مقدمة
أود بداية ان أوضح للقارئ الكريم انني – هنا – اقدّم دراسة في تاريخ العراق الجمهوري المعاصر من خلال محور كتاب نشره مؤخرا الصديق الاستاذ ليث الحمداني رئيس تحرير جريدة البلاد الكندية ، وعنوانه : «أوراق من ذاكرة عراقية : هوامش من سيرة صحفية « ، وكان الرجل قد اهداني مشكورا نسخة منه منذ اكثر من عام مضى ، وهو الصادر عن مطابع دار الأديب، عمان – الأردن، ط 1، 2016 ، ولم يتسن لي اكمال قراءته الا قريبا ، اذ تمتعت به جدا ، ويكشف الرجل باسلوبه المتميز عن معلومات لم تكن الناس تعرفها ، وهو يحكي لنا مخاض تجربته المهنية في العراق ، وخصوصا اولئك الذين تعامل معهم على مختلف العهود الجمهورية خلال ستين سنة من حياة العراق المعاصر . وأود ان أشير للقارئ الكريم بأن انتقاداتي لتلك العهود الجمهورية وما تراكم فيها من اخطاء وخطايا على امتداد ستة عقود من الزمن ، لا يعني انني اقدّم تزكية تاريخية للعهد الملكي في العراق ، فهو الاخر ، كان قد اتسم بجملة اخطاء كبيرة مورست على امتداد 37 سنة ، مع صراع على السلطة وهيمنة النخبة السياسية والاستهانة بالجيل الجديد ، والمضي عكس تيار اليسار في خضم عالم منقسم وبعيش حربا باردة بين معسكرين ، مع وجود المحسوبية والمنسوبية والعشائرية ، ولكن يقف ازاء ذلك كله رسوخ مؤسسات دولة، وتطور كفاءات ، ورعاية ابداعات ، مع خطط لمجلس اعمار .. واستقرار مجتمع ، ووحدة بلاد .. الخ وساخضع على التوالي بعض الكتب الجديدة التي وصلتني للدراسة والنقد ايضا ، وسنتعرض فيها لجوانب من حياة العراق الملكي والجمهوري المعاصر . وأود القول ان ملخصا لهذه ” الدراسة ” قد نشر في قسمين من جريدة الزمان ( طبعة لندن ) في يومي 14 – 15 كانون الثاني / يناير 2018 ..
أولا : المدخلات
1/ اهمية المذكرات
قّدم مذكرات الاستاذ ليث الحمداني الصديق د. عبد الحسين شعبان بمقدمة طويلة جدا ، اذ عتبت عليه ان يقدّم كتابا بهذه الطريقة التي استحوذ فيها من خلال الكتاب على قارئه ، وما هكذا يكون اسلوب تقديم الكتب ، اذ كنت اتمنى عليه مخلصا ان يختصر كلامه في تقديمه على اهمية الكتاب ومزايا صاحبه بدل ان يغرقنا بفقرات لا علاقة لها بالموضوع ، وكان من الاهم أن ينشرها لوحدها بعيدة عن نص هذا « الكتاب « ، كونها تحمل تفاصيل شخصية لا علاقة لها بالموضوع ! كما حملت « المقدمة « تعابير مغرقة بالمجاملة والاكثار منها مع اسهاب في غير محله ، واسترسال لا حاجة له ابدا في هذا المكان وعلى حساب اوراق الكتاب ومضمونه ! وكم كنت أتمنى ان تجمع عبارات عديدة لتنشر في مكان آخر ، اذ يتضمن بعضها بعض الافكار الجيدة .
لقد وجدت في النص الذي كتبه المؤلف الاخ الحمداني ، انه نص زاخر بمعلومات تاريخية جديدة ، وهو يتحدث عن حقبة تاريخية مهمة عايشها بكل احداثها ، وخصوصا في ميدانه الصحفي على امتداد قرابة اربعين سنة . وعليه ، فان مادة « الكتاب « ومضمونه : اعتبرها ليس مجرد مرجع عادي ، بل تعدّ مصدر معلومات ، وذاكرة لها مصداقيتها لصحافة العراق خلال العقود الاخيرة الاربعة من حياة العراق المعاصر ، وهي مرحلة زمنية تشحّ فيها المعلومات ، وتختلط فيها الاراء ، وتختفي خلالها الحقائق ، وتصطرع فيها التيارات السياسية والدعايات المؤدلجة والشعارات الثورية مع خطابات المعارضة من خارج الحدود منها الشجاع ومنها ما ينشر على استحياء .. ولكن تنمو خلال تلك المرحلة جملة من الابداعات الادبية والفنية والتشكيلية ، فضلا عن نمو الصحافة وضمورها ، وهي التي كانت معبرّا اساسيا عن ضمير العراقيين على امتداد القرن العشرين .
ان كتاب ليث الحمداني يحفل بحكايات وقصص وأراء ومعلومات وتقييمات وسجالات ونقاشات ونماذج ومواقف .. كتبها بأسلوب أدبي جميل ، وهو بكتابه هذا ، يفتح الابواب امام الاخرين لكتابة ما يعرفونه وما خبروه او عايشوه من حقائق الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في البلاد ، ابان عهدي احمد حسن البكر 1968 – 1979 وصدام حسين 1979 – 2003 ، وخصوصا خلال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988 وما تبلور بعدها من تداعيات ومؤثرات .. ثم الحدث الدراماتيكي المفاجئ بغزو العراق للكويت عام 1990 ، وما جر هو الاخر من تداعيات وآثار صارخة .. ومن بعدها كذلك سنوات الحصار القاسية اللاحقة وصولا الى العام 2003 ، حيث سقوط النظام السابق ، وما ستجر اليه الاحداث الدراماتيكية من تداعيات مأساوية ومتغيرات جد صعبة . .
2/ المؤلف .. من يكون ؟
ان ليث الحمداني ، صحفي عراقي متميز ، كنت اتابع مقالاته ومحرراته وتسجيلاته منذ زمن بعيد في العراق ، وخصوصا من خلال جريدة الاتحاد ، وهي جريدة مستقلة .. وقد عرفنا من خلال اوراقه كم هي خبرته المهنية العراقية واسعة مذ بدأ هاويا مراسلا صحفيا ، ثم تمكّن من الصناعة الصحفية ، والتحرير الصحفي ، والادارة الصحفية ، والاشراف الصحفي ، والمحرر الاساسي ورئاسة التحرير . من هنا تنبثق خبرته المخضرمة اليوم بين زمنين ومكانين .
وعليه ، فان شغف الرجل بمهنته هذه وعمله فيها ليل نهار جعله واحدا من اهم المبدعين الصحفيين العراقيين على امتداد نصف قرن مضى ، بل وغدا يصلي في محراب هذه المهنة ليل نهار ، وهو يحفظ من خلالها اسرارا سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية عن بلد منذ كانت تهزه الانقسامات السياسية والشعارات الصارخة حتى تجرد من حرياته الابداعية وغدا مسجونا في زنزانة مظلمة، وصولا الى تمزقاته الطائفية على ايدي طبقة سياسية جاهلة ومراوغة وفاقدة للروح الوطنية ! كان الرجل يجدد نفسه حسب المراحل الزمنية التي يمر فيها مع تمسكه بمهنيته اولا واخلاقياته ثانيا .. مع عشقه للصحافة الساخرة التي احبها منذ صغره ، ولازمته الفكاهة على امتداد حياته المهنية حتى اليوم . لقد عاصر مختلف العهود الجمهورية ، صحفيا وناشطا وسياسيا ، وانتهى به الامر اليوم في كندا رئيسا لتحرير جريدة رصينة شهرية الصدور ينشرها من مدينة لندن اونتاريو التي يقيم فيها . ما يعجبني في الرجل ايضا صراحته ووضوحه ، فهو يعرض كل ما يدور في رأسه ، ولم يتحفّظ ابدا على بعض صفحات ذكرياته ويعرض على ما يعجب الاخرين ، بل يبدو صريحا في كل ما مرّ به ، وكتب عن كل من عمل معه او برفقته او تحت سلطته .. والامر الاخر ، انه يميل نحو عرض الايجابيات اكثر من فضحه للسلبيات ، بمعنى انه يميل في نواياه الى الاخذ بالحسن دوما ، وهو لا يسيئ الظنون الا بعد ان يتأكد من الشيئ القبيح بالرغم من معاناته ازاء تقلبات الزمن ، وما اكثر تلك التقلبات في العراق الجمهوري المعاصر .
3/ شاهد عيان على دراما الصراعات العراقية
ان ذكريات الاخ ليث الحمداني تضم معلومات جد مهمة عن بعض مؤسسات الدولة والتي نالها الخراب ، وحل بها الخلل مذ دخلت السياسة والايديولوجيات والشعارات الفارغة والتحزبات التنظيمية في كل الدوائر والمرافق الرسمية والاجهزة والمؤسسات المدنية والعسكرية ، وعاش اغلب العراقيين على هوس تلك الشعارات ردحا طويلا من الزمن ، تلك « الشعارات « و « الدعايات « التي انتقلت مانشيتاتها من عهد سياسي الى آخر ! مع التكتم على الخلل الذي كان العسكريون من ورائه ، وهو الذي سمح لكلّ من هب ودب ان تكون له حصة في حكم البلاد ، اذ عرف العراق من العام 1958 عملية توزيع المناصب بشكل عشوائي ، واختلطت الامور ، وضاعت الموازين ، واصبح الشارع وعواطف الناس فيه هو المحرك لزعماء العراق الذي جاءوا فجأة الى الحكم من دون اية معرفة عامة بالبلاد ، كما لم تكن لهم اية خبرة بمؤسسات الدولة واجهزتها ، وغدا الصبيان والجهلة وزراء وسفراء ومتصرفين ( محافظين ) ومدراء عامين .. الخ .. بل وعدوا المجتمع مجرد افراد خانعين في ثكنة عسكرية في دولة جمهورية اسموها بالجمهورية الخاكية الخالدة !
4/ الاخوة الاعداء : الصراع بين الماركسيين والقوميين
وراح المجتمع العراقي يصارع بعضه بعضا من خلال تيارات سياسية كمنظومات متنازعة دمويا حول الاستحواذ على السلطة والنفوذ وكسب المصالح والمكاسب ، لا من اجل مبادئ وطنية او قيم عليا ، وانجرفت الالاف المؤلفة من الشباب واغلبهم من المراهقين مع هذا المد او ذاك من دون اية دراية او فهم ، وانساقوا تلهبهم عواطفهم وخصوصا بين تيار شمولي يمثله الماركسيون ( واغلبهم من الشيوعيين ) وبين تيار شمولي آخر يمثله القوميون ( واغلبهم من الناصريين والبعثيين مع وجود بعض الاسلاميين ) ، اذ عاش المجتمع العراقي حربا سياسية باردة وساخنة في اماكن واحيان مختلفة ، ووصل التنافر الى اقصى مدياته ، بحيث جرّ الصراع الى حدوث حمامات دم ومجازر وقتل وسحل ونهب للممتلكات وحركة اغتيالات بشعة مع شعارات مقززة . واستخدم الجيش في محاولات انقلابية عديدة ، واعدم العديد من الضباط والقادة العسكريين كونهم من المتآمرين والعملاء .. ان كل الضباط العسكريين الذين حكموا العراق الجمهوري ، لم ينجحوا سياسيا في قيادة البلاد ، فضعفت الدولة ومؤسساتها ، واضروا بالمجتمع العراقي ضررا بالغا من خلال قراراتهم البلهاء ، كما اشاعوا استخدام العنف ، ومورس التعذيب بابشع صوره ، وقتل احدهما الاخر حتى وصلت التصفيات الى حد يفوق التصور !
5/ السلطة .. هي حلم التافهين !
لقد اطلعتنا ذكريات ليث الحمداني على سجايا بعض المسؤولين المخلصين من الذين حملوا العراق على كاهلهم وناضلوا من اجل المبادئ التي حملوها ، في حين تلمسنا كم وصل الى السلطة او الى المناصب من اناس رعاع واشقياء وقطاع طرق لم يستحقوا ان يكونوا في اماكن لم يحلموا بها أبدا جراء سوء ما حملوه من نزق وتفاهة ، او ما كانوا عليه من امراض نفسية متوارثة ، اذ تجسدت عندهم ركامات من الضغائن والاحقاد والكراهية ، وما فعلوه من وشايات ومشاغبات ، وما قاموا به من دسائس وتلفيقات وخيانات وايقاع بالاخرين ظلما وعدوانا ، وكل هذا وذاك يقترن بالوعي المزيّف والثقافة التافهة وضعف المعلومات وترويج الشعارات الكاذبة .. مع عادة استخدام الاغلبية للمجاملات والمداهنات ، وما كانوا يفعلونه في ظل اي نظام من التملقات لهذا المسؤول وذاك الوزير ، او هذا المدير او التصفيق لهذا الزعيم او التمسح بذاك الرئيس .. وهذا ما أقوم بمعالجته اليوم في كتابي الجديد عن « تشكيل الشخصية العراقية « – ينشر اليوم على حلقات في صحيفة آكّد العراقية الكندية في اقليم اونتاريو بكندا – التي كان لها دورها في صنع الخراب والدمار لبلد كان يمكن ان يكون من افضل البلدان في العالم ابان النصف الثاني من القرن العشرين ، نظرا لقوة موقعه ، وكثرة موارده ، وجمال بيئاته ، وذكاء اهله .. لقد ابتذلت ” السلطة ” في العراق ، فابتعد عنها الشرفاء ، لتغدو قريبة المنال من كل التافهين .
ثانيا : المضمون
1/ الامانة التاريخية
كان المؤلف حريصا ان يقول الحقائق كما عايشها ، والواقع كما هو عليه ، وقد كان نزيها في شهاداته ، اذ لم يسئ الى احد ولم يبالغ في تقدير المواقف مستخدما لغة سهلة الفهم ، ولكنها عميقة في المعاني .. وكان ذكيا في رسم الاحداث من دون اية مغالاة بأي اتجاه ، علما بأن الواقع كان معقدا جدا ويعج بالتناقضات التي لا تعد ولا تحصى ، وهي تعكس حالات كان المجتمع العراقي قد تشبّع بها . وعليه ، فانني انصح كل الاجيال القادمة في العراق اعتماد هذه « المذكرات « مرجعا لكتابة تاريخ بعض الجوانب لمن يتدارس مشكلات العراق في مؤسساته ، وما عانت منه الدوائر السياسية والاعلامية والعسكرية التي كانت وبالا على مؤسسات اخرى تخص الخدمات والاقتصاد والتخطيط والتربية والتعليم والصحة والمرافق الحيوية الاخرى .
كتب مقدم الكتاب الصديق د. عبد الحسين شعبان يقول : « لقد كان الحمداني وفياً للصداقة إلى أبعد الحدود، وفي الوقت نفسه وفياً للحرف والمهنة، التي لم أصادف أحداً امتلك هذه الإمكانات الكبيرة وعمل في حقول مختلفة وتجوّل في مواقع عمل ومطبوعات كثيرة، وظلّ عند مواقعه يتحسّس الأرض التي يقف عليها، بواقعية مذهلة وقدرة عجيبة على شمّ المخاطر والتقاط الجوهري من الأشياء ومعرفة خفايا وخبايا وأسرار يحفل بها الكتاب، بل إنني حسبما أعرف ، لم يعرفها كثيرون، حتى من المقرّبين لتلك الفترة والمرحلة، خصوصاً في أجواء السرّية المطبقة، فكل شيء، بما فيه معلومة بسيطة تصبح من أسرار الدولة وجزء من الأمن الوطني، فما بالك بمعلومات في غاية الخطورة « .
ان « كتاب ليث الحمداني، شهادة شفيفة على مرحلة كاملة بما فيها من تناقضات وصراعات وتنازعات مشروعة وغير مشروعة، ناهيك عن كونه عرض بانورامي لعدد من مفاصل الدولة المهمة وقطاعاتها المختلفة وعدد غير قليل من إدارتها ومسؤوليها وطريقة تفكيرهم وأساليب عملهم، لاسيّما خلال فترة عصيبة، سواء باتجاه الحكم تدريجياً نحو الانفراد بالسلطة وإقصاء خصومه أو منافسيه من القوى الأخرى أو من داخله، فضلاً عن الحرب العراقية- الإيرانية وما تركته من جراحات، زادها عمقاً وألماً مغامرة غزو الكويت في 2 آب / اغسطس 1990 ، وحرب قوات التحالف الدولي ضد العراق 1991 ، حيث بدأ مسلسل الحصار الاقتصادي « .
2/ اسرار عهدين جمهوريين
ثمة اسرار تاريخية يكشف عنها الاخ الحمداني في ما يخص الفترة بين 1963 – 1968 ، وما فيها من فساد ، وخصوصا ما يخص التسلح والصفقات والضحايا من تأثيرها ، فضلا عن الغباء السياسي الذي حظي به البعض في معالجة القضية الكردية .. واذا كان الاخ المؤلف له تقييماته الايجابية عن بعض المسؤولين العراقيين خلال تلك المرحلة وما اعقبها ، فانني اجد ان كل المسؤولين السياسيين القياديين والتنفيذيين والعسكريين لم يكونوا مؤهلين لشغل تلك المناصب كونهم اتوا الى السلطة باساليب غير شرعية ابدا ولا مهنية ولا احترافية ، وخصوصا عندما نصّب العديد من القادة العسكريين المسيسين في مناصب وزارية وادارية وصلت الى وزارة مثل الثقافة والارشاد ، اذ عاش العراق منذ العام 1958 سلسلة انقلابات عسكرية وحزبية اتت بمسؤولين الى السلطة من دون وجه حق ، وجلسوا على الكراسي بلا فهم ولا مؤهلات ولا اية خبرات ولا تواريخ سياسية ، فاساءوا الى الحكم ، وان كل ما صدر من قرارات وما شرع من قوانين كان يخالف الشرعية جملة وتفصيلا !! علما بأن الكوادر الوظيفية العراقية كانت في اغلبها نزيهة ومخلصة في مهنيتها وقوة عملها ومنتجها قبل ان تتلوث اثر العام 1979 مع اندلاع الحروب واستشراء الدكتاتورية وانتشار الرعب ، وفي قناعتي الراسخة انها كانت نتيجة لما عاشه العراق لاكثر من عشرين عاما 1958- 1979 على مرحلتين اثنتين:
اولاهما الجمهورية الخاكية وتسيّد العسكريتاريا القاسمية والعارفية على اغلب المؤسسات الحيوية مع تفاقم الصراعات الايديولوجية بين الماركسيين والقوميين ، وبين القاسميين والناصريين ، وبين الشيوعيين والبعثيين .. الخ
وثانيهما الجمهورية الحزبية على عهد احمد حسن البكر وتصفية كل الخصوم السياسيين والعسكريين ( وحتى بعض المستقلين المدنيين وشيوخ العشائر ) في قصر النهاية وخنق اي صوت معارض بابشع الاساليب ليتم قطف الثمار عام 1979 الذي بدأ بمجزرة مؤامرة الرفاق المرعبة وهيمنة صدام حسين على كل العراق حتى العام 2003 الذي تكلل بالاحتلال الامريكي الذي اتى بجماعات سياسية هزيلة غير متمرّسة سياسيا ولا اداريا ولا عسكريا كي تغدو طبقة سياسية حاكمة مهيمنة ناهيكم عن طغيان نفوذ ايران في العراق ، اذ كان العراق هدفا استراتيجيا لايران سعت اليه منذ وصول الامام الخميني الى السلطة عام 1979 . .
3/ تنوّع النخب العراقية
بدأ ليث الحمداني مسيرته الصحفية مذ قدم اصلا من الموصل الى بغداد مشبعا بثقافة متمكنة ، ونفسية طموحة ، ومنطلقا من بيئة زاخرة بالمواريث القوية ليكون في بغداد العاصمة الكبيرة التي تتميز بثقلها وتنوع ثقافات ابنائها وازدحام مؤسساتها بالادباء والاساتذة والكتاب والشعراء والفنانين والمسرحيين والتشكيليين .. بدأ خطواته مصححا ، وانتهى رئيس تحرير فهو يعيش مع الاوراق والاخبار والمقالات والمتابعات ليل نهار وشغفه بالقراءة لكل ما كان يصدر بالعربية من صحف ومجلات طوال حياته ، ولقاءاته مع الناس المتنوعين في مركز يقصده كل صاحب شأن وكل المثقفين في حياة جيل كانت الصحافة متنفسه الاول والاخير ، فكان ان عقد صداقات استمرت طويلا ، وشهد فصول ازمات ، وتبدل رجالات ، ومجالسة اساتذة وكتّاب وعلماء ولغويين ومثقفين حقيقيين ، وتصادم متناقضات ، وتمرس مذيعين ومذيعات ، مع ابداعات فنانين وفنانات مطربين ومطربات مسرحيين ومخرجين وممثلات .. فمنهم من يذكره سريعا ومنهم من يطيل الوقوف عنده هنيهات .. وكل تلك الكوادر قد ساهمت في بناء العراق المعاصر ، لولا هجمة العسكريين وغدر المجانين من الساسة للاستحواذ على السلطة من خلال الانقلابات .. والضحك على العراقيين المهوسين بالشعارات الخيالية التي لا يمكن تحقيقها على ارض الواقع أبدا !
4/ معاناة في التعامل مع قادة ومسؤولين جهلة
لكن الرجل عانى كثيرا ، وخصوصا في تعامله مع سياسيين جهلة لا علم لهم بالصحافة ولا دخل لهم بالثقافة ، وكم عاش من مفارقات وما لها من معاتاة ومواجهته مواقف مرعبة ومخاوف وهو يفصح عن شدة الشعور بالقسوة لدى الصحفي الجاد ، وهو يعمل موظفا في دائرة رسمية بعيدا عن طموحه ورغباته وامنياته . كانت معاناة الحمداني كبيرة ، اذ كان واقعا بين مطرقة السلطة وسندان المهنة ، وذاك لعمري حرج كبير ، فهو لا يستطيع ابدا مخالفة الاوامر الصادرة عن السلطات السياسية والادارية وبنفس الوقت ليست له القدرة على تزييف الحقائق وفبركة الاحداث كي لا يسئ الى مهنته الاكثر حساسية وخطورة وخصوصا في العراق ، فالصحفي المحترف لا يمكنه وقت ذاك الا المشى على المسامير او الجري فوق الجمر .. انه الراكض في حقل الغام مدمّر ! ان تسلّط قادة من الحزبيين الجهلة على مؤسسات حيوية في الدولة ، مثل القطاع الصناعي واصدار اوامر بانهاء كل التنظيمات النقابية في العراق لاسباب سياسية وليست مهنية ، واتباع اساليب غير اخلاقية ولا انسانية ابدا ، وكبت اي صوت حر يقوم بنشر نقدات ، او يعارض اي قرار ، فهو يدرك ان مصيره الموت المحتم .. ويقدم الحمداني مثالين للمقارنة او نموذجين مختلفين اولاهما طه الجزراوي بكل صلفه ورعونته وعنجهيته ، وثانيهما فليح حسن الجاسم بكل مرونته وهدوئه وقد دفع حياته ثمنا لموقفه الرافض .. ثم يسوق لنا المؤلف نموذج ناجح محمد خليل ، وهو الاكاديمي المطيع ، ولكن محمد عايش الذي اعقبه حول الوزارة الى منظمة حزبية .. اي ان مؤسسة كهذه يقودها عامل متخلف جاهل ويحولها الى وكر حزبي وبعد اعدامه تسلم الوزارة طاهر توفيق العاني وقد وصفه المؤلف بـ» الوزير الطيب والنزيه»، واعتقد ان الوزير بحاجة الى الخبرة والذكاء ايضا ، فما مؤهلات هذا الاخير ” الطيب والنزيه “، ليتسلم هذا المنصب ؟ المشكلة ليست في طيبته او نزاهته ، ولكن في ضآلته ازاء هذا المنصب ، اذ حدثني احد اعيان الموصل عندما كان طاهر توفيق العاني محافظا لنينوى ، وكان يتنقل في بعض الامسيات بين مجالس عدد من شخصيات المدينة المعروفين ، فزار المحافظ مجلس احدهم في بيته مساء ، وضمن ما دار من احاديث ، سأل احد الاساتذة الحاضرين المحافظ الضيف قائلا : ان من تولى ادارة مدينة الموصل على العهد الملكي ، قام ببناء الحدائق مثل حديقة الشهداء وحديقة البلدية وحديقة باب الجسر التي شبهت بحدائق لوكسمبورغ ، وكانت جميعها متنفسا للاجيال ، وصنع النوافير ، بل وشيّدت غابات الموصل النموذجية التي عدّت رئة للموصل أم الربيعين .. واليوم ، فان هناك مساحات شاسعة بين كليات الجامعة ومجموعة من التلول بحاجة الى ان تكون جنائن وحدائق واشجار اسوة بجامعات العالم ، وبامكانكم تحويلها من ارض جرداء الى حدائق غنّاء تزدحم بالطيور والعصافير .. فقاطعه العاني قائلا : والله انت بطران ، الناس في الموصل لا تشرب الماء ، وحضرتك تريدني اسويلكم حدائق وازرع لكم اشجار وزهور ؟؟؟؟ نظر الجالسون احدهم في الاخر ، وهب المحافظ العاني مغادرا . ان مجرد التأمل في هكذا اجابة تخبرنا عن ضحالة العقلية التي حكمت العراق منذ ازمان وحتى يومنا هذا مقارنة بالرجال الافذاذ الذين كانوا بناة رائعين للعراق !
5/ مأساة طارق حمد العبدالله
ويحكي الاخ الحمداني لنا عن تجربته الوفية مع طارق حمد العبدالله، فيسهب عنه اذ كان قد خوّله صلاحيات كبيرة من اجل تسهيل مهمة الصحفيين وانشطتهم وفعالياتهم ، وقد توثقت عرى العلاقة بين المؤلف وبين العبدالله ، ويقدم لنا المؤلف صورة سردية تراجيدية مرعبة عن نحر العبداللة والتي قيل ان الرجل قد انتحر زورا وبهتانا . لقد وجدنا المؤلف يوثق اخلاصه في فصل كامل خصصه عن العبد الله ، ويميط فيه اللثام عن اسرار نحره ، وفي هذا الفصل يهدي ما يكتب الى روح الرجل « الانسان الذي لن انساه مهما مرّ الزمن « – كما يقول المؤلف – ، وفيه اعتذار منه لتأخر نشر هذه الاوراق كيلا توظّف في الضد . ويكتب الحمداني سيرة العبدالله وثقته به ودفاعه عنه عند استدعائه الى دائرة المخابرات للتحقيق معه .. ويصف نجاحه وانسانيته وكيف كان ذلك سببا في تصفيته من خلال الرسالة التي كتبها الى صدام حسين . وكان العبد الله قد تعّرض لمحاولات اغتيال نجا منها ، ولكنه نحر في نهاية المطاف بدم بارد ، وبكل ما اتصف به من ( خصال ) .وثمة رأي مخالف سمعته من طرف آخر ، يقول بأن صدام حسين استخدم العبد الله جاسوسا له على احمد حسن البكر ، وانه اعتقل لاحقا واجبر على الاعتراف بجرائم لا اساس لها من الصحة بعد ان هدد بالاعتداء على شرف بيته أمامه !!
6/ صناعة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وخنقها
لا يمكنني تعداد الصحف والمجلات العراقية التي ساهم في اصدارها او تحريرها الاخ ليث الحمداني ، فهي كثيرة ومتنوعة سواء كانت حزبية ، او مؤسسية ، او مستقلة ، أو مهاجرة .. كما ومر الرجل بنماذج عدة من العراقيين : ساسة ومثقفين ، حزبيين ومستقلين ، اكاديميين ومختصين ، عربا وكردا وغيرهم من ابناء الطيف .. كما ويبدو من خلال ذكرياته انه قد اصبح ابنا حقيقيا لبغداد كونها العاصمة التي جمعت كل ابناء الطيف من مدنيين وعسكريين ، من قادة ومسؤولين الى مواطنين عاديين .. من نسوة الى رجال سواء كانوا من المثقفين او الفنانين او العمال والصناعيين ( بشكل خاص .. كما ويتذكر بعضهم من المخلصين ، فيقف عند هذا وذاك وقفات يذكرهم فيها بالذكر الجميل ، و خصوصا اولئك الذين زاوجوا بين الحزبي والمهني ، وعانوا طويلا من هيمنة « السلطة « وشراستها قبل ان تتحول الى وحش بشع مخيف مع توالي الايام .
ويرى المؤلف ان الصحافة العراقية لم تتقدم مؤسسيا مهما تطورت كونها تدار في الغالب من قبل حزبيين وكوادر مرتبطة بالسلطة التي يهيمن عليها بالتدريج : زعيم اوحد ، ومن ثم مؤسسة عسكريتالية ، او اوليغارية حزبية ، او حزب واحد ومن ثم رئيس واحد يخاف منه الجميع خوفا مرعبا ، وكلها لا تدرك معاني العمل المهني واخلاقياته ، اذ ان المعيار الوحيد لديها يتمثل بالدرجة الحزبية والالتزام الحزبي – كما يذكر – . لقد تعّرض المؤلف ايضا للتحقيق في مديرية الامن العامة ، مما سبب له ذلك صدمة نفسية قاسية جراء وشايات حذق بها بعض العراقيين وبجدارة متناهية . مستذكرا اسماء بعض الخيرين من العراقيين ، وخصوصا الملتزمين بوطنيتهم .. كما ان تبدّل الشعارات لدى العراقيين كثيرا ما يتم بين يوم وليلة . ان اسوأ ما تمّ في السبعينيات من القرن العشرين وقوع الشيوعيين في براثن البعثيين بتأسيس جبهة سياسية عراقية واحدة ، ولا اجد حتى الان اي تفسير عقلاني من قبل الشيوعيين الذين نسوا بسرعة خصومتهم السياسية والايديولوجية دمويا مع البعثيين وراحوا مشاركين مع كل من الاكراد والبعثيين من دون اية تيارات سياسية اخرى ، فكانوا ان سلّموا رقابهم للجلاد الذي نجح في اختراقهم ، وكشف كل تنظيماتهم وخلاياهم ، مع ملاحقات بالكبت والتحقيق اثر اي نقد او خلاف في الرأي مما جعل العديد من الكتاب والشعراء والفنانين العراقيين ( وخصوصا اليساريين ) يستخدمون اللغة الايحائية ولغة الاشارة والرموز ، ولما تبيّن لهم ان الجبهة مشروع هش في العراق لبقاء روح الكراهية والاحقاد كان الاوان قد فات مما ادى الى حل هذه المؤسسة المضحكة التي تعلم البعثيون كيف يصنعونها على غرار ما حدث في كل من بلغاريا وهنغاريا ، ومن ثم يخنقونها بعد النيل من الخصم وتشويهه ورميه بعيدا ، وباساليب تختلف تماما عن اسلوب قطار الموت سيئ الذكر .
7 / خطايا التاريخ
وليست قيادات الشيوعيين افضل من قيادات البعثيين في الحكم ، فلو تسنى للشيوعيين حكم العراق لما كانوا افضل من البعثيين ، اذ تنعدم لديهم معايير الكفاءة والخبرة والاهلية وتطغى عندهم ايضا كل من الدرجات الحزبية والولاءات السياسية والشعارات الايديولوجية .. ناهيكم عن التعصّب الاعمى للمبادئ التي حملوها وقت ذاك ، اذ كانت تجاربهم السياسية بين 1958 – 1963 ابان حكم عبد الكريم قاسم فيها خطايا عديدة باعترافهم هم بها مع ازدياد انشقاقاتهم الصعبة . لقد عاش العراق ابان العهود الجمهورية على النظم الاحادية والتي وصلت الى اقصى مدياتها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ، بحيث ان راقبنا تاريخ تلك النظم ، وجدنا التركيز في الشعارات السياسية والايديولوجية على : الزعيم الواحد ، والجمهورية الواحدة ، والمشير الواحد ، والتيار الواحد ، والامة الواحدة ، والحزب الواحد ، والخندق الواحد ، والشعب الواحد ، والدين الواحد ، والقائد الواحد ، والمؤسس الواحد .. الخ وبالرغم من ترويج شعارات الحرية والاشتراكية والوحدة والاتحاد والجبهة والديمقراطية .. الخ من المصطلحات الرائجة ، الا انها تبقى في المخيلة ، ولم تترجم الى الواقع ابدا .. وعليه ، فان الجبهة التي صنعها النظام السياسي ولدت ميتة ، ولم تكن واقعية وفاعلة لا على مستوى الاحداث ، ولا الشراكة ، ولا الثقة ، ولا صنع القرار ، ولا التوازي في المناصب على مستوى الدولة ومؤسساتها ، كما لم تخرج عن نطاق منطق القوي والضعيف على مستوى الاحزاب المشاركة بالرغم من مانشيتها العريض انها تقدمية ووطنية ! ان الوطن لم يكن حرا يقبل كل الاطياف السياسية ولم يقبلوا ان يتعايش كل التقدميين مع الرجعيين – كما وصفوهم – والشعب لم يكن سعيدا باستقطاب الاحزاب فانقسم كل العراقيين الى خنادق دموية ملتهبة ، بحيث جرت تصفيات على اسس حزبية سياسية وايديولوجية بشعة ، ويمكنني اليوم ان اجد خلفياتها ومرجعياتها لعوامل دينية وطائفية وعرقية وجهوية عميقة جدا .
8/ الاتحاد .. صوت عراقي معتدل اغتيل عام 1990
لقد حظيت باعداد من صحيفة الاتحاد المستقلة التي اصدرها الحمداني رفقة طاقم من المثقفين المستقلين العراقيين ، فكنت اتابعها بشغف كبير ، كونها انفتحت على اسماء من الاساتذة والشخصيات الرصينة في الثقافة العراقية ، وعالجت موضوعات تاريخية وفي ادب المذكرات ، بعيدا عن التحزبات السياسية ، ولكن كان الرعب مسيطرا على الموقف ، ولكن تبلورت بعض الاصوات الشجاعة مع ممانعة البعض وتردده . واستطاعت هذه الصحيفة ان تخلق هامشا ثقافيا تمكن البعض من التحرك عليه بكل ذكاء بالرغم من الاجواء القاتمة ، فكنا نقرأ ما يكتبه علي الوردي ومدني صالح وعبد القادر البراك وعبد الحميد العلوه جي ومسعود محمد وأحمد فوزي وسليم طه التكريتي، كما تم نشر أوراق مصطفى علي، أول وزير للعدل بعد انقلاب 14 تموز / يوليو 1958 ، وكذلك ما نشرته الصحيفة عن خليل كنه ( كان وزيرا في العهد الملكي ومحسوبا على نوري السعيد ) وكذلك أوراق السياسي الشهير حسين جميل. ومقالات عبد الغني الدلي ومذكرات معاذ عبد الرحيم .. الخ
ان مثل هذا النشاط الذي بدا بعيدا عن مركزية اعلام الدولة ، او انه لم يمر من اية قناة سلطوية او امنية كان لابد ان يستدعى ليث الحمداني الى مديرية الامن العامة عدة مرات ويتم التحقيق معه ويبلغ بتعليمات صارمة سواء من جهاز الامن او من وزارة الاعلام وتنفيذ اوامر الوزير لطيف نصيف جاسم ووكيله نوري نجم المرسومي ! وبدا الحمداني امام الدولة والمجتمع شخصية غريبة ، اذ انه فعلا مثير للاهتمام حسب الرؤية العراقية المعهودة التي لا تفهم مغزى الحرية ومعنى الفصل بين الوطن والادلجة ، فقد اتهم الحمداني انه اصبح يروّج للرجعيين من بقايا العد الملكي ، واتهم انه غادر ماضيه الشيوعي ليغدو ليبراليا ، واتهم انه يروّج اغكار بعثي قديم اسمه معاذ عبد الرحيم .. واتهم انه عمل من البعثيين ، وخصوصاً عندما عمل مع طارق حمد العبدالله وزير الصناعة والذي توثقت علاقته به .. وصولا الى حسين كامل حتى تقاعده ، واتهم انه اسلامي يروج لشعارات حزب الدعوة .. الخ
استطيع القول ان من كان يتلهف لاقتناء جريدة الاتحاد من العراقيين في تلك المرحلة وقراءتها ومتابعة منشوراتها هو بالتأكيد من المثقفين الذين لهم مواقفهم المعارضة من السلطة وكلهم من المستقلين الذين لا يمكنهم ان يفصحوا عن مواقفهم الفكرية والسياسية من النظام الحاكم علنا ، وقد وحدتهم جريدة الاتحاد ومضامينها . وعليه ، فقد كبرت جريدة الاتحاد وقوي تأثيرها ، فكان الحمداني يأمل ان يحولها الى دار نشر ، اي الى مؤسسة اكبر وهو طموح وجد دعما من طارق حمد العبد الله .. وفعلا نشر ت الاتحاد بعض الكتب ، ولم تدم سيرورة التقدم ، اذ توقفت الاتحاد نهائيا بعد اجتياح العراق للكويت في 2 آب / أغسطس 1990 ، وتم دمج القطاع الصناعي بالتصنيع العسكري، وتم اختيار ليث الحمداني مديراً للإعلام من بين مدراء إعلام الوزارات المندمجة، اذ اعجب به حسين كامل ضمن صراع الاخير مع لطيف نصيف جاسم ، وصدر حينها لجريدة الاتحاد أكثر من ملحق (الدنيا) و (الفلقة)، وعدد خاص يومي خلال المعرض الأول للتصنيع العسكري.
9/ تجربته مع حسين كامل
بعد ان غادرت الاتحاد الى مثواها الاخير وهي في عز شبابها جراء ذلك الحدث الذي قصم ظهر العراق ، لم يهدأ الاخ الحمداني ، فهو عاشق لمهنته الصحفية ، فكان أن اصدر خمسة أعداد من مجلة الحضارة، التي لم تجد انفاسها الحياة .. ومن الغرابة ان يعمل الرجل مع حسين كامل بعد ان اصبح الاخير وزيرا للتصنيع العسكري واندمجت وزارة الصناعة لتغدو مؤسسة عسكريتارية ، ويغدو ليث الحمداني الاعلامي المثقف في حلقة تلك المؤسسة وانظمتها التي يقودها شخص جاهل مثل حسين كامل الذي اصبح بقدرة قادر يحمل رتبة عسكرية عليا ويتبوأ مناصب عليا في الدولة ، وكم كنت اتمنى على الاخ ليث ان يكون ناقدا ومفككا للصيغة التي اضحى عليها العراق ابان التسعينيات ، وخصوصا بعد هزيمة 1991 وما جرى من انهيارات ليس على مستوى المؤسسات ، بل في المجتمع وتغير في الاخلاقيات السائدة .. لقد سأل حسين كامل ليث الحمداني عن وزراء الصناعة الذين تعاقبوا ، وقد عمل معهم الحمداني من قريب ومن بعيد ، فكان الجواب : طه الجزرواي وفليح حسن الجاسم وناجح محمد خليل ومحمد عايش وطاهر توفيق العاني وطارق حمد العبد الله وقاسم العريبي وحاتم عبد الرشيد .. ويسأله عن تقييمه لهم واحدا واحدا ، ويخالفه في ذلك ، علما بأن حسين كامل قد استند على غيره في تقييمه هؤلاء واغلبهم لا يفقه في الصناعة شيئا ، فهم لا يختلفون عن حسين كامل في شيئ من الاشياء ! وقد عمل الحمداني مع الفريق عامر السعدي والوكيل الثاني عامر العبيدي ويشيد بهما وباخلاقهما ، وكان حسين كامل يعتمد عليهما اعتمادا كبيرا ويصغي لهما طويلا . توثقت علاقة الحمداني بالوزير حسين كامل ، ويكتب انه تعامل معه لمدة سنتين ، ولكنه يسجل قائلا ان الرجل « ليس له أي توجّه طائفي أو عرقي أو انحياز حزبي. والأكثر من ذلك إنه لمس من حسين كامل كراهية واضحة لبعض التكارتة ومنهم خيرالله طلفاح « . وسواء كان ذلك ام لا ، فهو الشخص الخطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ ، وليس لأنه كان في صراع مع عدي ام مع خير الله طلفاح ، سيصبح هو الافضل ، او انهم قد اتهموه بالطائفية وجعلوه ساقطا ، فهو لا حق له في تبوأ المناصب العليا ، وكلنا يعرف كيف كان يصول ويجول في العراق بين 1987- 1995 ، وكيف كان يعامل العراقيين ، واقول بأن حسين كامل مهما كانت توجهاته ، فهو ليس الرجل المناسب في المكان المناسب ابدا ، اذ سيبقى التاريخ يتساءل : بأي وجه حق يمنح رتبة الفريق في الجيش العراقي ؟ .. ويستدعي ليث الحمداني معاناته معه وضغوطاته عليه وحرمانه من التقاعد بعد محاولته التوسّط من اجل ذلك ، فقال حسين كامل : « لن تخرج من هذه الدائرة إلاّ حين نقرر نحن».
يحكي لنا ليث الحمداني عن شخصية هذا الذي كان اسمه حسين كامل ، فهو يحمل نفسية قلقة، وله مزاجه الحاد اذ لا مانع لديه في معاقبة اقرب الناس اليه .. وله تصرفات استفزازية سمجة مع الاطراف الدولية ، فهو لا يدرك حجمه لا في العراق ولا امام العالم ، اذ كان يترجم ما منحه سيده من صلاحيات تفوق اي وزير من الوزراء بمن فيهم وزير الدفاع عدنان خير اللة .. كان حسين كامل يستخف بشخصيات لها مكانتها في العالم مثل بريماكوف الذي كانت له زياراته المكوكية الى العراق ، وعندما ذكر له هذا الاخير : أن أمريكا تريد تدمير العراق، اجابه بانفعال صبياني : « لتدخل أمريكا الحرب وسترى …» ولم يكتفِ حسين كامل بمثل هذا الجواب التافه ، بل استطرد قائلا له باستخفاف : « … كل ما أطلبه منكم أن لا تطلبوا وقف إطلاق النار إذا بدأت الحرب» !! هكذا يجيب هذا المسؤول العراقي المتعجرف الموفد السوفييتي وقت ذاك ، وهو يختزل مصير العراق وشعبه بمثل هذه الكلمات الرعناء ! وكانت النتيجة ان سحقت اميركا وحلفاؤها العراق سحقا بالوقت الذي كان فيه حسين كامل انسانا جاهلا مضطربا وليس له استقراره ، ولم يمتلك اي حد ادنى من الثقافة السياسية او الثقافة العامة ، كما كان يمثّل التفاهة الريفية بعيدا عن اي سلوك اجتماعي حضري له مرونته وتقديره لابناء المجتمع العراقي ، اذ لم يدرك هو وامثاله من المسؤولين الذين حكموا العراق تنوع العراقيين المدهش والمعقد جدا .. ولم يكن اي واحد من افراد العائلة الحاكمة بافضل منه .. ولقد توضحّت تفاهته بشكل اكبر على العالم يوم هرب الى الاردن جراء خلاف عائلي ، وفي مؤتمره الصحفي في العاصمة عمان يوم 8 / 8 / 1995 .. ولكن يسجل الاخ ليث الحمداني صفحة عن جهود حسين كامل في اصلاح ما دمرته الحرب عام 1991 ، وخصوصا الجسور والطرقات وبعض المنشآت المدمرة ، وكان يحكي باسم سيده ويتوعد باسمه ويعاقب باسمه ويكافئ باسمه .. لقد كانت حملة تحرير الكويت عام 1991 هزيمة منكرة للجيش العراقي بعد قصف شديد لكل العراق على مدى 43 يوما . يقول ليث الحمداني : « في تلك الفترة اندلعت الانتفاضة الشعبية العفوية في بعض محافظات الجنوب ، حيث سارعت الحركات والاحزاب السياسية الموالية لايران لاحتوائها بعد ان ادخلت عناصرها من ايران . وقد ادت الشعارات وصور الخميني التي رفعتها تلك الاحزاب الى فشل الانتفاضة وتسهيل قمعها . وكنا نسمع ان الفريق حسين كامل قد كلف باحد القواطع لقمع الانتفاضة».
10/ اية نهضة صناعية عراقية ابان السبعينيات والثمانينيات ؟
اختلف نسبيا مع عبارة تقول عن سنوات السبعينات والثمانينات، « ان البلاد شهدت خلالها نهضة صناعية لا ينكرها سوى جاهل أو مؤدلج .. « ! ربما كانت هناك صناعات عراقية خلال الفترة المذكورة ، ولكنها لا تمثل الحجم الحقيقي للعراق وموارده وسكانه ، وربما ستكون هناك ثورة صناعية في العراق في ظل نظام سياسي اخر ، فمن يمنحها حقها الطبيعي لا يمكن وصفه بجاهل او مؤدلج ؟؟ ان بلدا غنيا بثرواته المادية والبشرية وابداعات ابنائه المتنوعة لا يمكن ان يكون حاله كالذي عاشه السكان وقت ذاك ! وان بلادا لا يعرف فيها شيئا عن ميزانيتها ومداخيلها ونفقاتها ، فهي لا تعرف نهضة حقيقية .. وان بلادا انخفضت فيها منتجاتها الزراعية ، وبدأت تعتمد على الاستيرادات لموادها الغذائية فهي لم تكن تعيش اية تجربة نهضوية ! وان بلادا عاشت خلال تلك المرحلة في ازمات وشح مواد ومصنعات لهذه الحاجة الضرورية او تلك ، وربما كانت مفتعلة ، فهي لم تعش اية تجربة نهضوية ! وان بلادا كان نظامها السياسي نفسه يعلن عن انخفاض مستوى الانتاجية ويعالج ذلك في عقد السبعينيات وعلى مدى شهور وكانت كل النقاشات تعرض على شاشات التلفزيون بادارة من صدام حسين نفسه وكم كان واضحا حجم الاخطاء في المشاريع وغباء التخطيط والخلل في المؤسسات الصناعية وغيرها .. فهي بلاد لم تعش اية تجربة نهضوية ! اما ابان الحرب العراقية الايرانية ، فقد تقدمّت الصناعة العسكرية قليلا بفعل تأثير الحرب وضروراتها ومطالبها ..
ثالثا : المخرجات والنتائج التاريخية البائسة
1/ تحليل التناقضات العراقية
يسود فهم واسع عند العراقيين اليوم ان العراق قد شهد ابان السبعينيات نهضة حقيقية بالنسبة للصناعة من دون اي ادراك ان تلك النهضة الحقيقية قد بدأت مع مشروعات مجلس الاعمار منذ الخمسينيات ، وان ما تبقى من خطط لمشروعات كبرى منها ما نفذ في الستينيات ومنها ما لم ينفذ حتى يومنا هذا مثل مثل المشروع الاستراتيجي العملاق لري الجزيرة ، واحياء الصحراء ، وبما ان المشاريع التي كانت قائمة منذ عشرين سنة قبل 1972 كانت قد تقادمت تكنولوجيا وخصوصا مشاريع مجلس الاعمار ، وكانت قد ادخلت للعراق صناعات مهمة جدا مثل: الحديد والصلب و الاسمدة الكيمياوية والورق و الادوية و صناعة السكر والعديد من مشاريع الغزل والنسيج الحديثة التي كانت موزعة على عدد من مدن العراق بالاضافة الى صناعة الاطارات وبعض الصناعات البتروكيمياوية ، ولكن شهدت السبعينيات انخفاضا كبيرا في مستوى الانتاجية ، فكان ان عقد صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ندوات كانت تعرض تلفزيونيا على الملأ عن هذا الموضوع لمعالجة الخلل والخروقات والضعف دون جدوى ، وكذلك انخفض المنتوج الزراعي وحاقت بالعراق ازمات متعددة منها ما يتعلق بالبزل ، ومنها ما يتعلق بالسياسات الخاطئة التي اتبعت اثر قرارات الاصلاح الزراعي بكل اخطائها التنفيذية على عهدي عبد الكريم قاسم والبعثيين ناهيكم عن القرارات الاشتراكية التي صدرت على عهد عبد السلام عارف والتي قتلت الروح الانتاجية الصناعية في المجتمع .. وكلها انعكست على السوق المحلية ، فالسبعينيات لم تكن مرحلة ازدهار كالتي يتصورها البعض ، وهي التي مهدت لمرحلة الثمانينيات التي شهدت الحرب العراقية الايرانية بكل قسوتها المدمرة للمجتمع وتأثيرها السلبي على الصناعة والزراعة والتي اختتمت بغزو الكويت 1990 لكي يفرض الحصار الاقتصادي على العراق ابان عقد التسعينيات ، وكانت نتائج سياسات العزلة بتأثير الحصار قد بدأت تضرب اطنابها قبل العام 1990 .
لقد دمر الحصار الاقتصادي امكانات العراق البنيوية تماما وافقر الناس وسحق الطبقة العاملة وضمور الطبقة الوسطى في المجتمع حتى العام 2003 اذ تكلل بالاحتلال وسقوط النظام السابق ، فكان ان نهب العراق وسحق سحقا ، وتبعثر كل ما تبقّى فيه من موجودات على الارض ، اذ تمت سرقتها في الايام الاولى للاحتلال وبيعت لايران . لقد بقي العراق على عهد احمد حسن البكر ابان السبعينيات بالرغم من كل الازمات ورهبة النظام الحاكم والقسوة السياسية التي استخدمت في قصر النهاية بصور بشعة سواء على زمن ناظم كزار ومن بعده ، واحداث الرعب ، وانفلات امر الجبهة الوطنية القومية التقدمية مع الشيوعيين والاكراد يعيش على ما كان قد تبقى من تشكيلات الصناعات العراقية ، وكانت رقما مهما في سد الحاجة المحلية للعديد من المنتجات ومنها منتجات الادوية والمستلزمات الطبية والسكر وبعض المنتوجات .. اما التصنيع العسكري فقد بنى قاعدة للصناعات الثقيلة بمساعدة كبريات الشركات في العالم وهذا القطاع تم نهب اكثر من نصف شركاته وهربت عن طريق الشمال الى ايران ..
2/ د. جعفر ضياء جعفر
ويشهد كل الاحياء ان خبرات العراقيين في الهندسة ومشروعات الري والنفط مثلا قد ساهمت ابان التسعينيات في ترميم الجسور والطرق والبنايات والسدود والمحطات للماء والكهرباء والتلفونات والاتصالات ، اذ احتوى العراق على قطاعات ذكية من المهندسين الاكفاء ، وكانت هناك خطة واسعة لتحديث المحطات والشبكات الكهربائية واجري مسح شامل للكهرباء في العراق بخبرات عراقية وباشراف. د جعفر ضياء جعفر ، ولكن للاسف دخول صدام حسين للكويت اجهض كل شيء .. لقد كانت هناك ارادة عراقية اجتماعية في بناء البلاد ، اذ ان مشروع الحديد والصلب في خور الزبير لم يفشل ، ولكنه دمر ، اما مشروعات الاسكندرية ، فكان من المؤمل ان يكون أساسا لصناعة السيارات وكان المؤلف الاستاذ الحمداني شاهدا على مباحثات سبقت اجتياح الكويت وكانت باشراف كوادر عراقية منهم د. براق سعيد يحيي ، ولكنها خطط ومشروعات ضاعت بعد غزو الكويت عام 1990 لقد كان في العراق كفاءآت هندسية واقتصادية وفنية هائلة ، ولكن للاسف الشديد قتل من قتل وهجر من هجر ، وسحق من سحق ليغدو البلد مباحا لكل السارقين والساقطين والحاقدين والرعاع والدخلاء .. الخ
3/ منجزات شعب ذكي وقرارات مجنونة
نعم ، علينا ان نعترف بأن منجزات العراقيين كهيئة اجتماعية حضرية ذكية وعاملة هي اقوى من كل المآسي التي صنعتها العهود السياسية ، وهي منجزات كمية وبنيوية لا يتمثلها عهد واحد من تلك العهود السياسية ، اذ كان اساس بناء العراق قويا منذ بداياته . وعليه ، فاننا نعترف ان المهندسين العراقيين كانوا افذاذا في اعادة جسور العراق في زمن قياسي ، وكذلك في بناء السدود والصناعة العسكرية وكان المجتمع العراقي زاخرا على امتداد القرن العشرين بنخبه وطواقمه من المع القضاة والاطباء والمهندسين والفنيين والخبراء والاساتذة الاكاديميين والقادة والطيارين العسكريين .. فضلا عن كوادره من المعلمين الذين انخفض مستوى ادائهم في التسعينيات من القرن العشرين ، اذ كانت الحروب قد سحقت الناس والحصارات جعلتهم يجوعون والحياة النقابية بقيت في حكم الملغاة والعاصمة وكل مدن العراق من دون مجاري منذ العام 1991 ، وارجع العراق الى ما قبل الثورة الصناعية بعد حرب 1991 .. بقي العراقيون في اجزاء ومدن حيوية عراقية عديدة بلا كهرباء ولا طاقة اذ تنقطع الكهرباء لاكثر من عشرين ساعة يوميا في الموصل مثلا ، وبقيت بغداد العاصمة تنعم بها كونها عاصمة البلاد !!
وعليه ، اقول لو كانت هناك ثورة صناعية عراقية حقيقية، والصناعة لا تنمو الا في احوال مستقرة لوجدنا طبقة عمالية عراقية عريضة ، وانتاجات عراقية صالحة للاستهلاك والتصدير ، ولما فنيت الطبقة المتوسطة في المجتمع وهي عماد الدولة .. ولوجدنا البلاد لا تتأثر بتصدير النفط ، اذ غدا العراق بلدا ريعيا ليس له الا النفط .. ولوجدنا حجم الواردات العراقية من ثورته الصناعية وثورته الزراعية ولوجدنا مشروعات العراق الكبرى الاروائية قد اتت اكلها ، وغدا العراق اعظم بلد زراعي منتج في منطقة الشرق الاوسط .. وبقدر ما كانت الحروب وقساوتها سببا في انهيار تقدم العراق ، كان النفط عاملا مضادا لتقدم العراقيين ، وسببا في فجائعهم السياسية والاقتصادية المريرة . فهل كانت مصانع العراق تزود السوق المحلية ابان عقدي الثمانينيات والتسعينيات وحتى اليوم ؟؟ نعم ، نجح العراق في صناعاته العسكرية والبترولية وفي الادوية ، ولكن الحديد والصلب قد فشل وخصوصا في الاسكندرية .. الصناعات الزجاجية قد فشلت في الانبار .. صناعات التعليب فشلت في النجف وكربلاء .. وقد استمرت بعض المصانع القديمة في عملها بعد ان كان مجلس الاعمار في الخمسينيات قد قام بتأسيسها ..
4/ عوامل الانهيار
لقد اضرت التمردات الداخلية ، والسياسات الاحادية وتجاوز المليشيات الاوليغارشية على الدولة والمجتمع ، وهي المقاومة الشعبية والحرس القومي والجيش الشعبي وصولا الى فصائل ما سمي بالحشد الشعبي .. الخ مع تفاقم الحروب الاقليمية المزمنة على العراق وغيرت مسيرته التاريخية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا .. وقد تراخت القوى الفاعلة في المجتمع العراقي كثيرا ، وهو المجتمع الذي تعب من اجل تماسكه وتهذيبه ووحدته الرجال البناة من المؤسسين الاوائل .. لقد ضعف العراق كثيرا في كل مؤسساته ، وتراجعت قوته بعد ان كان يمثل قوة اعتبارية في العالم – كما يري المؤرخ في رؤيته للتاريخ المقارن – ، اذ كان له ثقله في المحافل الدولية ، فبات هزيلا ومتهما ومعتديا ومورست ضده العقوبات الدولية ، ففرض عليه الحصار باسلوب وحشي قاسي تأذى منه شعب العراق من دون الطبقة السياسية الحاكمة ، وطبقت عليه قرارات العقوبات وصولا الى العام 2003 لتسهل عملية احتلاله حيث دمّر تدميرا كاسحا بعد ان دمرت بنيته التحتية عام 1991 ، وسحقت قيمة الدينار العراقي وارجعوه – كما قالوا في تهديداتهم – ليعيش لما قبل عصر الثورة الصناعية .. وخلال تلك المرحلة نزحت الالاف المؤلفة من الكفاءات العراقية وهربت نحو الشتات في العالم ، ولم تزل عملية استئصال البنية الفوقية في المجتمع حتى يومنا هذا بعد هيمنة طبقة سياسية هزيلة على حكم البلاد وهي تمثل احزابا دينية وطائفية ، فزاد الفساد وتفكك المجتمع ، وغابت قيمه وحلت الانقسامات وتغلبت الطائفية واخترقت قوى الارهاب كل العراق ..
5/ تدمير العراق
وعليه ، يعد العراق اليوم بلدا كسيحا لا يقوى على الحياة ويمتلأ بالطفيليين والسراق والانقساميين بعد ان غابت المقاييس الوطنية منه ، وازدحم بالجهلة والمشوهين وضعاف الاخلاق والنفوس .. وغدا بعد كل هذي السنين لا يقوى على العيش من دون ما يستورد من غذاء ودواء والبسة وكل ما يحتاجه الناس .. وانا اقول بأن العراقيين انفسهم قد جنوا على انفسهم ، ولا استثني اي عهد سياسي من العهود من حجم ما ارتكب من اخطاء، وما مورس من خطايا بحق المجتمع اولا وبحق الدولة ثانيا ، وان الاحتلال الاجنبي كان نتيجة وليس سببا في هتك اوصال العراقو بنيته الاجتماعية ، وان ما حصل من كوارث لاحقا هي نتائج عقيمة للسياسات الجنونية والقرارات الصبيانية لكي يغدو اليوم بايدي طبقة سياسية فاسدة لا ندري متى تحل بدلها طبقة اخرى او يستبدل هذا العهد بعهد سياسي اخر قادم ؟؟ وأخيرا ، أتمنى للصديق المؤلف الاستاذ ليث الحمداني الصحة والابداع والمزيد من التقدم والنجاح ، واذا كان قد سجّل تاريخا على امتداد اربعة عقود كاملة في العراق ، فقد اكمل مهمته ، ولم يزل هنا في كندا يحرر صحيفة البلاد ، وهي من الصحف التي لها رصانتها وقوتها النوعية .. تحية كبيرة الى هذا الرجل ، واتمنى عليه مخلصا ان يكمل مضامين سيرته الصحفية وان لا يكتفي فقط بالهوامش منها ، فهو يختزن في ذاكرته تاريخ طويل من حياة العراق الجمهوري المعاصر .
تنشر هذه ” الدراسة ” على موقع الدكتور سيار الجميل
انتهت