«لا تفكروا بالواقع او بالمال لأن كل انسان يستطيع ان يغير العالم لو أراد .. ولا تيأسوا لأن وراءكم تاريخا طويلا». فانيسا
هي واحدة من أابرز الممثلات البريطانيات الشهيرات في القرن العشرين، وتبرز أهميتها فقط في قدراتها التمثيلية الفنية الرائعة، وخصوصا في العديد من الأدوار المهمة التي لعبتها في السينما والمسرح وحصلت عليها العديد من الجوائز ، ولكن تنبع بالأساس من مواقفها السياسية الجريئة التي ميّزت حياتها عن الاخرين من الغربيين .. وفانيسا تحمل افكارا راديكالية رافضة ازاء بعض انواع القهر السياسي والاجتماعي الذي يمارس ضد الانسان على وجه هذه الارض وطارت شهرتها سياسيا في الربع الاخير من القرن العشرين وخصوصا عندنا نحن العرب عندما ساندت القضية الفلسطينية بكل قوة ووقفت ضد الصهيونية وصنفتها فكرة عنصرية مارقة .. هذه المرأة ، بقيت برغم بعض زياراتها للبعض من البلدان العربية بعيدة عن الاضواء العربية ولم تكرم الا مؤخرا – كما سمعت – . التقيت بها مرة واحدة في حياتي ، وتحدثت معها بشكل مختصر وكان ذلك في لندن قبل خمس وعشرين سنة وكانت في منتهى اللباقة واكتشفت فيها عالما ثقافيا زاخرا لا حدود له وخصوصا في الجغرافية وتاريخ العالم المعاصر .
النشأة الانكليزية ومؤثرات التكوين
ولدت فانيسا ريدجريف في يوم بارد ومثلج صادف 30-1-1937 وسط اسرة تمتهن فن التمثيل ، اذ كان أبوها هو الممثل البريطاني السينمائي والمسرحي المعروف مايكل ريدجريف الذي لعب البطولة في فيلم “السيدة المختفية” الذي اخرجه وانتجه معا المخرج البريطاني العالمي آلفريد هتشكوك، وأمها هي راشيل كيمبسون الممثلة المسرحية البريطانية، واشتهر في التمثيل ايضا كل من اخيها كورين وأختها لين ، ويقال أيضا بأن جدها روي ريدجريف كان ممثلا مسرحيا قديرا شارك في تمثيل العديد من الأفلام الصامتة القديمة في أستراليا. هكذا يمكننا القول بأن البيئة الثقافية والاسرة الفنية كانت وراء تكوين فانيسا بشكل أو بآخر . قامت الفتاة فانيسا بدراسة التمثيل في لندن بعد أن بدأت دراسة الباليه وفنون الحركة الراقصة ، وقد ساعدهتها دراستها على أداء بعض الأدوار الجميلة التي من بينها دورها الذي رشحت عنه لجائزة أوسكار أفضل ممثلة عام 1968 ، وذلك في فيلم “إيزادورا” الذي يحكي قصة حياة الراقصة الاسكتلندية الشهيرة إيزادورا دنكان وكانت فانيسا سعيدة جدا بدورها . لقد انهت فانيسا دراستها وهي في العشرين من عمرها .. فعملت في المسرح منذ العام 1957، واشتركت مع والدها في بطولة مسرحية “لمسة من المشاع” في احد مسارح لندن الشهيرة العام 1958 . وكانت حتى ذلك الوقت متأثرة بأبيها الذي كان يحمل فكرا جديدا ، وكثيرا ما كانت فانيسا تردد مقولاته في اماكن عدة .
الاتجاه إلى السينما
اتجهت فانيسا بعد ذلك الى التمثيل السينمائي واغرمت به كونها تدرك بأنه الذي سينشرها في كل العالم .. ومثلت مع معظم مخرجي عقد الستينيات من القرن العشرين المهمين في إنجلترا والمشهورين عالميا ، امثال : كارل رايس، وتوني ريتشاردسون الذي تزوجته وأنجبت منه ابنتين شابتين بدأتا تعملان في التمثيل أيضا هما : ناتاشا ريدجريف وجولي ريتشاردسون، أما ابنهما الشاب الفنان كارلونيري فهو يعمل مخرجا .. هكذا انجبت العائلة الفنية القديمة في القرن العشرين عائلة فنية جديدة في القرن الواحد والعشرين وضمن استمرار الابداع . بدأت شهرتها السينمائية بعد دورها في فيلم «رجل لكل العصور» مع فريد زينمان كما شاركت في بطولة فيلم مورجان لكارل رايسز ورشحت للاوسكار العام 1968 عن دورها في فيلم «ايزادورا» . لقد عملت فانيسا أيضا مع مخرجين أوربيين وأمريكيين معروفين ، مثل : مايكل أنجلو أنطونيوني الذي كان فيلمها معه “تكبير الصورة” Blow Up علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية، كذلك عملت مع السير ريتشارد أنتيورو المخرج والممثل الكبير وصاحب الفلم الشهير “غاندي” ، وهو الذي أخرج لها أيضا فيلم “هذه الحرب الرائعة”، والفنان جيمس إيفوري الذي أخرج لها “البوسطونيون”، والفنان هواردزن وفريد زيمان الذي أخرج لها “جوليا” الذي نالت عنه جائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة العام 1977.
لقد كان فيلم جوليا ، نقطة تحول في تاريخ هذه المرأة التي برغم اختلافي مع بعض افكارها الراديكالية ، الا انها تقف مع صاحب اي حق وقضية في هذا الوجود . وعندما شاهدت بمعية زملاء لي فيلم جوليا وكنت اقيم وقت ذاك في البرجس هول بجامعة ريدنك بانكلترا ، تملكني احساس من نوع ما حول ما يمكن ان تحمله هذه المرأة الفنانة من افكار ورؤى عن قضايا الانسان . والطريف أن فيلم “جوليا” العام 1977 الذي لعبت فيه “فانيسا” دور إحدى بطلات المقاومة في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، كان هو الذي دفع بها للتعرف على مأساة الشعب الفلسطيني. وقررت منذ تلك اللحظة أن تقوم بإنتاج فيلم تسجيلي عنه، فباعت منزلا لها وجزءًا من مقتنياتها لإنتاجه… ولم تمض عدة اشهر حتى عرض فيلم ” الفلسطيني ” الذي لم تزل تعتز به كثيرا منذ العام 1977 .
اللقاء الاول والاخير مع فانيسا : ضد الصهيونية والعنصرية معا
اذكر انني تلقيت في اواخر العام 1978 دعوة للمشاركة في المؤتمر الطلابي العالمي الذي انعقد في البرت هول بلندن بصفتي رئيس الجمعية العربية في جامعة سانت اندروس الاسكتلندية لدورتين انتخابيتين .. واراد البعض من الزملاء ان يجّير الدعوة لاغراض سياسية ضيقة فرفضت ذلك بشكل قاطع كوننا طلاب علم ننتمي الى جامعة عريقة ! وكانت شهرة فانيسا قد طارت في الافاق اثر خطابها الذي القته أثناء استلام جائزة الأوسكار . ولقد سبب لها خطابها متاعب كثيرة، فتعرضت لضغوط من جماعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية لتعدل عن موقفها المناصر للفلسطينيين، الذي عرضته في فيلم “الفلسطيني” الذي أنتجته عام 1977، وبقيت فانيسا صلبة لم تتزحزح عن موقفها .. لقد غدت عضوة نشيطة وقيادية لها كاريزما من نوع ما في حزب “العمال الثوري”، وهو حزب صغير في بريطانيا يرأسه توني بن وتتضمن بنوده فكرا ماركسيا صريحا ، ويناصر بعض القضايا العربية، في دواخل إنكلترا ويدافع علنا عن حقوق الشعب الفلسطيني، كونه معادٍ بشدة للصهيونية وإسرائيل.
لقد حضرت فانيسا في المؤتمر الطلابي العالمي بصفة ضيف وشاركت بكلمة مختصرة باعتبارها قيادية وأحد صناع سياسات ذلك الحزب . وفي فترة الاستراحة ، كنت بصحبة بعض الزملاء العرب من كل من لبنان وفلسطين ومصر ونحن نجلس بصحبة فانيسا في فترة الاستراحة .. وقد قمت بمحاورتها في امور عدة فوجدتها مثقفة واسعة الاطلاع وهي تمقت التفرقة العنصرية وانتقدت الاستعمار الجديد انتقادا مريرا وترى في اسرائيل دولة دينية تعيش على خرافة كاذبة كبرى لا يمكن قبولها في مثل هذا العصر . قلت لها : وماذا ترين في حسم هذه القضية التي غدت معقدة وخطر الصهيونية يتفاقم يوما بعد آخر ؟ قالت : لابد ان يعتمد الشعب الفلسطيني على نفسه وعلى العرب ان يكونوا اذكياء جدا في التعاطي مع المشكلة اولا وفي التعامل مع العالم ثانيا .. وأن المناضل الحقيقي يستطيع الحصول على حقوقه بحرفيته وتصميمه .. قلت لها : ما الذي احببته في الماركسية وانت ترين اوضاع العالم الاشتراكي ؟ وهل سيحقق حزب العمال الثوري البريطاني اهدافه ؟ اجابت : يبدو انك خصم للشيوعية العالمية ! لم يكتمل حوارنا حتى قطعه المنادون للدخول الى قاعة المؤتمر من جديد .
اعمالها وانشطتها والاداء التمثيلي
منذ تلك المناسبة ، وانا اتابع اخبار هذه السيدة وافكارها وانتاجها .. لقد طارت شهرتها في العالم ، وزارت مناطق عدة من العالم ومنها : الشرق الأوسط والتقت بعدد من المسؤولين كما زارت مخيم تل الزعتر، ونجحت في إنتاج فيلمها “الفلسطيني”، الذي أثار حفيظة التجمعات الصهيونية، خاصة في الولايات المتحدة ضدها، واتهموها بالمعادية للسامية، واحتجوا بشدة على فوزها بأوسكار أحسن ممثلة مساعدة في العام 1977. وكانت قد أنشأت “فانيسا” العام 1973 دارا لرعاية الأطفال المحتاجين في لندن، واختيرت في وقت ما سفيرة منظمة اليونيسيف للفنون، وقد أقامت مهرجانات فنية مسرحية وموسيقية في مناطق مثل كوسوفا وسراييفو. ومشهور عنها أنها تلبي دعوات أصدقائها من الفنانين للعمل معهم دون الاهتمام كثيرا بالمقابل المادي، بل تهتم بالمحتوى والمضمون السياسي والنضالي للعمل، بالإضافة لهذا فهي تشارك كثيرا في أعمال الدعم للقضايا السياسية التي تؤمن لها.
يعتبر الأداء التمثيلي لفانيسا مثالا لما يمكن تسميته بالأداء الطبيعي، بمعنى أن ثمة سلاسة في طريقة تعبيرها عن الشخصية الدرامية التي تمثلها من دون تكلف ومن دون استعراض. فانيسا في “جوليا” تؤدي دور المناضلة ضد الفاشية والطبقة الأرستقراطية فتجعلنا نحس بأن هذا كله حقيقة لا تمثيلا. فانيسا في “المهمة المستحيلة الجزء الأول” تؤدي دور تاجرة السلاح الصارمة القاسية، وهي تعرف كيف تقبل الهزيمة وكيف تحولها لصالحها، أداؤها في مشهد ” القطار ” مع الفنان توم كروز يرشحها للأوسكار كما حدث مع أدائها في الفيلم الرائع الذي يترجم رواية تاريخية متميزة عن “ماري ملكة الإسكتلنديين” . المهم هو أن تعبر عن الشخصية كما هي لا كما تتصورها، وهذه هي المدرسة البريطانية في الأداء التي تعود لقرون طويلة، ونجد أمثلتها في : لورانس أوليفيه وجون جيلجوودوا وأنطوني هوبكنز… وغيرهم.
وأخيرا
سمعت بأن فانيسا رودغريف قد كرمت في العام المنصرم 2002 في مهرجان القاهرة السينمائي وتوجهت ردغريف بسؤال لجمهور القاعة الذي ملأ المسرح الصغير بدار الاوبرا المصرية لمعرفة عدد من حضر منهم لمشاهدة الفيلم الفلسطيني (القدس في يوم آخر) أو (فرح رنا) وقالت ان هذا الفيلم درس لكل من يعمل بالسينما ويريد ان يعبر عن قضبيته شجاعة. وانهت فانيسا ردغريف مؤتمرها الصحفي بقولها «لا تفكروا بالواقع او بالمال لأن كل انسان يستطيع ان يغير العالم لو أراد». وتابعت «لا تيأسوا لأن وراءكم تاريخا طويلا». وقرأت انها صرّحت فيه قائلة : “أنا أدافع عن كل المظلومين وأطالب بأن يكون الفن معبرا عن الحياة الحقيقية، أي: الفن للناس، وأعتقد أن تلك هي رسالة الفنان الحقيقي”. . انني اتمنى ان يكون لي لقاء ثان مع فانيسا بعد كل هذه السنين لأسألها من جديد وبعد كل متغيرات العالم في ربع قرن مضى عن آرائها اليوم بالماركسية وهل استطاع حزبها ان يحقق غاياته وأهدافه ؟ ومن هو الخاسر الاكبر في تاريخ البشرية المعاصر ؟
عن كتاب الدكتور سّيار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية
الرئيسية / فن وموسيقى / فانيسا ريدغريف الممثلة البريطانية ذائعة الصيت..ابداع في الادوار السينمائية وجرأة في المواقف الراديكالية
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …