مصطلحٌ جديد لا تصادفه في موسوعات العلوم السياسية سابقا، بدأ توظيفه أخيرا، وقد فسّره المؤرخ الأميركي، كريك كراندن Greg Grandin ، على أفضل ما يكون بوجود حكومة خفيّة تآمرية عميقة في أحشاء الدولة، تمثلها مراكز قوى، أو سلطة دينية، أو اجتماعية مخفيّة عن الأعين، تعمل ضدّ المصالح الوطنية، لتكبح تطور الدولة دوما، وتقيدها وتسلب مواردها بشتى الوسائل، فتعرقل نمو المجتمع، والمشكلة أنه ليست هناك أيّة قدرة لمؤسسات الدولة الراسخة، يمكنها إيقاف الشرور العميقة وتحجيم دورها، أو حتى التقليل من أثرها في دول قوية وكبيرة، فكيفَ الحال إن كانت المؤسسات عاجزةً في دولة فاشلة. ويقال، من خلال الفكر المقارن، إن توصيف الدولة العميقة اليوم هو مضاد للدولة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة الأوائل منذ عصر الإغريق.
الكتابات عن “الدولة العميقة” ذكيّة وجريئة وغامرة واستقصائية، وأغلب أصحابها من اليسا الجديد في انتمائهم الذي لا يقبل الدسائس والمؤامرات والارتباطات المشبوهة للنيوليبرالية، والقوى الخفيّة المقنّعة التي تكون وراء كلّ الاضطهادات التي تتعرّض لها الشعوب المقهورة وسرقتها، كما أنّ الحالة العميقة لا يعيشها الّا الأشرار الذين ليس لهم الّا البطش والاستلاب والتآمر والتغلغل تحت مسمّيات لامعة. ما عانت منه بعض مجتمعاتنا العربية عند بدايات القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً عندما سلبت منها ثوراتها، ونكّل بأبنائها أولاً، وسحقت إرادة شعوبها ثانيا، وأوطانها ثالثاً، وتبعثرت خيراتها ومواردها رابعاً، كما دمرّت مدنها وبنيياتها التحتية والفوقية خامساً، هذا الذي عانته بعض مجتمعاتنا العربية وقع من خلال حالات عميقة بأدوات قذرة.. ونسجت قوى شريرة أهدافها نسيجًا شاسعًا في التفسير الاجتماعي لتدمير بلداننا، وجعلها تقع في مجال عمل سلالات شريرة. وكان العراقُ في مقدمتها.
يجد المؤرخ أن نماذجَ تاريخية عدّة قد وجدت في الدولة العميقة، إذ يقال إنّ سلطة الرب هي بمثابة دولة داخل دولة، ذلك أنّ رجال الدين، مثلاً، كانوا أصحاب دولة، وقد تكون قوتهم أكبر من قوة الملك نفسه، بل كان البابا نفسه يتوجهم على عروشهم. ونابليون بونابرت عندما توّج نفسه إمبراطوراً عام 1804، كأنه أزاح الدولة العميقة من إمبراطويته الأوروبية، وكلّ من أسهم في تأسيس الحكم الدنيوي كأنه أزاح عن طريقهِ قوّة دينيّة من طريقهِ، وتحرّرت دولته من قهر القوى الخفية. وأنّ التسّرب من الحالة العميقة يخلّص البلاد والعباد معاً من الدولة العميقة. وعليه، فإنّ لأية قوى خفية (أو معلنة) ممتلكاتها الخاصة، ونفوذها السياسي، ومليشياتها المسلحة، ومنظومتها الخاصة، وسلطتها الإعلامية، وتأثيرها الاجتماعي على الناس داخل الدولة، وتآمرها السياسي القوي، وتدخلاتها السافرة باستخدام أساليبها وقوّتها في الدولة باسم الدولة، لتحقيق طموحاتها وأهدافها الخاصة، تعدّ هذه حالة عميقة في الدولة العميقة، ويصعب جدّاً قهر أيّة حالة عميقة الّا بتغيير جذري للنظام السياسي.
لقد استخدم هذا “التعبير” (أو التوصيف) أخيرا في العراق مجرّدا، إذ جاء ذكره في المنهاج الوزاري الجديد، فضلاّ عن توظيفهِ أوّل مرّة في الثقافة السياسيّة العربية. ولكن من دون التوّغل في معانيهِ، على الرغم من صدى مفهومه المفعم بعلامات الاستفهام. وعليه، يمكن القول إنّ العراقَ ولبنان، بشكلٍ خاص، دليلان على ذلك، وعلى الرغم من مؤسسّات الدولة فيهما، الهشّة، وربما تصل الدولة في العراق إلى الأسفل، إذ عدّها العالم دولةً فاشلة، ولم تعد دولةً حديثة، وهي أيضاً مدانةٌ من شعبها، اذ تزدحم فيها مراكز القوى المؤثّرة على صناع القرار، ناهيكم عن دور رجال الدين الذين يتدّخلون في تحديد مصائر البلاد والعباد.
وعليه، لا تلبّي الحالة العميقة التي يعيشها العراق أبداً طموح النخبة، ولا مطالب الجماهير. ولكن حتى إن تمّ إدراك الجماهير مخاطر ما يجري، فانّ هوسهم الديني، أو عواطفهم الطائفية، تجعلهم أسرى واقعهم، وهم مكبلّون بقيود المشاعر العميقة، وليس باستطاعتهم أن يفعلوا شيئاً، وحتى النخب، فهي تخاف قوّة السلطة السرّية التي تمارسها المليشيات والعصابات العسكرية والجماعات البيروقراطية والطفيلية المرتبطة بمراكز الأحزاب والقوى السياسية، وهي تكبر وتتغلغل في كلّ المفاصل، وتغدو منظومة متكاملة تجمع كلّ الطبقة السياسيّة، وكلّ من يلتحق بالديناصورات الكبار الذين لا يقف أمامهم أيّ جدار أو أيّة موانع، فهم لهم القدرة على خنق الدولة، وسرقة أموالها العامة، والعبث بأمنها القومي، والبطش بالأحرار وسحق كلّ صوت يعارضها، إذ إنها تمتلك سلطة سرّية تمارسها عصاباتها باسم الدولة، ولها تأثيرها المخيف على المؤسسّات، وخصوصاً التشريعية والقضائية، بل وأعتقد أن الحكومة نفسها تخشى سطوة الحالة العميقة وبطشها، اذ تبقى مرتبطة بمؤسسّاتها السرية، وهذا ما كان في حكومتي حيدر العبادي الراحلة، وعادل عبد المهدي الحالية. ولدت المنظومة العميقة الفاسدة في العراق منذ عهد الاحتلال 2003، وتطورّت على عهد المالكي، ولم يزل يقف على رأسها من دون أن يزحزحه أحد، ولم يزل يُلقي بتصريحاته وكأنه الحاكم بأمره.
ويذهب كرايك كراندن إلى أن المصطلح يعني طبقة سرية ربما نكون سلالية، إذ يرث الابن أباه، للاستحواذ حتى على الأمن والاستخبارات، وتشكيل “مجتمع مخابراتي” لتفعيل دور “حكومة غير مرئية”، لاستخدام الباربولتيكس و”السياسة العميقة” لها ميزانيتها الخفية. وعليه، تساءلت برلمانية عراقية، قبل أيام، عن حقيقة وجود ميزانية خفية غير مرئية ضمن الميزانية العامة للعام 2018 ! علماً أنّ تمويل الدولة العميقة لا تُعرف مصادره، على الرغم من التفاصيل. وكلنا يتذكّر أن “إيران – كونترا” حدثت بالفعل. وكما ثبت ذلك عند الجميع بعقد صفقة فاسدة، فالمؤامرات موجودة بالفعل في دواخل السياسات، سواء في النظرية القانونية أو في السياسة: “ووترغيت”، “إيران – كونترا”، فضيحة الادخار والقروض في الثمانينيات/ التسعينيات، “وصفتها وزارة العدل بأنها” ألف مؤامرة. من الاحتيال والسرقة والرشوة، وهي “أعظم جريمة مالية في التاريخ” الذي نعرفه، وما خفيَ كانَ أعظم.
نشرت في العربي الجديد / لندن يوم 29 نوفمبر / تشرين الثاني 2018 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/