّبت العراقيون بندا واحدا في دستورهم يقضي بأن تكون الشريعة مصدر قوانين البلاد فسيحكمون على انفسهم بولادة مشكلات ومعضلات لا حصر لها .. فما هو مطبّق من الاحكام والانظمة والتعليمات الوضعية والمدنية يتناقض اصلا مع هذا البند !! وعليه ، ان وضع العراقيون هكذا بند ، فسوف يصبحون اضحوكة دنيوية ، اذ يستوجب عليهم تطبيق كل ما في الشريعة ويستوجب عليهم الغاء كل قوانين البلاد الوضعية من احكام القانون المدني العراقي وقانون العقوبات وقانون الجزاء وقانون البداءة وقوانين الصلح والاراضي والعقارات والضرائب والشركات والطابو والتسوية وقوانين البيع والشراء .. وان يتوقفوا عن العمل بالمواطنة العراقية كي يجعلوا المجتمع مسلمين واهل ذمة ومسلمين عرب ومسلمين موالي ويجعلوا من النسوة حرائر وجواري وان يتم تحريرهن من الرق .. ولا ادري ما هو نوع الحكم امامة ام خلافة ؟ ولا يحق ان يغدو للعراق رئيسا للدولة ولا رئيسا للوزراء .. ولا نعرف هل سيعد العراق نفسه : دار اسلام ام دار كفر ما دامت قوات متعددة الجنسيات تنتشر على اراضيه ؟؟ وما رأي العراقيين بهكذا دستور ؟ هل تريدونه هكذا ، ام تريدونها عبارة نضحك بها على عباد الله العراقيين وان نحكم باسمها ام نحكم بتطبيقاتها ؟؟ وكثيرا ما يثير البعض مسائل يعتبرونها شرعية وينسون مسائل اخرى لم يعترضوا عليها اصلا باسم الشريعة !
ان واضعي الدستور امامهم مهمة صعبة كونهم يتعاملون مع بناء ( نص) سيقبله ام يرفضه ابناء مجتمع اختلفت بهم السبل وغرقت بهم العواطف والهواجس .. فان واضعي الدستور بين تحديد الاسلام ام تحييد الاسلام .. بين جعل مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيس للتشريع أم بين اعتبارها احد مصادر التشريع وليس المصدر الرئيسي له ، اما ان يكون الدستور علمانيا محضا فهذا ما لا يمكن المجازفة به ابدا لأنه سيثير العراقيين ويقيمهم ولا يقعدهم .. اما ان غدت الشريعة مصدرا وحيدا فالعراق سيغدو بحكم طالبان افغانستان او بحكم ولاية فقيه ايران .. واما ان غدت الشريعة احد مصادر التشريع ، فهذا ” تخريج ” و ” مناورة ” يمكن بها للمشّرع ان يخلط بين المفاهيم ، وان يّشرع له ما شاء ان كان يجلس تحت مظلة ( مصادر التشريع ) . ولكن لنسأل ايضا : هل يمكن لأي مشروع حضاري ومدني للعراق ان يقوده اجماع الفقهاء العراقيين ؟ وهل تساوى واتفق الفقهاء العراقيون على مسائلهم الفقهية والدينية والمذهبية حتى نطالبهم ان يكونوا بمسؤولين عن مشروع العراق الحضاري والمدني في بناء المستقبل ؟ ام هل سيكونوا اوصياء على السياسيين والمخططين والمثقفين العراقيين الذين سيتلقون منهم النصح والوصايا والفتاوى في المسائل الموضوعية ان رضينا ان تكون لهم كلمتهم في المسائل الاجرائية ؟ ان الفتاوى التي اصدرها احد فقهاء احدى الدول المجاورة للعراق قبل ثلاثين سنة قد سّببت مشكلات اجتماعية وسياسية حتى اليوم ، فالمرأة تقود السيارة في العراق ومصر ولبنان منذ خمسين سنة ولم يعد ذلك من الكبائر .. في حين ان قيادة النساء للسيارة حرام في بلد مجاور بسبب فتوى دينية ! فما الذي يريده العراقيون حكما دينيا ام حكما مدنيا ولكن من دون اي جواز لتخريج اي حكم مدني باسم الشريعة .. ولا يمكن قبول تمرير كل السياسات الوضعية باسم الدين والاعلان بالالتزام بثوابت الامة ! ان الدين ايها الاحبة سواء اتفقتم معي ام اختلفتم هو اكبر من ان يغدو اداة او وسيلة عادية ، انه عالم روحي للانسان في يكون مستقيما ونظيفا ونزيها ومخلصا وصالحا وأمينا وصادقا ويعمل بالمعروف وينهي عن المنكر والبغي .. انه عالم شفاف له سموه وتجلّيه وليس وسيلة سياسية او ايديولوجية للمآرب والمناورات وكل بلايا ورزايا اساليب هذا العصر المضني وغيره .
وأخيرا : عملية عند مفترق طرق صعب !
لا استطيع ان اختتم هذا ” الموضوع ” ابدا ، فهو قابل لاستيعاب المزيد من الافكار والمعلومات والآراء والمعالجات التي يحتاجها العراق في تحولاته اليوم .. ولكن على من يجازف بابداء الرأي في ما طرحته من تحليلات واراء سواء اتفق معي او كان ضدي ، ان يدرك بأن عليه فهم المعاني والمقاصد العميقة من اجل مصالح العراق العليا ، وابعاد شبح التمزقات عنهم ، ومن اجل الشروع ببناء مستقبل حضاري عراقي يسوده الانسجام والتلاؤم وان لا يغرق الفارئ بعواطفه السياسية والدينية والحزبية وحتى الشخصية .. ليفكر ويعيد التفكير فالامر ليس من البساطة على لجنة كلّفت بكتابة دستور دائم للعراق فهي امام مسؤولية تاريخية لاجيال قادمة وليس لجيل اليوم الذي خرج مدمّرا وكسيحا عن عهد ظالم وجائر .. وكذلك فان كل النخب العراقية المتنوعة تشهد فصولا مأساوية من حرب ارهابية قاسية يمر بها العراق اليوم لا تعالجها اساليب التراضي .. ان العراقيين بحاجة الى بعضهم البعض اليوم اكثر من اي وقت مضى ، ولا يغرّنهم انهم قد تحرروا من سطوة الجلاد ، فهم امام استحقاقات تاريخية جديدة لغرس مبادئ وقيم عراقية جديدة .. انهم امام تحدّيات صعبة لابد ان يستجيبوا لها من اجل مستقبل يمكن ان يبدأ بالعملية الدستورية ليس من اجل استكمال عملية سياسية معينّة ، بل من اجل بناء مشروع حضاري مدني للعراق وكل المنطقة .. فان لم ينجح العراقيون في مهمّتهم ان بقوا على اي تشرذم او انقسام واي عبث بالدستور واي مناورات واي استلابات .. ، فان تاريخ العراق سيأخذ بالضمور لمرحلة تاريخية كاملة – لا سمح الله – ، ولكن ان نجحوا في عمليتهم ضمن اجندة كالتي يتأملها كل المخلصين ، فسيولد العراق كالعنقاء من سفر التائهين نحو فردوس الجنائن المعلقّة .. وعند ذلك سننشد جميعا ايها العراقيون ما قاله شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري :
يا ( أم عوفٍ ) عجيباتٌ ليالينا يُدنينَ أهواءنا القصوى ويُقصينا
في كل يومٍ بلا وعيٍ ولا سببٍ يُنزلن ناساً على حكمٍ ويعلينا
يَدفن شهدَ ابتسامٍ في مراشفنا عذباً بعلـقــم دمـعٍ في مآقينا
يا ( أم عوفٍ ) وما يُدريك ما خبأت لنا المقاديرُ مـن عُقبى ويدرينا
أنَّى وكيف سيرخي من أعنتنا تَطوافُنا .. ومــتى تُلقى مـــراسينا؟
أزرى بأبيات أشعارٍ تقاذفنا بيتٌ من ( الشَعَـــرِ المفتول ) يؤوينا
عِشنـا لها حِقباً جُلى ندلَّلُها فتـجتويــنــا .. ونُعــلــيـها فتُدنينا
تقتــات من لحـمــنا غضاً وتُسغِبنا وتـســتـقــي دمــنا مـحـضـاً وتُظمينا