مقدمة :
يعد حدث ثورة 14 تموز / يوليو 1958 في العراق ، او كما يحلو للبعض تسميته بالانقلاب العسكري من دون ان يعترف بان الحدث بدأ انقلابا عسكريا ، ثم تحّول الى ثورة شعبية حقيقية ضد الحكم الملكي الذي ساد 37 سنة للفترة بين 1921- 1958 ، وتوالي على الحكم كل من الملوك الاب المؤسس للمملكة العراقية فيصل الاول ( حكم للفترة 1921- 1933) ، وغازي الاول ( حكم للفترة 1933- 1939 ) ، وفيصل الثاني ( حكم للفترة 1953- 1958 ) في حين كان خاله الوصي الامير عبد الاله بن علي ( الذي تولى وصايته على العرش للفترة 1939- 1953 ) . لقد غيرت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ليس النظام السياسي حسب ، من الملكي الى الجمهوري ، بل كانت حدثا تاريخيا مهما في تاريخ العراقيين وتاريخ المنطقة كلها ، بحيث اثر في العلاقات الاقليمية للمنطقة ، واثر في العلاقات الدولية ، وقد كانت بغداد قبل 14 تموز 1958 محورا استراتيجيا تربط منطقة الشرق الاوسط كله بالغرب ، كما وكانت بغداد هي السد المنيع لانتشار الشيوعية العالمية بتوظيفها من قبل الغرب ضد سياسات الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ايام ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الاثنين .
لقد كانت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 مفاجأة تاريخية او صدمة سياسية ازاء مجتمعات ودول عدة وفي مقدمتهم الشعب العراقي الذي كان ينقسم انقسامات سياسية وايديولوجية مريرة باتجاه قومي تأييدا لسياسات الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يستهدف في سياساته واعلامه وخطاباته النظام الملكي العراقي ، او باتجاه يساري ماركسي تأييدا لسياسات الاتحاد السوفييتي التقدمية ضد سياسات نوري السعيد رجل العراق القوي المؤيد للغرب ، وبدا من خلال الوثائق ان جمال عبد الناصر كانت له علاقاته مع بعض الساسة العراقيين المعارضين للنظام الملكي ثم انه كان قد اطلع على خطة الضباط الاحرار العراقيين بواسطة عبد الحميد السراج في سوريا التي كانت قد دخلت في وحدة اندماجية مع الجمهورية المصرية وتوحد القطران باسم الجمهورية العربية المتحدة بزعامة عبد الناصر . – كما اطلعتنا عليه الوثائق العربية – (1) .
لقد كتب الكثير من الادبيات التاريخية والسياسية والاعلامية عن هذا الحدث ، وساهم عدد كبير من الكتاب والمؤلفين والمؤرخين والعسكريين والسياسيين في الكتابة عن 14 تموز / يوليو 1958 ، ولكن تطلعنا الوثائق البريطانية التي تدارسانها وتدارسها البعض من المؤرخين العراقيين الجدد مؤخرا (2) ، بأن الحدث التاريخي في العراق فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 كان مكشوفا للبريطانيين والامريكيين ايضا .. وسنرى من خلال دراسة ما تفاقم من عوامل وتداعيات خلال الشهور الستة التي سبقت انفجار الحدث ، وهذا ما اكده ايضا العديد من الساسة العراقيين القدماء الذين نشروا مذكراتهم وافكارهم على امتداد العقود الزمنية التي اعقبت الخمسينيات من القرن العشرين . ان هذه ” الدراسة ” هي محاولة علمية تضاف الى المزيد من الدراسات التاريخية عن 14 تموز / يوليو 1958 ، بعيدا عن اولئك المؤرخين والكتاب العراقيين والعرب الذين تعاملوا مع الحدث من خلال عواطفهم بالتأييد المطلق ، او الاستنكار المطلق .. وما دام الحدث قد غدا تاريخا اليوم ، فينبغي معالجته بمنتهى الموضوعية والامانة والحيادية سواء اختلفنا مع الحدث او اتفقنا معه . ودراسة العوامل والمسببات الخفية والكشف عنها مع دراسة النتائج التاريخية التي انتجها ذلك الحدث . واعتقد ان العراق كان ولم يزل يعيش تداعيات ذلك الحدث التاريخي حتى يومنا هذا .. ان الرؤية التاريخية المنفتحة على كل الوثائق وعلى كل الاتجاهات لابد ان تجد في مقارنة ما قبل الحدث وما جرى من بعده . دعونا نسهم في هذا الموضوع قليلا :
أولا: مملكتان عربيتان تجاوران العراق
1/ الملك حسين
للملك الحسين بن طلال موقعه الكبير في سجلات الوثائق البريطانية ، وتشير الوثائق الى قوة تأثيراته السياسية مقارنة بدور الملك فيصل الثاني ملك العراق الذي بدا لي انه كان منشغلا بالشؤون الداخلية اكثر بكثير من دوره في الشؤون الخارجية التي كان يديرها بقوة ودهاء وعناد اقوى الساسة العراقيين نوري السعيد .. كان الوزير الاردني سليمان طوقان ينقل إلى السير مايكل رايت تفاصيل محادثاته مع الملك فيصل الثاني وولي عهده ، حيث نقل طوقان رسالة من الملك حسين تتضمن مقترح الأخير بشان إقامة كونفدرالية بين الممالك العربية الثلاث أو بين العراق والأردن على اقل تقدير بشرط المباركة السعودية ، ثم اضفيت فكرة ادخال لبنان الى المشروع من قبل الملك حسين . وبدا واضحا ان الملك حسين كان يعتمد اعتمادا اساسيا على اثنين من الساسة الاردنيين سليمان طوقان وسمير الرفاعي الذي اعتبر مشروع الجمهورية العربية المتحدة مجرد مشروع دعائي .. ويبدو للمؤرخ من خلال دراسة الوثائق البريطانية الفرق الكبير في تفكير الزعيمين الهاشميين الملك فيصل الثاني والملك الحسين بن طلال ، فالأول لم يكن في جعبته اي مشروع او فكرة يمكنه ان يسوقها بسبب القيود المفروضة عليه دستوريا ، او التقاليد الشخصية التي ربطته بخاله الامير عبد الاله ونوري السعيد في حين كان الملك حسين اقوى في تسويق المشاريع بالمنطقة ، وهذا ما كان يرصده البريطانيون والاميركان معا ازاء مستقبل كل من الزعيمين الاثنين ، ومدى قدرة كل منهما على مواجهة التحديات ومجابهتها والاستجابة لها .. ان تشبيه السير مايكل رايت العراق ببريطانيا جورج الثالث له معاني تاريخية عميقة يظهر عجز فيصل على الاستمرار في حكم بلد كالعراق كانت مشكلاته الصعبة تزداد يوما بعد آخر ، في حين بدا واضحا ان الملك الاردني الحسين بن طلال كانت له القدرة على خلق الافكار وتنفيذها والسعي من اجل تحقيقها ، علما بأن الزعيمين الاثنين في عمر واحد وان كلا منهما في مطلع العشرينيات من العمر – كما ذكرنا سلفا – !
2/ مفاتحة السعوديين
ثمة تفاصيل عن زيارة وزير الخارجية الأردني إلى الرياض ومحادثاته مع الملك سعود الذي يطالب بعدم الاستعجال في إقامة اتحاد بين الممالك العربية ويعلن معارضته للوحدة بين مصر وسوريا..ثم تأتي زيارة الأمير عبد الإله إلى عمان ، وولي العهد يخبر السفير استعداد العراق للاستجابة إلى رغبة الملك حسين بإقامة اتحاد بين البلدين. ويطلب من السفير التدخل لحث الأمريكان على الضغط على الملك سعود للتجاوب مع المشروع الأردني المقترح علما بأن السعودية تذرعت على لسان الملك سعود باشتراطه ترك العراق لحلف بغداد قبل ان يقيم اي مشروع للتعاون بينه وبين الاردن والعراق علما بأن موقف السعودية كان مضادا لمشروع عبد الناصر في الجمهورية العربية المتحدة . وعليه فان الاردن ابلغ السفير الاميركي ( الوزير المفوض ) بأن حلف بغداد هو عقبة كأداء امام الاتحاد الكونفدرالي . اما بصدد الاتحاد العربي الهاشمي فان السكرتير الشرقي ماسون يقدم تفصيلا شاملا للتطورات الداخلية والدستورية في عمان وبعد عشرة أيام من إقامة الاتحاد العربي وتصورات عما سيجنيه الأردن من فوائد اقتصادية. كما ويكتب حول أهمية إبقاء الحدود بين الأردن وإسرائيل هادئة. وان مسؤول مكتب شؤون إسرائيل والأردن في الخارجية الأمريكية يطلب من الخارجية البريطانية إنجاح تجربة الاتحاد العربي مهما كان الثمن.
3/ مقارنة بين الملكين الهاشميين فيصل الثاني والحسين بن طلال
يبدو واضحا الفرق الكبير بين الملكين الشابين فيصل وحسين برغم ولادتهما في سنة واحدة 1935 ( فيصل 2 مايو والحسين في 14 نوفمبر ) .. وتكوينهما المشترك وتخرجهما في مدرسة سانت هرست البريطانية . نعم ، لم يكن فيصل الثاني الا مستمعا وموافقا ، وبالرغم من ثقافته العالية وسماحته وطيب معشره وتواضعه ، الا انه اعتبر نفسه ملكا دستوريا لا يتدخل في شؤون ادارة البلاد وعلاقاتها الخارجية كما هو حال الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا ، معتمدا في ذلك على طاقم سياسي مخضرم وقديم يقف على رأسه نوري السعيد ونخبة سياسية عتيقة ومخضرمة .. وعليه ، فان فيصل الثاني لم يصنع اية سياسات طوال السنوات الخمس التي حكم فيها ، في حين كان ابن عمه الملك حسين شابا ، بنى علاقاته منذ بداية حياته بدوائر اجنبية ، وبدأ يدير ملكه بنفسه مستعينا بالساسة الاردنيين ، وقد تدرّب على صنع القرار منذ تسلمه ولاية العهد (3) .
كان الملك حسين اخطر بكثير من ابن عمه الملك فيصل الثاني الذي عاش منذ صغره في كنف ساسة كبار ، فلم تكن له رؤيته السياسية الواضحة ، بل ولم يحمل اي مشروع له يمنحه للشباب العراقيين بالرغم من انفتاحه عليهم ولقاءاته بكل نخبهم ، وكان يعشق الرسوم والكتابة وقراءة الروايات ومشاهدة الافلام ومراقبة مستحدثات العالم في حين كان الملك حسين متوثبا وطيارا ومغامرا ومشاركا في سباق السيارات .. كما كانت له رؤيته ومشروعه وقوة اتصالاته منذ ذلك الوقت المبكر .
ثمة سؤال يفرض نفسه عليّ كثيرا : اذا كان الملك حسين قد وصلته تفاصيل المؤامرة التي كان يعدها بعض الضباط العراقيين ( باسم الضباط الاحرار ) ضد ملكهم فيصل الثاني وهو رئيسه بحكم منصبه الاتحادي ، فلماذا اكتفى بتنبيه رئيس اركان الجيش العراقي كي يجيبه استعراضيا من دون ان يركب الملك حسين طائرته الى بغداد كي يدق اجراس الخطر في اروقة قصر الرحاب ؟ ان ما ذكره الملك حسين في مذكراته التي اسماها ( مهنتي كملك ) عن هذه الحادثة (4) ، وانه نبّه رئيس اركان الجيش العراقي الفريق الركن محمد رفيق عارف ، وما سجله من رد الاخير عليه متحديا اياه وان عليه ان يخاف من جيشه فان الجيش العراقي كله مواليا لملكه ، ان هذا القول والرد يكذبها محمد رفيق عارف ، اذ نقل لي مصدر مقرّب من الاخير قوله بأن ذلك لم يحدث البتة مع الملك حسين ! ولكن من المثير جدا ان يبقى محمد رفيق عارف صامتا طوال حياته ، ولم يقبل ان يسأله اي انسان عن 14 تموز / يوليه 1958 وخفاياها ، علما بأنه كان في السلطة وان قطعات من الجيش التي كانت تحركاتها تحت امرته قد قلبت نظام الحكم في العراق (5) ! وان النظام العسكري الجديد لم يحاسب محمد رفيق عارف كما حاسب كل اركان النظام القديم حسابا عسيرا .
4/ المملكة العربية السعودية
توضح الوثائق التي ضمها هذا ” الكتاب ” الحالة والسياسية التي كان يعيشها النظام الملكي العراقي في شهوره الاخيرة ، بل الأوضاع النفسية التي عاشها أركان النظام وخصوصا الامير عبد الاله ولي العهد ونوري السعيد . واذا كان الامير يعيش قلقا وكآبة مريرة ، فان نوري السعيد كان يعمل بجد منقطع النظير لكي يتفوق على مشروع عبد الناصر في الوحدة العربية ، اذ حاول ان يسوق مشروعه المتمثل بالاتحاد العربي الهاشمي في اقرب البلدان العربية اليه وخصوصا في محاولته المستميتة لضم الكويت الى المشروع في حين راح عبد الاله ينسق لضم المملكة العربية السعودية ، ليس لأسباب مبدئية لضم العرب بل للوقوف في جبهة سياسية تناوئ خطط عبد الناصر . ولقد اخفق الاثنان في محاولتيهما واذا كان العراق قد اعتمد على بريطانيا لممارسة نفوذها على السعودية ومشيخات الخليج العربي وخصوصا الكويت فان الدور الذي قام به الأردن كبيرا ممثلا بالملك حسين الذي كان يرسل بمبعوثيه الى السعودية والعراق مع جهود العراقيين انفسهم ولكن يبدو واضحا ان المحاولات العراقية والأردنية ذهبت إدراج الرياح ممثلا ذلك بموقف السعوديين المتعنت ازاء المشروع العراقي ، كما تشرح الوثائق . ان العراقيين والأردنيين تبين قصر نظرهم التاريخي ازاء محاولة ضم السعودية الى ذلك المشروع معتمدين على حسن العلاقات التي بنوها مع السعوديين منذ العام ١٩٥٤ ، اذ بقي السعوديون يحتفظون بذاكرة قوية عن سوء علاقاتهم مع الهاشميين كما توضح جليا ان كلا من البريطانيين والاميركان لم يكونوا متحمسين أبدا للمشروع العراقي ورأوا ان يكتفى بما تحقق بين العراق والأردن ، كما توضح جليا ان موضوع الكويت خط احمر لا يمكن للعراق أبدا ان يضم الكويت . ولم يتعلم العراق حتى في العهد الجمهوري من الدرس ذاك ، ومن وجود ذلك الخط الأحمر وهم يعلمون علم اليقين بان السعوديين لا يمكنهم ان تكون لهم عضويتهم في هذا الاتحاد بالرغم من سوء علاقاتهم بجمال عبد الناصر . وكان على العراقيين ان يدركوا ذلك مذ رفضت السعودية ان تكون عضوا في حلف بغداد، علما بأنهم كانوا يدركون سوء العلاقة السعودية الهاشمية منذ عقود طويلة من الزمن . ويستغرب المرء من وثيقة جاء فيها انه في الوقت الذي كان الملك سعود واقفا ضد مشروع الوحدة المصرية السورية والجمهورية العربية المتحدة ، كان اخوه الامير فيصل آل السعود يعمل على مباركتها وتشجيعها وتأييدها ، ولا اعتقد ان ذلك صحيحا في حقيقة الامر بالرغم من التباين الواسع بين الملك سعود بن عبد العزيز وبين اخيه فيصل بن عبد العزيز .. ولقد اوضحت الايام اللاحقة عندما غدا فيصل آل السعود ملكا على السعودية كم كانت العلاقات سيئة بين السعودية ومصر على عهد عبد الناصر (6) .
.
ثانيا : قضية الكويت
1/ طبيعة القضية
شغلت وثائق هذه المرحلة التاريخية التي طالت ستة اشهر قضية الكويت التي اثارها القادة العراقيون مع الانكليز ، وكان نوري السعيد على رأسهم ، ليس للاستحواذ عليها ، بل في دعوتها الاشتراك عضوا في الاتحاد الهاشمي ، وبدا واضحا ان الكويت كانت خطا احمر بالنسبة للعراق حسب رأي البريطانيين ، واذا كان العراقيون والاردنيون قد توجهوا مباشرة الى المملكة العربية السعودية ودعوتها للمشاركة في الاتحاد ، الا ان الملك سعود بن عبد العزيز بارك الخطوة ولكن لم يوافق على الاشتراك . كان السعي من قبل العراق والاردن هو لكسب اكبر عدد من الاعضاء في اسرع وقت لمجابهة الوحدة المصرية السورية ، ولكن آمالهم خابت ، فالكويت لم يفكر العراقيون فيها لإرجاعها الى العراق ، بل كانوا يريدونها عضوا في اتحادهم ، ولم يكن موقف الانكليز ازاء ان تبقى الكويت بعيدة عن الاتحاد الهاشمي ، بل لم يقبلوا انضمام المشيخات الخليجية الى الاتحاد الهاشمي ايضا .
وتوضح الوثائق البريطانية على لسان السفير السير مايكل رايت مؤكدا أن أسباب مطالبة العراق بضم الكويت إلى الكونفدرالية مع الأردن هي لأسباب مالية ويطلب من حكومته أن لا تعلن معارضة مطلب العراق لكون حاكم الكويت لن ينضم إلي أي من الاتحادين . وأن لا يضغط عليه من الحكومة البريطانية للاستجابة لمطلب العراق – كما تتضمنه الوثائق – ، وكثيرا ما اطلقت الاحكام عن دعوة نوري السعيد لانضمام الكويت الى الاتحاد العربي كونها مشروعا لضم الكويت الى العراق ، ولكن وجدنا ان الوثائق تقول غير هذا ، ولكن فسّرت دعوة نوري السعيد انها مشروعا لضم الكويت الى العراق اثر استقلالها ، ويبدو ان اصرار نوري باشا على هذا ” المشروع ” قد كلفه الكثير جدا ، فدفعه ودفعته معه الاسرة المالكة العراقية ، ودفعه كل العراق لعشرات السنين !
2/ طبيعة الاختلافات
وقبل مراقبة ما تضمنته هذه ” الوثائق ” ، فان الآراء مختلفة تماما حول هذه ” المسألة ” التي لم تجد لها حلا تاريخيا منذ تأسيس الدولة في العراق عام 1921 وحتى يومنا هذا .. والمشكلة انها مسألة لم يقتصر بحثها على الطرفين العراقي والكويتي رسميا ونخبويا وشعبيا ، بل كثر المتدخلون فيها من العرب ( وبالذات من مصر ) ومن الاجانب سواء على العهد الملكي في العراق ام على اطوار العهود الجمهورية فيه . ان العديد من العراقيين يصّرون على تابعية الكويت للعراق مستندين في ذلك الى وثائق وخرائط تعود الى عهد مدحت باشا في العراق ايام الحكم العثماني ، في حين ينكرها كل الكويتيين ومن يناصرهم في قضيتهم .. لقد بقي الدكتور فاضل الجمالي – مثلا – مصّرا على حقوق العراقيين في الكويت من خلال مقالاته التي كتبها بعد العام 1990 اثر اجتياح الجيش العراقي لها (7)، في حين نقرأ ما نشره الدكتور خلدون النقيب في عنوان له : ” تهافت ادعاءات العراق بشأن ضم الكويت ” ويقول : ” لابد بداية ، من وضع الازمة القائمة بين الكويت والعراق في سياقها التاريخي ، اذ ليس لادعاءات العراق بأن الكويت جزء من العراق اي سند تاريخي .. ظهر هذا الادعاء ضمن تصورات النخبة الحاكمة لدور العراق الاستراتيجي – الاقليمي على المستوى العربي في منتصف الثلاثينيات . وقد ظهر كأداة للمناورة استغلتها النخبة الحاكمة ( في زمن الملك غازي ، ثم بدرجة اقل في دوائر الحكم السعيدي – نسبة لنوري السعيد ) . فقد جاء هذا الادعاء كتعبير عن رغبة العراق في لعب دور قيادي على المستوى الاقليمي ، وقد احبط طموح العراق القيادي ليس من قبل الكويت ، وانما على يد التفاهم المصري – السوري – السعودي ، الذي ما زال قائما حتى اليوم ” (8) .
صحيح ما يقوله النقيب من ان هذا الادعاء لم يكن حتى مجيئ العسكر الى الحكم في العراق مطلبا شعبيا .. (9) ،
ولكن ليس صحيحا ان القضاء على الطموح العراقي قد جاء من خلال التفاهم المصري السوري السعودي . ان الوثائق التي بين ايدينا توضّح دور كل من البريطانيين والامريكيين في استحالة تلبية مطالب نوري السعيد ليس في ضم الكويت الى العراق ، كما طرحها الاخرون ، بل حتى في تلبية رغبته بعضوية ومشاركة الكويت في الاتحاد العربي كونفدراليا ..
3/ رأي السفير الاميركي غولمان
ولكن دعونا نعود من جديد لقراءة في مذكرات احد اهم السفراء الامريكيين الذين قضوا اربع سنوات في العراق قبل 14 تموز / يوليو 1958 ، اذ كتب السفير الامريكي «هولدمار غولمان» في كتابه عن نوري السعيد شخصيا عندما كان سفيرا للولايات المتحدة الامريكية بين عامي 1954 – 1958، حيث اشار الى تخوف شيوخ الكويت من العراقيين الذين يطمحون لإلحاق الكويت بهم ، وان العراقيين لم يظهروا حسن نوايا او فعل اي شيء يزيل شكوك الكويتيين ومخاوفهم التي عاشت معهم منذ عهد الملك غازي ، وزادت هواجسهم من الموقف العراقي ازاء مقترحهم الذي تقدموا به الى الحكومة العراقية اوائل 1955، بشأن عقد معاهدة بواسطة سلطة الحماية البريطانية تحصل الكويت بموجب بنوده على مياه الشرب من شط العرب بواسطة انبوب يمتد الى مدينة الكويت، ومن اجل تسهيل هذه العملية فالمطلوب من العراق التخلي عن حقه في ارضه(10) .
لقد جرى طرح هذا المقترح قبل قرابة ثلاث سنوات من مناداة نوري السعيد بضم الكويت الى الاتحاد العربي يوضح بشكل كامل ما الذي كان يدور في خلد العراقيين وتفكيرهم كون الكويت من ناحية المبدأ جزء لا يتجزأ من العراق ولا يمكن التخلي عن ذلك ابدا (11)،
كما انها تظهر جليا اعتراف شيوخ الكويت بالحق التاريخي العراقي ومحاولة احتوائه ، فضلا عن تفسير الموقف البريطاني الذي خذل العراقيين ، وخصوصا نوري السعيد الذي كان حتى تلك اللحظة الصديق الحميم للغرب وبريطانيا على وجه الخصوص . ان نوري لم يقل بالضم ابدا ، بل طالب بتطبيق احد نصوص نص دستور الاتحاد بجعل الباب مفتوحا امام انضمام بقية الدول العربية الى الاتحاد. وفي واحد من لقاءات نوري السعيد بالسفير الامريكي ببغداد ، اكد له بأن تأكيده يتمحور عن نص من دستور الاتحاد ، ويعلق السفير في مذكراته قائلا : ولكنه الباشا الذي يقصد بشكل خاص الكويت، اذ لم يشر ابدا بالاسم الى اي بلد عربي اخر غير الكويت ، موضحا له اسباب رغبته بذلك ، اذ سيكون بالإمكان تحمل الاعباء المالية المترتبة على فقر الاردن بتحمّل كل من العراقيين والكويتيين اعباءها ، وان انضمام اي بلد عربي غير هاشمي النظام سيجعل الاتحاد مقبولا في الارض العربية ، ناهيكم عن العراق سيسهل عليه تصدير نفطه عبر قنوات موانئ كويتية تعجز البصرة في شط العرب عن استقبال حاملات النفط العملاقة ، وستحصل الكويت بالمقابل من انضمامها في الحصول على احتياجاتها من مياه الشرب . ويبدو جليا ان مشروع نوري السعيد في عضوية الكويت لم يأت من باب الضم القسري ، ولكن خطته ذكية جدا في تحقيق ما عجز عن تحقيقه سابقا (12) .
4/ القضية في الوثائق التاريخية
من المهم جدا قبل ان نطلق اية احكام اليوم سواء من العراقيين او الكويتيين او المصريين او الغربيين الرجوع الى الوثائق العثمانية ، ليس لتشكيل موقف سياسي او ايديولوجي مع هذا الطرف او ذاك ، بل لمعرفة ليس الحق التاريخي ، بل السياق التاريخي . لقد جاء في وثيقة عن الجمعية الاصلاحية الوطنية العراقية في البصرة كتبت في 22/12 / 1331 (= 1912 ) وهي تنتقد الاتحاديين على سياستهم ، نقرأ النص التالي : ” بدأوا الان ببيع العراق تدريجيا بواسطة تاجرهم الماهر حقي باشا ، فصادقوا على ملكية انكلترا على مسقط والبحرين وجزيرة القطر التي هي الان قضاء عثماني ، والى هذه الساعة مقيم فيها الجيش العثماني ومأمور والحكومة ، وصادقوا حمايتها على الكويت بصورة تقطع علاقة الدولة من التدخل بشئونها الداخلية والخارجية ، واباحوا لها حق التفتيش في الخليج الفارسي ومرفأ البصرة وسلموها ( اشيائها ) بما يقضي على العراق اجمع .. ” (13) .
تعرض الوثائق البريطانية التي بحوزتنا في هذا ” الكتاب ” تفاصيل مطالب الزعماء العراقيين لاستعادة الكويت وحواراتهم مع السير وليام هايتر وكيل وزارة الخارجية البريطانية ، وكان من امهر الدبلوماسيين والسفراء ، فكان ان حثّهم على الاعتراف باستقلال الكويت وتحديد الحدود معها واستعداده للتعاون بشأن ذلك ، ثم يأتي السير بي باروس كي يشرح اسباب عدم امكانية تقارب حاكم الكويت مع العراق ، ومخاوفه من ضم العراق للكويت ، ويدعو حكومته البريطانية الى الالتزام بتعهداتها بحماية الحاكم ، والوقوف ضد العراق وعدم ممارسة الضغط عليه للانضمام الى الاتحاد المتوقع .. . دعونا نتوقف قليلا لنفكر في كيفية وقوف بريطانيا ضد العراق ، وهو حليفها ؟ وتخبرنا الوثائق ايضا ما الذي قاله وزير الخارجية البريطاني عن سياسة حكومته في موضوع الكويت ولماذا رفضت المطالب العراقية ورفض بريطانيا الضغط على حاكم الكويت كي تنضم الى الاتحاد .. وتقترح بريطانيا ان الافضل الاتحاد مع الاردن وليس الكويت وحث العراق على تحديد الحدود والاعتراف باستقلال الكويت ! ثم نقف على تقرير كتبه السير وليام هايتر الى السير فرديريك هوير ملر عن تفاصيل جولته في المنطقة ووجهات نظر الحكومات والقادة بشأن المسائل السياسية ، وربما جرت ترتيبات بريطانية امريكية واعلن الاتحاد العربي ، فبدأ السير مايكل رايت ينقل ردود الافعال الاولى في العراق ، ولكنه يوضح ان الاتحاد من دون الكويت سيكون ناقصا وغير مقبول شعبيا ! ويقترح توفر اسباب مقبولة لشكل من العلاقة مع الكويت ، ثم يأتي مقترح من وزير الخارجية الباكستاني فيروز خان طالبا ضم الكويت وقطر الى الفيدرالية العربية الجديدة ! ولكن السير باروس يحذر من عواقب ضم الكويت الى الاتحاد ، ويطلب من حكومته توجيه الموضوع ، وان الكويت لن تتخلى عن الحماية البريطانية ، وينصح نوري باشا وعبد الله الدملوجي ان يعملا على تحسين العلاقة اولا مع حكام الكويت !
5/ قوة العراق وتأثيراته الاقليمية
يبدو ان العراقيين بقوا مصرّين على مطالبهم ، فطلبت بريطانيا توضيحات ذات صلة بدستور الاتحاد والدبلوماسية والتأسيس ، وكتبت مذكرة شرح فيها الاسلوب الذي يمكن اتباعه لمواجهة مطالب العراق بشأن الكويت وكيفية التخلص من هذه المطالب . يبدو ان العراقيين بقوا ثابتين على موقفهم ، فكان ان اوعز وزير الخارجية لشرح اسباب عدم تأييد بلاده انضمام الكويت ، ويطلب من السير مايكل رايت التشدد مع العراقيين لغرض تحديد الحدود مع الكويت ! فيقابل رايت كل من الملك وولي عهده وينقل اليهما توجيهات بريطانيا اليهما ، ويبدو ذلك وصول المسألة الى طريق مسدود مع الباشا نوري السعيد وطاقمه المتألف اساسا من عبد الله الدملوجي وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي . كما وثمة وثيقة تؤكد ان محضر لقاء جرى من قبل السفير البريطاني مع رئيس الوزراء عبد الوهاب مرجان ووزير الخارجية ، فكان ان تعرض فيه مرجان بحدة إلى تاريخ السياسة البريطانية لفصل الكويت عن العراق . ولقد وصل الامر كما تخبرنا الوثائق البريطانية ان يطلب وزير الخارجية الباكستاني فيروز خان نون ضم كل من الكويت وقطر إلى الفدرالية العراقية – الأردنية. ناهيكم عما ورد في الوثائق ايضا ان السير جابمان اندرسون رفض مقترح انضمام السودان إلى الاتحاد العربي تحت حجة أن السودانيين لا يشعرون بالانتماء إلى العالم العربي .كما ارسلت بريطانيا توجيه إلى السير روجر ستيفنسن بعدم تناول موضوع انضمام المشايخ الخليجية إلى الاتحاد العربي. ويبدو للمؤرخ ايضا ان الرأي العام الايراني بدأ يتخوف من نشوء دولة عراقية اتحادية كبيرة على حدوده الغربية ، فقد ارسل السير روجر ستيفنسن يشرح موقف الصحافة الإيرانية من إقامة الاتحاد . من جانب آخر ، فان السير مايكل رايت اقترح تأجيل انضمام لبنان ودول شمال أفريقيا للاتحاد العربي ودعا حكومته لدراسة ومعالجة موضوع انضمام الكويت وضرورة تعاونها مع الاتحاد وإلا فأن اللوم سيوجه إلى بريطانيا . وثمة وثيقة مهمة تخبرنا بأن الفيلد مارشال مونتغمري اقترح إقامة تجمع يضم تركيا وإيران وإسرائيل والسودان لمواجهة المجموعتين العربيتين الموحدتين على أن يكون هذا التجمع على شكل حلف ! ولم يؤخذ بهذا الرأي ، بل انتقد كون مونتغمري لم يعرف ان السودان كان بلدا عربيا !
هكذا نعلم كم وصل تأثير قوة العراق سياسيا في الاقليم ازاء قوة عبد الناصر في مصر وسوريا .. وكيف بدأ العد التنازلي لإيقاف العراق ليس عن دوره الاقليمي ، بل بتغيير نظامه السياسي نهائيا وصولا الى الحدث الكبير ! ويبدو واضحا ان ولي العهد الامير عبد الاله قد توقع ذلك ، اذ تخبرنا الوثائق تفاصيل لقائه مع سفراء بريطانيا في بغداد وعمان بتاريخ 25/2 وقد تضمن توضيح رؤيته للتطورات السياسية الجارية في المنطقة وتنبأ بانهيار النظام في بغداد.
6/ استراتيجية بريطانية – اميركية جديدة في المنطقة ازاء مذكرة العراق
نشهد تعليمات وزير الخارجية البريطانية للمقيم السياسي في الكويت نقل رأي بريطانيا ضد ضم الكويت الى الاتحاد العربي ، وان يعمل على تشجيعه حاكم الكويت ان يعّبر عن وجهة نظره بحرية ! معنى ذلك ان الشيخ عبد الله السالم الصباح كان يخشى حتى ان يصّرح عن رأيه ! فاعلن حاكم الكويت معربا عن عدم استعداده للتعاون المبكر مع الاتحاد ! هنا ، تأتي الاشارات سريعة من مايكل رايت عن موقف نوري السعيد اذ قال بأن الشغل الشاغل له هو موضوع الكويت مع التدهور السياسي يقدم مايكل رايت افكاره لابقاء العراق صامدا وقويا ازاء العواصف التي تواجهه ! هنا التغلغل المصري الناصري يزداد في الكويت ، وهذا يقلق البريطانيين الذين وجدوا ان عبد الناصر يبذل الغالي والنفيس من اجل عدم انضمام الكويت للعراق . وهنا يقرر ترتيب جديد لوضع استراتيجية بريطانية جديدة في الخليج !
جاء ذلك كما يبدو للمؤرخ بعد تقديم مذكرة من قبل حكومة الاتحاد العربي بشأن علاقة الاتحاد بالكويت ، وتدعو المذكرة بريطانيا الى عدم معارضة انضمام الكويت الى العراق بعد ان اتهمتها بسعيها فصل الكويت عن العراق ! تثير المذكرة الاوساط البريطانية كون العراق يتعامل نديّا الان وانه يطرح مطالب اقليمية لايمكن ان تقبلها بريطانيا ، ويتخوف الكويتيون من لغة المذكرة ، كما ان البريطانيين يرون ان المذكرة يمكن ان تستخدم مستقبلا ان سكت البريطانيون عليها . وبدأ البريطانيون يتخوفون من ابتلاع العراق للاردن ، ويوّجه سلوين لويد الى السير مايكل رايت ان يبلغ نوري السعيد ان ينسى موضوع المذكرة وان لا يتحدث عنها بشيء ! فيقوم رايت بالطلب من توفيق السويدي ان يقوم باقناع نوري السعيد ان يسحب المذكرة المتصلة بالكويت وان يتم تناول الموضوع مع نوري باشا خلال زيارته الى لندن يوم 25 حزيران / يونيو 1958 .
ان اهم ما تضمنته ” الوثائق ” النص الكامل للمذكرة التي قدمتها حكومة الاتحاد العربي ذات الصلة بعلاقة الاتحاد بالكويت. والمذكرة تدعو بريطانيا إلى عدم معارضة انضمام الكويت إلى العراق بعد الاتهام بأنها هي التي سعت إلى فصل الكويت عن العراق. وقد اقترح السير مايكل رايت عدم الرد على المذكرة العراقية ولكن ريجيس اقترح التعرف على التبعات القانونية في حالة عدم الإجابة عليها. وان واتس قد بيّن عدم إمكان ترك المذكرة دون إجابة باعتبارها تطرح مطالب إقليمية ليس بوسع بريطانيا أن تقبلها. هنا يشرح ريجس المصاعب التي تتعرض لها بلاده جراء تقديم بغداد للمذكرة المتصلة بالكويت ويقدم مقترحات بشأن الإجابة عنها ، خصوصا إن تلك ” المذكرة ” يمكن أن تستخدم في يوم ما. ويقترح الإجابة بالرفض عندما يكون الجو يسمح بذلك.
لقد طلبت الدائرة الشرقية من السكرتير الشرقي في السفارة البريطانية ببغداد إفهام بعض النواب العراقيين حول موقف بريطانيا من موضوع ضم الكويت إلى الاتحاد وعدم إطلاق الهراء عند تحدثهم في مجلس النواب العراقي! وبالاخص ما يتعلق بالوضع القانوني والتمثيل الدبلوماسي للاتحاد العربي وكيف يريد الأمريكان أن يكون الاتحاد اندماجا حقيقيا والمخاوف البريطانية من ابتلاع العراق للأردن. لقد كان للمذكرة العراقية ابلغ الاثر باسم الاتحاد العربي في الدوائر الغربية ، خصوصا وان وثيقة مهمة تشرح توجيه سلوين لويد لمايكل رايت لإبلاغ نوري السعيد بأن ينسى موضوع المذكرة وأن لا يتحدث عنها بشيء.
ثالثا : الايام الاخيرة
نرصد حالته كيف كانت في الايام الاخيرة من حياته ، فسنجد نوري السعيد يعيش حالة عصبية كما يشرح مايكل رايت ويصل نوري لندن يوم 23 حزيران / يونيو ، ويبدو ان الموقف البريطاني من مشروعه قد جعله محبطا نفسيا الى درجة كبيرة .. وكان سلوين لويد قد طلب من جون فوستر دالاس حضور اجتماعه مع نوري السعيد في لندن ضمن المجلس الوزاري لحلف بغداد .. نوري يرفض رفضا قاطعا سحب مذكرته العراقية بشأن الكويت كون اسمه قد ارتبط بها ، وان سمعته باتت مرتبطة بموضوع الكويت ، فما كان من الوزير لويد حتى طلب مايكل بالرد عليها .. يكتب جيرالد دي غوريه في كتابه ثلاثة ملوك في بغداد ، قائلا : ” لما غادر نوري باشا لندن كان حزينا قنوطا .. انني لم اره كئيبا في حياتي كما وجدته اليوم في الصباح ” (14) .
السؤال الاخير : ما طبيعة الاحداث في لبنان التي كانت سببا للتدخل من قبل العراق بإرسال قطعات من جيشه الى الاردن ؟ ومن المهم جدا الاطلاع على خلاصة اجتماع مجلس الوزراء البريطاني والذي قدم خلاله وزير الخارجية صور للأوضاع في لبنان واحتمالات تطورها وموقف العراق منها واقتراحات للتهيؤ للتدخل في لبنان عسكريا كما جاء في الوثائق والتي تشير الى مناقشات آمين البستاني في لندن ، وهو يطرح فيها وجوب وصول الزعيم فؤاد شهاب إلى الحكومة وإبقاء شمعون في الرئاسة.. واذا كانت تلك هي خلاصة ، فما الذي جرى من تفاصيل في اجتماع مجلس الوزراء البريطاني ؟ وأتساءل هنا قائلا : هل تعد الاحداث التي حصلت في لبنان يا ترى ، فخا لإيقاع العراق وتغييره ؟
رابعا : قراءة نقدية عقلانية للنهاية التاريخية
1/ قراءة نقدية
اولا : لم يزل العراقيون ينقسمون حول تقييم ١٤ تموز/ يوليو ١٩٥٨ بين مؤيد لها ومدافع عنها ومناصر لكل أحداثها وإجراءاتها وتداعياتها وبين معارض لها بشدة ومعتبرا لها إس الخراب الذي أودى بالعراق الى مصير معتم خصوصا عندما يقف المدافعون ليعددوا مثالب الحكم الملكي بسيطرة الاقطاع وبقاء العراق يدور في فلك الغرب الامبريالي وحالة الشعب المزرية ازاء أولئك المهاجمون للثورة ورجالها الذين يعتبرونهم قد ختموا الأمانة وحطموا امن البلاد والغوا مجلس الأعمار وخططه العملاقة ومكانة العراق الملكي بين الامم لم يزل هناك من العراقيين من يحن حنينا عاطفيا لذلك العهد ولم يزل يواجههم عراقيون يدافعون عن الثورة العراقية ويقرنونها بالثورة الفرنسية ان الزمن والمستقبل كفيل باستقرار الآراء التاريخية من خلال الكشف عن المزيد من الوثائق التاريخية فضلا عن رحيل جيل نخبوي وشعبي عاش تلك الاحداث وساهم فيها. او شهدها ان الاستقرار على تقييم تلك المرحلة سياتي مع مضي الزمن ومجيئ اجيال جديدة لا تدع مجالا لعواطفها تفعل فعلها بل ستكون اكثر عقلانية في اطلاق الأحكام التاريخية.
ثانيا : ان قراءة عقلانية تاريخية وموضوعية حيادية لستة اشهر سبقت احداث ١٤ تموز يوليو ١٩٥٨ لا يمكنها ان تتحقق أبدا بوجود وثائق مهمة كالتي يتضمنها كتاب ” الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية ” (15) بل ما الطريقة والمنهج في التوغل بتلك القراءة وليس الامر ينحصر بنقل ما تتضمنه تلك الوثائق بل كيف نفهم تلك المضامين وكيف نقارن بين الاحداث. وبين ما سبقها وبين ما لحق بها ليس المهم ان تؤخذ النصوص على عواهنها او المواقف على ما تم تسجيله عنها بل يتطلب الامر مقارنة ذلك بما هو متوفر من مصادر اخرى والتمييز بين طبيعة كل مرحلة فضلا عن فهم التناقضات بعد الفصل بين ما هو سياسي وما هو وطني بين ما هو مبدئي وبين ما هو تسويقي ان المرحلة الخطيرة التي سبقت الحدث ينبغي تفكيكها ومعرفة خفاياها. خصوصا وأنها جاءت واحدة من ثمار الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي كما انها ثمرة الصراع بين معسكرين عربيين اثنين. احدهما قومي استقطبه جمال عبد الناصر وثانيهما غربي استقطبه نوري السعيد علما بان الاخير كان احد دعاة السياسة القومية وكانت له مشاريعه العربية وفي مقدمتها مشروع الجامعة العربية ومشروع الكونفدرالية العربية ان الحدث أيضاً ثمرة الصراع الداخلي في العراق بين مجتمع نخبوي مدني تقليدي وبين مجتمع ثوري شعبوي
ثالثا : من المهم أن يُعرِّفَ القارئ موازينَ القوى السياسيَّة والاجتماعيَّة في كل دولةٍ، وتحديد طبيعة المعارَضة أشخاصًا وتوجُّهات وبدقَّة متناهية ، حتَّى تكتملَ وتتوضح معا صورة اللحظة التاريخيَّة التي يمثلها حدث خطير في تاريخ المنطقة ابان القرن العشرين ، وان يدرك اي مؤرخ مختص يعمل على هذه الوثائق او غيرها كيفية ربطها وتحليلها ومقارنتها .وفي هذا السياق ، فمن الضروري أن ندرك تطورات الاوضاع والعلاقات البينية بين الدول العربية ، وخصوصا مصر والعراق صعوداً وهبوطاً. حيث أن اللحظة التاريخية للمشروع القومي قد افترق سياسيا بين مصر والعراق ، فذهبت مصر في طريق الوحدة العربي وقابلها العراق ليمشي في طريق الاتحاد العربي . وفي الحقيقة ان كلا من الاثنين كان هشا ، اذ انهار الاتحاد العربي بمجرد انفجار بغداد ، وتلاشت الوحدة بمجرد حدوث الانفصال . والسبب واضح جدا كون تبلور استقطاب ثنائي بين مصر العراق ، وكان ان فرز ذلك معسكرين متناقضين في المنطقة العربية، أو بدء ما يسمى بالحرب العربية الباردة.
رابعا : مجمل الوثائق الدبلوماسية ستلقي المزيد من الأضواء على الحالات التي سبقت اهم حدث في تاريخ العراق والمنطقة العربية في القرن العشرين لقد علمنا درس هذا الكتاب الكثير من افكار الزعماء العرب وكيف كانوا يفكرون في طبيعة علاقاتهم ليس مع بريطانيا وحدها بل مع غيرها من طرفي النزاع في العالم إبان احتدام الحرب الباردة. فضلا عن تبيان طبيعة علاقاتهم في ما بينهم اذ يبدو واضحا. كيف تعاملت بريطانيا بشكل خاص مع هذا الطرف او ذاك من خلال رجالها ودبلوماسييها الذين كانت لهم مكانتهم السياسية المؤثرة في الدوائر الاستعمارية ؟ وكيف تعامل كل واحد منهم مع الدولة التي يعمل فيها سفيرا ؟ ان دور السير مايكل رايت كان خطيرا في العراق قبل انفجار ١٤ تموز يوليو ١٩٥٨ ، وبدا لي وكانه كان مكلفا بمهمة تاريخية في عاصمة يحمل اسمها عنوان حلف اسمي بحلف بغداد وهي العاصمة التي استقطبت الأنظار قبل ذلك الحدث التاريخي الذي غير مجرى تاريخ العراق بشكل كامل (16) .
وكيف كان تأثيرها كبيرا في سيرورة تاريخ المنطقة كاملا ولما انتهى كل شيئ لصالح الثوار من الضباط الاحرار في العراق ؟ رحل مايكل رايت ليخلفه السير تريفليان كي يؤدي دورا مختلفا تماماً عن دور رايت وجدنا أيضاً كم كان التنسيق واضحا بين السياستين البريطانية والأمريكية في سياسة ملئ الفراغ والتعامل مع مرحلة عربية طغا عليها المد القومي من طرف والمد الشيوعي من طرف اخر ورجوع الحرب الباردة العربية بين العراق القاسمي وبين مصر الناصرية .
خامسا : وجدنا كيف كانت السياسة السعودية منفردة في قراراتها لصالح مملكتها وهي تواجه مصر الناصرية من طرف ولا تتحالف مع العراق الملكي من طرف اخر وجدنا الملك حسين لا يهمه الا الحفاظ على ملكه وعرشه في خضم بحر متلاطم الأمواج ويبقى علاقته وثيقة بالبريطانيين ولم يستطع فعل شيئ يذكر سواء قبل سقوط عرش العراق ام بعد السقوط وجدنا ان الجميع قد تخلى عن النظام الملكي في العراق في تلك اللحظة التاريخية التي غيرت فيها بغداد مجرى التاريخ وجدنا الرئيس جمال عبد الناصر وقد طارت شهرته في الآفاق يبارك لوحده التغيير الثوري الحاسم في بغداد مباشرة دون اي تلكؤ بعد ان كان قد بارك خطوة العراق والأردن في اتحادهما الهاشمي ببرقية مطولة للملك فيصل الثاني ولكننا سنجد ان شهورا ثلاثة لم تتم الا وبدت الحرب الباردة ثانية بين العراق ومصر
سادسا : ان دراستنا للوثائق التي ضمها هذا الكتاب قد منحتنا جملة من المعلومات التي تقول بان العراق قد قتلته السياسات الاستعمارية اولا والإقليمية ثانيا والعربية ثالثا وان السياسات الخارجية وجعل نفسه محورا كريها في تحالفاته ليس مع الغرب بل مع تركيا وإيران والباكستان قد كلفته ثمنا غاليا ليس في جلبه الكراهية لنظام حكمه الملكي من قبل كل العرب بل لأنه افتقد الدور الذي كان قد شرع ببنائه من خلا مشروع مجلس الأعمار العراقي الذي عد واحدا من اهم واخطر وأنفع المشاريع التنموية الحديثة في العالم إبان تلك المرحلة الصعبة لقد وجدنا ان الغرب لا يمكنه أبدا ان يوافق على اي مشروع سياسي في المنطقة ان وقف ضد اسرائيل حتى وان كان الزعماء العرب يؤمنون بانعدام شرعيتها وحتى ان دافع بعضهم عن القضية الفلسطينية دفاعا مستميتا الا ان المصالح القطرية الضيقة. تقف حائلا امام الحقوق العربية لأهم قضية مركزية عاشت في الضمير العربي طوال القرن العشرين
سابعا : ان هذه الوثائق البريطانية التي تختص بتاريخ الاتحاد العربي الهاشمي قد تنوعت كثيرا بحيث لم تقتصر على مجريات الاحداث الخاصة بذلك الاتحاد بل توضحت من خلالها المواقف الخاصة بالمشاكل العربية والعلاقات العربية والأدوار الإقليمية والموقف من اسرائيل ومشكلة الكويت مع العراق فضلا عن دور الملك حسين مقارنة بدور فيصل الثاني انها تنبئنا بما لا يقبل الشك عن طبيعة ما يدور في الذهنية العراقية التي بدت في حالتين مختلفتين تماماً. فالسياسيون والقادة العراقيون كانوا يفكرون ويعملون في واد غير ما كان عليه الشعب العراقي وأحزابه المعارضة لنظام الحكم الملكي اذ كانت تلك القوى تفكر وتعمل في واد اخر.
ثامنا : ان أسئلة كثيرة تطرح نفسها من خلا قراءة كل الوثائق البريطانية واهمها ان التحالفات مع الغرب هل نجحت بمعزل عن قناعة الناس بها وهل يكفي الذكاء وقناعات النخب الحاكمة بمعزل عن تأسيس للتوازن بين إرادة الناس والمصالح الدولية وبنفس الوقت هل كانت الجماهير تمتلك الوعي بما تطرحه من شعارات وهل يكفي ان يعمل اي بلد عربي لوحده في الميدان او انه يغرد لوحده في السماء بعيدا عن هموم ومعاناة الناس على الارض ؟ هل نفعت العرب انقساماتهم السياسية والأيديولوجية ؟ وهل حقق الثوريون العرب هدفا واحدا من أهدافهم المثلى كما كانوا يطرحونها علنا ؟ وهل كان الزعماء العرب بكل سيئاتهم وقت ذاك يشتبهون بعض الزعماء العرب في بلدان عينها في طغيانهم واستبدادهم اليوم؟
2/ الذروة التاريخية : الحدث القاطع 14 تموز / يوليو 1958
تخبرنا الوثائق البريطانية( وهي البرقيات التي ارسلت الى خارجية البريطانية من العراق صبيحة ١٤ تموز. يوليو ١٩٥٨ ويوم ١٥ منه ) ان السير مايكل رايت قد اختفى من السفارة مع زوجته ، اذ هربا الى فندق بغداد ولم تصدر منه أية برقية حتى مساء اليوم الثاني. وتقول آخر البرقيات بانه كان غير متأثر أبدا ولم تبد عليه اي حالة انزعاج ، علما بان احد موظفي سفارته قد قتل بطريق الخطأ. ماذا كانت ردود فعله وهي في الحقيقة ردود فعل بريطانيا خصوصا عندما نعلم بان للبريطانيين حتى فجر ١٤ تموز قاعدتين عسكريتين قديمتين أولاهما في الحبانية القريبة من بغداد ، والثانية في الشعيبة القريبة من البصرة وعندما نقارن بين مواقف بريطانيا من انقلاب بكر صدقي عام ١٩٣٦ ومن احداث حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ وإصرارهم على اعدام العقداء الاربعة رفقة سياسي مدني لتلك الحركة وملاحقة الكيلاني وكيف كان موقفهم مائعا من ١٤ تموز سنجد ان رصيد نوري السعيد والنظام الملكي العراقي قد انتهى لديهم تماماً. وان المرحلة التاريخية البريطانية قد انتهت لصالح الولايات المتحدة الامريكية فضلا عن اجتياح عبد الناصر وقوته في الشارع العربي بدليل الوثيقة التي ارسلها رايت الى حكومته بعد زيارة عبد الناصر الى دمشق وثمة تفاصيل عن زيارة الرئيس عبد الناصر إلى دمشق هنا ينبري السير مايكل رايت كي يشرح مفصلا موقف الشعب العراقي من الاتحاد العربي ويؤكد وجود قطاع عراقي واسع معارض للاتحاد ومؤيد للجمهورية العربية المتحدة. وكان هوبر قد عرض وجهة نظره عن عدد من الوزراء العراقيين في الحكومة الجديدة. وان السير مايكل رايت أبلغ حكومته إن الحكومة العراقية الجديدة بقيادة نوري السعيد قد ضمت وزراء كي تظهر عزم العراق الشديد على مواجهة تحدي عبد الناصر وقدم تفاصيل عن بعض أعضاء تلك الوزارة. اما تقارير القنصل البريطاني في كركوك ، فقد اشرت بوضوح وجود استياء بين الأكراد نتيجة إقامة كل من الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد العربي وان ولي العهد الامير عبد الاله قد ابلغ السفير اعتقاده بانفصال الأكراد في حالة سقوط العرش في العراق وان السفير يؤيد ذلك !
وبدا واضحا ان التعامل مع رجل عسكري واحد ( او : اوحد ) جاء مباشرة من الثكنة العسكرية لحكم العراق بديلا عن نخبة سياسية متمرسة وصعبة جداً كان اسهل بكثير ، ولكن السياسي العراقي الوحيد الذي دافع عنه الغرب بشكل سافر هو الدكتور فاضل الجمالي وقد هددت بريطانيا واميركا عبدالكريم قاسم ان اقدم على اعدام فاضل الجمالي. واعتقد – وربما كنت مخطئا – ان كلا من بريطانيا والولايات المتحدة قد تدخلتا سّرا ، وانقذت العديد من الذين أصدرت محكمة المهداوي بحقهم احكام اعدام لاحقا سواء كانوا من العسكريين او المدنيين ! كما وتوضح جليا ان اغلب الاعضاء الكبار في هيئة الضباط الاحرار الذين خططوا للثورة واعدوا للانقلاب ونفذوه كانوا جميعا اولاد النظام الملكي من العسكريين ، وكان اغلبهم تربطهم وشائج قرابة او صداقة او تعاطف مع اركان النظام السابق فمثلا ارتبط عبد الكريم قاسم مريدا مخلصا لزعيمه نوري باشا ، وارتبط عبد السلام عارف مباشرة بزعيمه محمد رفيق عارف ، وارتبط رفعت الحاج سري بخاله جميل المدفعي ، وارتبط وصفي طاهر ياورا للباشا نوري السعيد ، وارتبط احمد محمد يحي مرافقا للوصي عبد الاله وكان طه البامرني آمر الحرس الملكي حتى لحظة الانقلاب قد نصب قائد المقاومة الشعبية وكان ناجي طالب مرافقا عسكريا للامير عبد الاله .. وهذا ما كان بالنسبة لكل من ناظم الطبقجلي وعبد العزيز العقيلي وغيرهم (17) .
خامسا : رؤية الفريق اول اركان حرب صالح صائب الجبوري
ولد ببغداد عام 1898 وتوفي فيها عام 1993، وهو قائد عسكري وسياسي عراقي، تولى رئاسة أركان الجيش العراقي عام 1944 ، وكان قد خدم في الجيش العثماني ودخل عدة معارك وحصل على عدة نياشين على امتداد حياته وله مؤلفاته . في يوليو 1951 ، تم تعيينه عضو في مجلس الأعيان وترك الخدمة في الجيش بناء على طلبه. في أغسطس 1954، استوزر في وزارة نوري السعيد الثانية عشر وزيراً للمواصلات والأشغال وبعدها وزيراً للمواصلات والأشغال لغاية 20 يوليو، 1957، حيث تم استقالة هذه الوزارة. في 15 ديسمبر 1957، عُين في وزارة السيد عبد الوهاب مرجان وزيراً للإعمار، وبعد استقالة هذه الوزارة وتكليف السيد نوري السعيد بتشكيلها في 3 فبراير 1958، تم تعيينه وزيراً للأعمار مرة أخرى ولغاية استقالتها وتلتها حكومة أحمد مختار بابان في 19 مايو 1958، حيث تم تعيينه وزيراً للمواصلات والأشغال حتى قيام ثورة تموز 1958.
يقدم لنا الفريق اول الركن صالح صائب الجبوري رؤيته عن حدث 14 تموز / يوليو 1958 في نهاية مذكراته المهمة بعنوان بعض الادلة على معرفة بريطانيا وامريكا بالثورة العراقية سنة 1958 ودعمها (18) ، بعض الادلة على معرفة بريطانيا واميركا بالثورة العراقية سنة 1958 ودعمها :
1. طلب السفير البريطاني تأجيل مذكرة ضم الكويت إلى الاتحاد الهاشمي :
كانت الحكومة العراقية أعدت مذكرة حول ضرورة ضم الكويت إلى الاتحاد الهاشمي في ضوء المفاوضات التي جرت بين أمير الكويت إلى الاتحاد الهاشمي في ضوء المفاوضات التي جرت بين أمير الكويت والحكومة العراقية من جهة، وبينهما وبين الحكومة البريطانية من جهة أخرى، وتقرر نشر هذه المذكرة في 12 تموز – يوليو 1958م. غير أن السفير البريطاني زار وزير خارجية الاتحاد السيد توفيق السويدي في يوم 11 تموز – يوليو وأعلمه أن الحكومة البريطانية توافق على دخول الكويت في الاتحاد الهاشمي بعد حصوله على الاستقلال، وأن جميع التفصيلات ستبحث في يوم 24 تموز-يوليو 1958م بين رئيس حكومة الاتحاد ووزارة الخارجية البريطانية، وطلب تأجيل نشر المذكرة سالفة الذكر. لكن الثورة قامت في العراق في 14 تموز-يوليو، فقضت على الاتحاد المذكور وغيرت مجرى الأمور كما هو معروف(19).
2. منع الأتراك من إرسال قوات عسكرية إلى العراق: كان المقرر سفر الملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله إلى إستانبول في صباح يوم 14 تموز – يوليو 1958م، وكان رئيس وزراء تركيا السيد عدنان مندريس والسفير العراقي في تركيا وأشخاص آخرون في مطار إستانبول بانتظار وصول الملك فيصل الثاني وحاشيته. وعند وصول الأخبار إليهم بقيام ثورة في بغداد وقتل الملك فيصل والأمير عبد الإله وأفراد العائلة المالكة الآخرين، أخبر رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس، السفير العراقي والسيطرة على العراق، وكان متأثرًا وجادًا في قراره. وبعد مرور بعض الوقت أُشيع أن عدنان مندريس اعتذر من السفير العراقي بعدم تمكنه من إرسال قوات إلى العراق، وذلك بسبب تدخل الإنكليز والأمريكان، ومنعهم الأتراك القيام بعمل من هذا القبيل.
3. منع الأردن من القيام بعمل عسكري ضد الثورة في العراق: كان الملك حسين نائب الملك للاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، وبموت الملك فيصل الثاني أصبح الملك حسين تلقائيًا ملك الاتحاد، وكان من المؤمل دخول الجيش الأردني إلى العراق للسيطرة على الوضع. وبما أن الأمر لم يستقر بعد إلى القائمين بالثورة، إلا أن الحلفاء أسرعوا بإرسال قواتهم إلى لبنان، وكتيبة مظليين بريطانية إلى عمان عاصمة الأردن، وحالوا دون حركة الجيش الأردني، وذلك لفسح المجال إلى القائمين بالثورة ليتمكنوا من تثبيت أقدامهم والسيطرة على الوضع في العراق(20) .
4. أقوال المهداوي في محكمة الشعب: بعد قيام الثورة وتشكيل محكمة الشعب، قال رئيسها، ا لعقيد فاضل عباس المهداوي علنًا في إحدى جلسات المحكمة كان يسكن كولونيل أجنبي بالقرب من مسكن الزعيم عبد الكريم قاسم، وبعد قيام الثورة اختفي وانتقل من محل سكنه. ولقد انتشر في الأوساط في حينها بأن عبد الكريم عاتب ابن خالته رئيس المحكمة على قوله هذا. وفي الحقيقة فإن الكولونيل المشار إليه، كان معاون الملحق العسكري البريطاني وضابط الاستخبارات في السفارة البريطانية في بغداد(21) .
5. ما سمعته من مراسل وكالة أبناء رويتر في العراق: في صيف سنة 1959م ذهبت إلى لندن للعلاج، ورؤية ولديَّ عصام وعماد، اللذين أرسلتهما إلى إنكلترا لإكمال تعليمهما العالي، وذلك بعد إكمال تحصيلهما الثانوي في العراق سنة 1958م. استوجبت حالتي الصحية بقائي في تلك البلاد بضعة أشهر. وفي خلال تلك المدة شاهدت أنا وعبد الرسول الخالصي، مراسل وكالة أبناء رويتر في بغداد قبل قيام الثورة العراقي محمود عبد الكريم وفهمت منه الآتي:
في 4 تموز-يوليو 1958م، دعاه زوجته الإنكليزية، الملحق الجوي الأمريكي إلى حفلة عشاء، وكان اللواء الركن غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة في منطقة ديالي وزوجته، ضمن المدعويين. وفي أثناء الحديث، استفسر الملحق الأمريكي من غازي الداغستاني عن أنباء الحركة الانقلابية التي ستقوم في العراق، فلم يؤيد غازي ذلك. ونظرًا لأهمية الخبر واجه محمود عبد الكريم الملحق الجوي الأمريكي في اليوم التالي مستفسرًا درجة صحة أقواله في الليلة السابقة لأهميتها، فكرر الملحق الجوي الأمريكي أقواله، وأضاف أن الحركة ستقوم في فرقة اللواء غازي، وفي الحال أخبر محمود عبد الكريم مقر وكالة أنباء رويتر في لندن بما سمعه وتأكد منه. وبعد قيام الثورة العراقية ببغداد في 14 تموز-يوليو 1958م وذهابه إلى لندن، كافأته مؤسسة وكالة أنباء رويتر على سبقه الصحفي عن قيام الثورة العراقية.
6. تصريحات المقدم الركن فاضل العزاوي سكرتير وزير الدفاع : أخبرني المقدم الركن فاضل العزاوي في 11 تموز-يوليو 1958م، بقرار الحكومة العراقية إرسال لواء إلى الحدود الأردنية. وبعد الثورة، استمر فاضل على زيارتي في الأعياد والمناسبات. وعند زيارته لي بمناسبة عيد الأضحى سنة 1978م، تطرق الحديث إلى ثورة 1958م. ومما قاله: إن معاون الملحق العسكري البريطاني وهو ضابط الاستخبارات في السفارة البريطانية في بغداد، استشاره في إحدى اتصالاته معه قبل شهر تموز – يوليو 1958م، حول ترشيح قائد عراقي من الموجودين في الجيش لتولي الحكم بعد حدوث ثورة وتبدل الحكم في العراق، وقال إنه رشح اللواء الركن غازي الداغستاني، واضاف قائلاً: أليس هو أحسن الموجودين في الجيش آنذاك؟.
فوجئت بهذا الاعتراف وهذا التصريح، ولكن بقيت هادئًا، فأردت استدراجه للحصول على معلومات أكثر، فقلت له لابد من وجود أمور كثيرة غير معروفة عن ثورة 1958م، وبحكم منصبك آنذاك فأنت تعرف بعضها، فإذا رغبت أن ندونها سوية وذلك خدمة للتاريخ وبيان الحقائق. ويظهر أنه شعر بالندم لذكره هذه الحقيقة أمامي، فنهض وخرج مسرعًا، ولم يزني مرة أخرى ولم أره بعد ذلك.
ولقد تذكرت ما سبق وسمعته شخصيًا من العقيد الركن سلمان الدركزلي الذي قال إن كولونيل الاستخبارات البريطاني كان يجتمع مع اللواء الركن غازي الداغستاني في لندن وبلقبه بـ”هيد اوف ستيت”؛ أي رأس الدولة Head of State.
7. رسالة العميد الركن المتقاعد محيي الدين عبد الحميد الخطية إلى العميد المتقاعد خليل إبراهيم حسين(22):
. .
جاء في الرسالة التي أكد مضمونها أمامي ما يلي “كنتُ معلمًا في الكلية العسكرية، وقد أنتُدِبتُ لتدريس دورة الأقدمين المفتوحة في كلية الأركان، وكان المقدم “وايت هيد” معلمًا بريطانيًا في الكلية المذكورة، وسألني يومًا ما رأيك في ترشيح اللواء غازي الداغستاني ليحل محل نوري السعيد في حالة فقدان، لأنه وصل من العمر إلى دور الشيخوخة، فقلت له إن غازي الداغستاني من أصل عراقي: قوقازي، وقد تربى تربية أرستقراطية، وأنه لا يشعر بالشعور العراقي ولا يصلح لسياسة العراق (23) .
الهوامش والملاحظات
(1) سيار الجميل ، تفكيك هيكل : مكاشفات نقدية في اشكاليات محمد حسنين هيكل ، ط1 ( عمان & بيروت & لندن : الاهلية للنشر والتوزيع ، 2000 ) .
(2) ان اول رسالة علمية اكاديمية نوقشت عن الحدث تلك التي قام بها ليث الزبيدي ، ثورة 14 تموز 1958 في العراق ، ط1 ( بيروت : مكتبة اليقظة العربية للطباعة والنشر والتوزيع ، 1981 ) . وانظر ايضا : علاء نورس ، ثورة 14 تموز في تقارير الدبلوماسيين البريطانيين والصحافة الغربية ، ط1 ( بغداد : وزارة الثقافة والاعلام ، 1990) . وانظر : وليد محمد سعيد الأعظمي ، ثورة 14 تموز وعبد الكريم قاسم في الوثائق البريطانية : دراسة موثَقة مُعتمِدة على الوثائق السرية البريطانية لعام 1958 ، ط1 ( بغداد : الدار العربيـة ، المكتبة العالمية ـ، توزيع مكتبة النهضة ـ بغداد ، 1989 ـ . ايضا : مؤيد الونداوي ، الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية ، تقديم : سيار الجميل ، ط1 ( بيروت / الدوحة : المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ، 2013) . لقد كتب تاريخ 14 تموز / يوليو 1958 العديد من المؤرخين والساسة العراقيين والعرب والغربيين ، اذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : مجيد خدوري وعبد الرحمن البزاز وحنا بطاطو ومحمد توفيق حسين وفاضل حسين وكاراكتوس وفالح حنظل وخيري العمري وخلدون ساطع الحصري ويونس بحري ومحمد حسنين هيكل وكمال مظهر وهاشم التكريتي وابراهيم خليل العلاف وصادق السوداني وحسين مروة وناصر الدين النشاشيبي وخليل ابراهيم حسين الزوبعي وشكري محمود نديم وابراهيم كبة وموسى حبيب وسعاد خيري وزوجها زكي خيري ومحمود شبيب ووداد العزاوي وحامد الحمداني وعقيل الناصري وجلال النعيمي وبيتر سلاكليت وزوجته ماريون فاروق سلاكليت وباقر الصراف وامير الحلو وحسن العلوي ومصطفى قره داغي وفرج السعيد وصباح جاسم جبر وعبد الفتاح البوتاني وفيب مار واحمد فوزي وجارلس تريب ووليم بولك ووليم كليفلاند وغيرهم . وكتب العديد من السياسيين والعسكريين العراقيين عن ثورة 14 تموز / يوليو 1958 في مذكراتهم ، اذكر منهم : توفيق السويدي وخليل كنه وكامل الجادرجي وناجي شوكت وبرهان الدين باش اعيان وحسين جميل وكامل الجاردجي ومحمد حديد ومحسن حسين الحبيب واسماعيل العارف وفاضل الجمالي وطالب مشتاق وجميل الاورفلي ومحمود الدرة وصبحي عبد الحميد وصبيح علي غالب وناظم الطبقجلي وجاسم العزاوي ونجيب الصائغ وعدنان الباجه جي وتمارا الداغستاني وصالح البصام وخليل سعيد وعربي الخميسي وبهجت عباس وغيرهم .
(3) انظر :
Nigel John Ashton, King Hussein of Jordan: A Political Life, (Yale University Press, 2008), pp. 43-68.
(4) الحسين بن طلال ، مهنتي كملك : احاديث ملكية ، ط1 ( عمان/ الاردن : الاهلية للنشر والتوزيع، 1987) .
(5) لقد تحريّت طويلا عن سر موقف الفريق الركن محمد رفيق عارف ( رئيس اركان الجيش على العهد الملكي وقبل سقوطه ) وصمته ازاء ما حدث حتى رحيله ، فوجدت من خلال معلومات مؤكدة اسداها لي الصديق الدكتور فاضل السعدوني ان ابن محمد رفيق عارف الوحيد هو صديق طفولة معه ، وكان فاضل يعرف الاب معرفة حقيقية . حدثّني : سئل الرجل عدة مرات : لماذا لا تدلي برأيك في كل الذي حدث خصوصا وانك عايشت الاحداث وكنت في قلب الحدث واقرب رجل الى الثوار ، فلم يجب ابدا . بل انه اعتذر طوال حياته عن مقابلة المؤرخين والباحثين والصحفيين عن الادلاء بأي جواب عن اي سؤال . وقيل بالحرف الواحد ، انه جعل نفسه مريضا مرضا نفسيا ، وبقي حبيس داره حتى لا يلتقي بالناس ابدا ، ولم يتكلم ابدا طوال حياته – رحمه الله – ، ولكن معلومة واحدة استطعت استخلاصها قوله بأن ما سجله الملك حسين في كتابه ( مهنتي كملك ) بصدد لقائي معه وتحذريه لنا بحدوث انقلاب عسكري .. كل ذلك محض اختلاق لا وجود له ابدا !
(6) سيار الجميل ، تفكيك هيكل ( سبق ذكره )
(7) (بعد اجتياح وغزو القوات المسلحة العراقية الكويت بتاريخ 2 آب (أغسطس) 1990، كتب الدكتور محمد فاضل الجمالي سلسلة من المقالات، حول الموضوع، ثم جمعها في كتاب بعنوان : مأساة الخليج والهيمنة الغربية الجديدة ، ط1 ( القاهرة : مكتبة مدبولي 1992) .
(8) راجع : خلدون النقيب ، آراء في فقه التخلف : العرب والغرب في عصر العولمة ، ط 2 ( بيروت : دار الساقي ، 2008
) ، ص 208- 209 .
(9) المرجع نفسه ، ص 210 .
(10) Waldemar J Gallman, op. cit., pp. 61-8
(11) Loc.cit.
(12) Loc.cit
(13) راجع : سنان معروف اوغلو ، العراق في الوثائق العثمانية : الاوضاع السياسية والاجتماعية في العراق خلال العهد العثماني ، ط1 ( عمّان : الشروق للنشر والتوزيع ، 2006 ) ، ص 238-239 . نقلا عن :
BOA.DH.KMS. NO: 117-2. Tarih: 22.12.1331 (1912).
(14) راجع :
Gerald De Gaury, Three Kings in Baghdad: The Tragedy of Iraq Monarchy, Preface by Philip Mansel, Introduction by Alan de Lancy Rush, ( London: I.B. Touris & Co Ltd, 2008), ( 1st published, 1961), p. 189.
(15) مؤيد الونداوي ، الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية ، تقديم : سيار الجميل ، ط1 ( بيروت / الدوحة : المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ، 2013) .
(16) راجع :
Liora Lukutz, Iraq: The Search for National Identity, Routledge Publishing, 1995, p.2
(17) نزار الحسني ( اعداد وتحقيق ) ذكريات في مسيرة الحكم الوطني الملكي في العراق : باقر السيد احمد الحسني من الروضة الكاظمية الشريفة الى البلاط الملكي ، ط1 ( عمان / الاردن : مطابع دار الاديب ، 2011 ) ، ص 339- 340 .
(18) راجع : صالح صائب الجبوري ، صفحات من تاريخ العراق المعاصر 1914- 1958 : مذكرات الفريق اول ركن صالح صائب الجبوري ، تحقيق ومراجعة : اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس ، ط1 ( بيروت : منتدى المعارف ، 2012) ، ص 378- 381
(19) نفسه . راجع الفصل الخاص بذكر تشكيل الاتحاد العربي من هذه المذكرات
(20) كانت المعلومات في حينها تشير إلى أن الإنكليز قد أرسلوا قواتهم إلى الأردن لحماية الأردن ومنع جيشه من القيام بانقلاب مماثل لما حدث في العراق، إلا أن التفسير الذي جاء به صاحب المذكرات أمر جدير بالمناقشة..
(21) انظر: مجموعة كتب وقائع محاكمات محكمة الشعب الصادرة في بغداد الصادرة في بغداد الأعوام 1958-1962
(22) خليل إبراهيم حسين، العميد المتقاعد، موسوعة ثورة 14 تموز، بغداد، 2000.
(23) انظر: مقتطفات من مقال الدكتور عمر اليعقوبي والمنشور على الإنترنت في الموقع الآتي:
http://www.iwffo.com/index.php?option=com_content&view
الرئيسية / الرئيسية / ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 : العوامل والتداعيات الحلقة الثالثة : العراق 1958 في الوثائق البريطانية
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …