تقديم رواية داعشتاين
بقلم : أ.د. سيّار الجميل
هذه هي المقدمة التي كتبتها بقلمي لرواية داعشتاين : مخلوق السعير والمصير للصديق الروائي العراقي المعروف الاستاذ جاسم المطير المقيم في هولندا ، وقد نشرت الرواية عن دار اوطان للنشر والتوزيع في القاهرة الطبعة الاولى 2018 .
مقدمة
لي صداقة قديمة اعتز بها اعتزازا كبيرا مع الاستاذ المبدع جاسم المطير ، وكنت قد عرفته من خلال كتاباته بعد ان كنت اسمع عن نضالاته السياسية ، وكنت ولم ازل استأنس جدا بما يكتبه الرجل من كتابات ونقدات وافكار وادبيات ، اذ يتميز باسلوب خلب ، وقلم ساخر ، وفكر متقدم ، وكلمة حرة ، وابداع كبير ، وموقف عدل ، فهو من ابرز المثقفين التقدميين في العراق المعاصر .. وزاد اعجابي بخطاب الرجل ، عندما سمعته يتكلم في واحد من الموضوعات النهضوية الثقافية قبل سنوات طوال ، فوجدت فيه افقا واسعا ، وصوتا هادئا ، وعمقا في التحليل ، وهدوءا في الحديث ، واختزالا في الخطاب ، وشدة في الموقف .. رفقة لغة جميلة ينجذب اليها كل من يسمعها .. كان ذلك في الاجتماع التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة الذي انعقد في عمّان بالاردن عام 2007 برعاية الاخ الاستاذ ابراهيم الزبيدي .. وكنا – المطير وانا – نراسل بعضنا الاخر طويلا متابعين الشأن العراقي المرير منذ زمن طويل على بداية المأساة في عقد التسعينيات حتى يومنا هذا ..
حقيقة داعشتاين .. وصورة فرانكشتاين
وكنت سعيدا جدا عندما تسلمت من الاخ المؤلف الاستاذ المطير قبل ايام نسخة مخطوطة من روايته هذه التي اسماها بـ ” داعشتاين ” ، على وزن ” فرانكشتاين ” (بالإنكليزية: Frankenstein) وهي رواية للمؤلفة البريطانية ماري شيلي Mary Shelley صدرت سنة 1818. ولكنها تختلف عنها من حيث المضمون ، اذ تدور أحداث الاخيرة في بيئة وثقافة وسايكلوجيات من نوع آخر ، فالبطل اسمه فيكتور فرانكنشتاين ، وكان طالبا ذكيا يكتشف في جامعة ركنسبورك الألمانية طريقة عجيبة باستطاعته ان يبعث الحياة في المادة. ويعكف فرانكنشتاين على اختراع مخلوق قبيح جدا ، وهو هائل الحجم, وقبل أن تنبعث الحياة في اوصاله بزمن قصير جدا يهرب من المختبر .. ويقوم بعمليات اجرامية ولا اخلاقية ، ويبدأ الصراع الطويل مع صانعه حتى ينتهي الاثنان . اما داعشتاين ، فانها تدور قصتها ايضا عن نمو وحش شرير تربى في العراق تربية معقدة سايكلوجيا ، وابتلي بامراض نفسية لا تعد ولا تحصى ، واشتهر عنه تصلبه في الرأي وعناده وتعصبه وتطرفه بعيد المدى وعداوته لهذا العصر ، وقد تسلّق هذا الظرف الزمني العصيب كي يسيطر على الموصل ، وهي مدينة عريقة جدا ، ولها خصوصياتها ، فيسحقها سحقا ، ويرعب سكانها من خلال اساليب متوحشة لا تعد ولا تحصى ، وخصوصا قطع الرؤوس في قلب المدينة ، وسبي النسوة اليزيديات ، واستئصال المسيحيين عن بكرة ابيهم ، وفرض احكام قاسية على المجتمع ، وهدم المعالم الحضارية .. والعودة بالمجتمع الى حياة العصور الوسطى .
لقد دخلت الى عالم داعشتاين وقرأت ” النص ” على مهل وبشغف كبير .. ولعلها واحدة من الروايات المعبرة عن واقع مرير تعيشه الموصل ثاني اكبر مدينة عراقية وصاحبة تاريخ عريق ولها مجتمع متنوع غاية في التنوع ، وقد سحقت سحقا ، كما سيسجل التاريخ عنها مستقبلا انها عاشت اسوأ ازمنتها الكسيحة عند مفتتح القرن الحادي والعشرين .. ان رواية الاخ المطير ، تسجيل تاريخي مهم جدا يشخص في روايته ، حالة تاريخية مريرة تمر بها الموصل ، بل ويتوغل المؤلف مع حضوره في سايكلوجيات صناع هذا الحدث المأساوي ، ليحلل نفسية رجل عراقي طوطمي اسمه ابراهيم عواد السامرائي وقد اتخذ له تسمية اخرى ، هي : ابو بكر البغدادي ، وينتقل المؤلف الى كيفية تكوينه الدموي في مجتمع سياسي مفعم بالتناقضات الصاخبة ، اذ رضع من الدماء ما يكفيه كي يكون على شاكلة دراكولا في بشاعته التاريخية .
دراكولا على نحو جديد
ويكفي ان اصف ” داعشتاين ” ايضا برواية دراكولا المرعبة والتي قام بتأليفها برام ستوكر ابان العهد الفكتوري. ان دراكولا شخصية يتقمصها الامير فلاد تيبيسو والذي لقب بدراكولا ( وتعني : ابن الشيطان ) ، وكان من مواليد مدينة سيغيوشوار. ولكن الفرق بينه وبين داعشتاين ، ان الأمير فلاد تيبيس عدّه ابناء رومانيا بطلا وطنيا كونه قام باحتواء الاجتياح التركي العثماني لأوروبا ، وكان قد حكم قرابة ست سنوات ، اي بين عامي 1456 و1462 ، ولكن استطيع تشبيهه بداعشتاين كونه اتصف بتعامله الوحشي والدموي مع المسؤولين الفاسدين واللصوص وخصوصا المحتلين ، ولكن داعشتاين غدا وحشا شريرا لكل البشرية ، فهو عدو لدود للابرياء من الناس .. للاطفال والنساء والشيوخ ولكل الكائنات على وجه الارض بما فيها المخلوقات الاليفة وحتى الزهور .. وان كان الجدل قد دار حول العلاقة غير المؤكدة بين شخصية دراكولا التي جسّمها في روايته الكاتب الايرلندي برام ستوكر عام 1897 عن فلاد تيبيس ابن الأمير الروماني فلاد دراكول (= الشيطان) ، وهو اللقب الذي ورثه عنه ، فاعتقد ان جدلا تاريخيا قادما سيدور حول شخصية داعشتاين كما جسمّها في روايته الكاتب العراقي ( المقيم في هولندا ) عام 2016 عن هذه الخليفة الجديد الذي سرق اسمى الرموز الاسلامية ليتلبس به امام المسلمين !
داعشتاين .. وثيقة تاريخية
لقد كان الصديق الروائي جاسم المطير حاذقا جدا في كتابته داعشتاين موثقا صورة أدبية حقيقية عن واقع مرير ، كجزء من التاريخ الآني ، وباسلوب روائي بارع ، وقد عرض جملة من المشاهد بتوصيفات مناسبة ، وهو يخاطب قراء العربية وطريقة تفكيرهم ، علما بأن العرب قد ازدادت عندهم الاوهام والاخيلة ، وتنوعت لديهم جملة من الافكار المهيمنة منذ قرابة ثلاثين سنة مضت ، وهي ماضوية يتجه اغلبها نحو الماضي الذي يعتبرونه زاهرا او مقدسا ويسعون الى اعادته بأية اثمان ، وقد سبّب ذلك ابتعادهم عن الحداثة ومنتجات العصر الفكرية التي يعتبرونها حراما ، بل وجاهلية يزدرونها ازدراءً ! ولقد نجح الراوي نجاحا باهرا في استخدام الرموز واسلوب التورية بشكل رائع ، وهذا ما يتصف به اسلوب الاستاذ المطير ، فهو المعروف بأدبه الساخر الذي عرف به بامتياز ..
بنية الرواية
دعونا نقول ، بأن الرواية مركبة من عدة بيانات يصل عددها الى قرابة ثلاثين بيانا اذ بدأ المؤلف الرواية بـ ” بيان رقم صفر إلى شهود حكاية لم يصدقوها.. ” ! وتلاها ، بيان صادر من خيمة البر الكبير ، وتصوير الهلع الذي اجتاح العراقيين ، وخصوصا في سامراء التي انجبت ابراهيم عواد السامرائي الذي سيغدو في يوم من الايام يثير الرعب باسم داعشتاين .. ويعلن نفسه خليفة على العالم .. ومن ثم بيان صادر من ” حاكم مدينة لا يعرف اسماء السمك ” وجذور التصادم بين المتعصبين السنة والشيعة مع تفسيرات البروفيسور براير حول هذه الموضوعات التي يجهلها اقرب المقربين للاحداث .. وقوفا على ” بيان من غرباء إلى نزلاء..” مع شهادة تاريخية بين حال المنتفج وصولا الى الفاو والارتباط بالبصرة وسلاسل متوالية من الفجائع التاريخية ، وانتقالا الى ” بيان عاجل عاجل” ، وتركيز على صدمة اعلان شخص مجهول نفسه خليفة على المسلمين وجرذانه يتراكضون وراءه .. وهناك بيان صادر في ورقةٍ مرميةٍ على الأرض.” وبكاء النجف على ما سيألو اليه مصيرها المخيف كيلا تقع بايدي داعشتاين !! وهناك بيان صادر من أناس لا يشبعون في الفطور ” ، وصولا الى بيان صادر من احتفال لطيف ” وفيه يحمل داعشتاين ساعته الذهبية في معصمه يمينا ومن حوله بعض من يحميه من قواته وقد وقفوا بالرشاشات حول المصلين ! ومنها الى ” بيان من اللجنة المركزية في مؤسسة العبث الخيرية ” ، وثمة جدلية بين البطل وصديقه غانم بشأن المذاهب في العراق منتقلين الى ” بيان صادر بالشعر العامي والقريض ” ومن ثم ” بيان صادر عن قيادة جمعية السكّر المالح ” .
وتتسلسل بقية البيانات في هيكلية الرواية ، اذ ينقلنا المؤلف من صورة الى اخرى ، وكلها مشحونة بالمشاعر ومليئة بالاحداث .. لقد احسست وانا اقرأ فصول او بيانات الرواية ، وكأني اعيش المشاهد واتداخل معها مباشرة . تواصلا مع بيان صادر من جمعية الموسيقى تصدح والرايات ترفرف ، وانتقالا الى بيان صادر من الهيئة الإدارية لجمعية الفضاء الفسيح ، ثم بيان من الأرض إلى السماء ، وهناك ايضا ، بيان صادر بمناسبة ميلاد الشاعر قيس بن الملوح ، وبيان آخر صادر من اللجنة العليا في قفص الاتهام ، ثم البيان الذي صدر من هيئة الله اكبر ، وفيه تصوير رائع لنزول الملائكة على الخليفة الجديد زعيم داعشيان ، وهناك ما صدر من المكتب السياسي لحزب العدالة المفزوعة ، ثم صدور البيان الصادر من الوريث على عرش الدين ، ثم المعنى في قلب الشاعر والبيان الصادر من السرداب ، وبيان من اللجنة العليا لجمعية العجائب والغرائب ، ثم بيان الصادر من الماشي بالظلمة وهناك بيان صادر من جمعية الأعاجيب ، وبيان صدر عن جمعية المحاربين الجدد ، وبيان صادر من جمعية الجهاد المقدّس ، وآخر من لجنة الأحزان العليا ، وبيان يخص الزاني والزانية ، وصولا الى بيان حول معاني الدين و التدين.. وبيان هام آخر لا تقشعر منه الارض ، وآخر بيان صادر من اسفل إلى أعلى. وصولا الى البيان الاخير الصادر من جمعية الغدر والغادرين .
ايديولوجية داعشتاين
دعونا نقرأ ما كتبه المؤلف هنا قائلا : ” الشعب في الدولة الاسلامية بقيادة الخليفة أبو بكر البغدادي ينحدر في الأصل من ثلاثة مجاميع، الوهّابية، والعسكرية المنحلة ، وبعض العشائرية .. جميع افرادها من ابناء الشمس الحارة ،من ذوي الطباع الحادة.. فيهم الكثير من الحمقى، فيهم من أدمت اشواك الأرض قدميه وأمانيه .. فيهم من اشرق عليه الصباح من دون أن يتواصل سناه. فيهم الكثير من اشرارٍ لا يرحمون الجار ولا الفقير ولا الصديق، فيهم العديد ممن تلقوا في السابق علوماً عسكرية في جيش صدام حسين ، لا تحمي بلداً ولا تقي بشراً، فيهم حزبيون منحلّون، ناحلون بعد قوة ، ضائعون بعد سطوة، ليس عندهم من أمل غير اسقاط من اسقطهم واعدم اصنامهم. فيهم الكثير ممن توهجتْ في قلبهِ نار متّقدة للجور على كل عقيدة ليست من عقيدتهم. اجتمعوا كلهم على إثم تنفيذ خطط الشر والاشرار بثلاث مجاميع تسبّح باسم الله على هدى السلفية الوهابية . الاولى مجموعة الدولة الاسلامية في نينوى، الثانية مجموعة في تكريت، الثالثة مجموعة في الانبار. كلهم من نسل متعطش لدماء القبائل العربية الطيبة الخلق والمعشر في المحافظات الثلاث وداسوا بمعاولهم على اكاليل الفنون والعلوم والاداب والحضارة ” .
فجيعة الموصل التاريخية
ثمة بيانات اخرى ، منها ما صدر عن قدس الاقداس ، وآخر عن اتحاد جمعية الفئران ، وآخر صادر من الصحفية الاسبانية كارينا ، او ذاك التي اصدره الساحر العملاق في الفلوجة ، او ما صدر عن زعيم القش والهراوة ، او ما صدر من ضفاف نهر أسيوي .. ومن اطرف ما جاء في الرواية التصوير البانورامي للمؤلف عن الخليفة ابو بكر البغدادي في نزوله وجولته في شوارع الموصل واختراقه باب الطوب .. وتطلعه الى بنايات قلب الموصل ، وقد غدت كئيبة ، وهو يتطلع في وجوه الناس التي صبغتها الاحزان وبانت عليها الالام .. ومر الموكب بكل شوارع الموصل ، وكانت السماء داكنة مذ حلت فيها اكبر فجيعة تاريخية واسوأ نكبة حضارية .. حتى صدور بيان من جمعية الجفون المقيدة ، وآخر من جمعية الذئاب الجائعة ، وآخر صدر من الهيئة العامة لجمعية الامم المقتحمة ، وصولا الى البيان ما قبل الاخير ، وأخيرا بيان صادر من عرش الله .. ويستطرد المؤلف قائلا : اغمض أبو بكر البغدادي عينيه . غاب في مكان مظلم، ربما إلى سهل متعدد الألوان والأشكال من الموتى والقتلى، من القاتلين والمقتولين، إلى عصف هادر ينهي رحلته في سفينة قتل الناس وتعذيبهم على أسس ليست إنسانية أبى مفارقتها ” .
داعشتيان : صناعة الاشرار
لقد وجدت كاتبنا المطير ناقدا دقيقا في روايته لهذه الظاهرة المقيتة التي سماها ” داعشتاين ” ، واشيد به انه قد اطلع بدقة على جملة من التفاصيل للاحداث التي عاشتها مدينة الموصل التي نكبت بداعشتاين ظلما وعدوانا ، ونالت من شروره الكثيرة ، وقد عانى ولم يزل يعاني الملايين الثلاثة من سكانها من جور داعشتاين وظلمه بين قتل للناس وسبي للنسوة اليزيديات وقطع للرؤوس ومهانات واذلال مع تهجير قاطع للمسيحيين كلهم من الموصل وتوابعها .. وكأن نينوى بطولها وعرضها غدت حديقة حيوانات لها اقفاص حديدية وداعشتاين تفعل بهم ما تشاء .. اما المشردون في الارض ، فلهم مأساة من نوع آخر ، بعد ان نزحوا او طردوا واستولي على دورهم وحلالهم واموالهم وضياعهم من دون وجه حق .. هنا ، تعد داعشتاين كرواية ابداعية ، اول عمل مبدع يمكن للقارئ ان يستقي منه بوصلته الخاصة به ، خصوصا وان المؤلف سبر غور هذه ” الظاهرة ” ، وقدمها على أفضل وأجدى ما يكون . لقد اشترك المسؤولون العراقيون في كل من بغداد العاصمة وجيوش العراق بتقديم اثمن هدية للاعداء من ارهاب داعشتاين اثر صدور الاوامر بانسحابهم المذل من الموصل ، وجعلوها لقمة سائغة لطغمة داعشتاين .. وبدا المؤلف يكتب عن تجربته مع الحدث التاريخي الذي هز كل الضمائر الحية .
النص الروائي : سيمولوجية التعبير
لا استطيع وليس من مهمتي الا تقديم الرواية للقراء الكرام ، اذ لا يمكنني تقديم رؤية نقدية لهذا ” العمل ” الذي آمل ان يتناوله المهتمون والنقاد والادباء وكل المثقفين بالعناية والفهم والتحليل بدءا من العنوان ” داعشتاين ” الذي اجد فيه استيفاء لعنصر التشويق, هذا بصرف النظر عن الاختيار الذكي والإيجابي لغة ومضموناً. وكان المؤلف واضحا في الذي يقوله لنا, معبرا بكثافة رائعة طرحها وباسلوب مختزل ذكي في اللغة التي استخدمها ، والتي اظهرت مدى قوة النص الذي سيبقى – كما اعتقد – شاهدا حقيقيا ومرئيا على تاريخ صعب جدا مر فيه العراق الذي تلاعبت في مصيره المخلوقات المشوهة باسم الدين والطائفية والعمامة ودولة الخلافة وباسم الله والتحزبات التي ظهرت على الساحة باسمه وما لها من رموز : اللحية والجبة والعمامة والحجاب والنقاب والوزرة والطرحة والسروال القصير .. الخ والتي غدت رموزا سياسية بامتياز . لقد ورد في السيميولوجيا – وهو : علم دراسة الدلالات والرموز- بأنها نماذج تتحرك ضمن منظور أشمل يتمثل ادراجها في منظومة تتكون من ستة عوامل تمثل عددا من الشخصيات وكلها تضطلع بدور أحدها ، ولما كان يمثلها داعشتاين ، فهي جميعا تمثّل دوره برموز متباينة لها مخاطرها كلها في بنى يطلق عليها ” دول ” او ” احزاب ” دينية او طائفية ، لا تتصف احداها الا بصفات خطيرة مشتركة لها من الأهمية ما يكفي لأن تجمعها منظومة فكرية متخلفة واحدة تبتعد فيها كثيرا عن مفاهيم هذا العصر في كل من الدولة والمجتمع الحديثين .
الموصل أم الربيعين .. لماذا ؟
اما هيكل الرواية فتقوم على العقدة التي يمثلها داعشتاين منذ البداية حتى النهاية ، كونها ظاهرة تاريخية سيكون لها تداعياتها في المستقبل على المجتمع العراقي كله ، ذلك ان داعشتاين لم يقتصر امرها على المركزية التي اقامتها في الموصل ، بل تمتد جغرافيا الى ابعاد جغرافية شاسعة ، ثم ان تأثيراتها الدموية طالت جملة من المدن والعواصم في العالم ، وفي مقدمتها بغداد وما توالى فيها من انفجارات دموية ذهب ضحيتها الالاف من البشر !
ولقد انعكست طريقة تفكير المؤلف الاستاذ المطير في كتابته للنص ، اذ ليس من السهل ان يكتب مثل هذا النص عن هذه ” الظاهرة ” غيره ، وخصوصا من حيث ما يتملكه من قيا الحداثة وروح العصر اولا ، ومن ثم التفكير الإجمالي أو التفصيلي, فيقدم وصفا عاما ، ثم البدء بالتركيز على الأحداث شيئا فشيئا من ناحية أكثر , او تفصيليا ليركز على الجغرافية المكانية مثلا أو اللوحات السايكلوجية والاحوال النفسية التي برع في توظيفها بعناية بالغة. وخصوصا عندما برع في توصيفاته واتباعه لثلاثة من المذاهب الوصفية ، ومنها الفكرية والنفسية والجغرافية ويظهر لي مدى عناية الاستاذ المطير وشغفه بوصف المكان وعقلية البشر .. وعزفه الممتاز على العناية الفكرية عموما ، والتي يحتاجها مجتمعنا وكل المجتمعات العربية والاسلامية ، ناهيكم عن ضرورة المعالجات النفسية لجيل كامل ، غدا ملوثا بكل الاوبئة التي اجتاحت عالمنا ، ويبدو لي ان العراق كان بيئة مساعدة لنمو كل الادران والامراض على نحو بنيوي عميق ، ودفع شعبه الاثمان الغالية .
الرسالة الاخلاقية
لقد تعمّق المؤلف جاسم المطير في دهاليز نفسية معقدة لهذه الشخصية الشريرة التي قادت مجموعات من الشخوص الذين نجح في حركتهم وقوتهم وغسل عقليتهم وجعلهم يتفاعلون داخل المنظومة الصعبة وكيفية توصيف الافعال وردود الافعال .. في ساحة الصراع ، وكيف رجحت كفة أحدها على الآخر ، بسبب ضعف الشخوص ، ورخو التلاحم البنيوي فيها بعد ان غابت الثوابت الحقيقية للعراقيين عنهم ، وثلم النزعة الوطنية ، وغرق البلاد بالانقسامات الدينية والمذهبية ، وتسجيل ذلك لمجموعة هويات لها ، فتعددت الثقافات التي بدأت تصارع احداها الاخرى على نحو دموي مقيت ، وفي بيئة اشبعت بالحروب والانسحاقات النفسية والثأرية ، وهروب القوى الفاعلة من المثقفين والمختصين العراقيين نحو الشتات في العالم ، وتشرذم الجهويات المحلية ، وتصاعد التقاليد البالية كالروح القبلية والتفاهات العشائرية ونزعات الغلو والتعصب للدين ، وللطائفة ، وللاعراق وسحق النزعة الوطنية العراقية . لقد ظهر لي وانا اقرأ هذه ” المخطوطة ” لرواية داعشتاين ، ان مؤلفها الاستاذ المطير قد ابدى خالص وفائه الادبي والاخلاقي لرسالته العراقية النبيلة من خلال قلم مثقف قوي التكوين وخصب التجارب ، ومعرفته تماما بتقنيات العمل الروائي بدقة, وكيف كتب روايته منتصرا لفكرته ,اذ بدا ثقل تأثيره وقوة إقناعه للقارئ بما قدمه من رؤى قيمية قوية وتصويرات بانورامية للمكان .. ورسم شخصياته ببراعة ، وإتقانه معرفة المناخ الصعب الذي دارت فيه شخوص متنوعة ومحكمة التوليفة السلوكية, وكانت الحبكة الروائية متعددة المسارات ، ومتشابكة الترابط, ونزلت تبحث في الدهاليز ، مشاركة الشخوص في تصاعد مستمر حتى النهاية .
واخيرا أقول :
انني اذ اقدّم هذا العمل الابداعي الى القراء الكرام ، لا يسعني الا ان ابارك للصديق المؤلف الاستاذ جاسم المطير عمله الرائع ، وقد اثبت في منتجه الادبي التاريخي هذا انه اول من كسر الطوق ، وكتب عن ظاهرة تاريخية مرعبة تجتاح حياتنا ليس العربية حسب ، بل تضرب بشرورها كل العالم .. واهنئ الرجل على جهده المبذول ، سواء في عنوانه وهيكليته وبنيته وفي الحوارات الممتعة وتشخيصاته الثمينة .. متمنيا ان تحظى هذه الرواية بالصدى الواسع ، مع تمنياتي للاخ المطير بالصحة والعافية لانتاج المزيد من الاعمال الابداعية الخلاقة .
سيّار الجميل
تورنتو – كندا في يوم 3 تموز / يوليو 2016