ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
(أبو العتاهية)
قبل ان نلوم الآخرين على خططهم لتقسيم العراق ورسم خرائطه الجديدة ، علينا ان نحاسب حكامه ومن يؤيدّهم على ما اقترفوه بحقّ وطن جميل منحنا هويته وشخصيته وأمجاده فعشقناه ، ويكفي العراقيين فخرا ان الدنيا عرفتهم من خلال وطنهم وحضاراته والف ليلة وليلة دون معرفة توحش الطائفيين وأحقاد المتعصبين وتفاهات المنافقين .. ومن الصعوبة إصلاح من تربّى على المواريث البائسة ، أما المنافقون والانتهازيون فهم يتقلّبون على حبال الأنظمة السياسية ويتنقلون على مختلف الموائد .
أوبئة مزمنة تخلق تناقضات تجعلهم ضدّ أهلهم وأبناء وطنهم .. لقد ترّبى المتعصبّون على عادات ومواريث الماضي العقيم وانقساماته ، ولعلّ ابرز خلاف بين العراقيين يكمن في رؤيتهم لتاريخهم ، فهذا يمجّد تاريخه العربي ويفخر به ، والآخر يحتقره ويصفه بأقبح الصفات .. وغدا المجتمع يقتات على تناقضاته دون تفكير سويّ في المصير الذي ينتظر العراق وأهله جميعا ..
وطن عشقناه ورفعنا علمه وتربينا من خيراته وضحّى الملايين لأجله ، فما مصير أحفادنا بربِّكم ؟ كم نادينا العراقيين ان يكونوا بحجم وطنهم الجميل منذ العام 2003 ، وكانوا يتراجعون نحو الوراء بغلبة التعصبّات ورواج الأهواء وتلاعب العصابات وشتائم المجانين وحكم الطغاة .. لقد اهتزّ وضعكم اليوم بعد عشر سنوات من فواحش القتل والتفجير والهزائم والصراعات والضياع المفضوح دون التكهن بالمصير ، وقد غدا بأيدي الجناة والطغاة والفاسدين . ولم يعد المسؤولون الطائفيون يسمعون لأيّة علاجات ولا يقيمون وزنا يذكر للمعارضين الوطنيين العقلاء .
اليوم ، العلاج صعب جدا يا سادتي ، ان المصفّقين للعمليّة السياسيّة يدركون فشلها اليوم بعد ان قادت الى كلّ الخراب ، ولكنهم يتشبّثون بها حفاظا على مصالحهم الشخصيّة والفئويّة والطائفيّة وأجندة وصاية سياسيّة خارجيّة دون أي خلاص من النفق المظلم الذي قادتنا إليه تحالفاتهم وتكتلاتهم منذ سنوات بعيدا عن مصالح العراق والعراقيين ( بمكونّاتهم كما أسموها ) ، فانقسم العراق الى ثلاثة كيانات ستبقى متصارعة من اجل المصالح والموارد ..
ثمّة أسئلة مهمّة بحاجة الى أجوبة عاقلة لا ساذجة ، وهادئة لا متعصبّة ، وصريحة لا خبيثة ، ومهذبّة لا شاتمة ، فالشتيمة زاد الفاشلين وعديمي الأخلاق : هل مرّ العراق منذ تأسيس دولته 1921 بمثل حالته اليوم بحيث ينقسم طائفيّا وجغرافيّا ؟ ما علاج ذلك بوجود حكّام ومسؤولين من أحزاب دينيّة وجماعات متعصبّة توقد الصراع وتذكيه كي يأخذ أبعادا بشعة من التمترّس والتخنّدق والتحشّد كلّ باتجاه الآخر ؟ ماذا تبقّى من عمليتكم السياسيّة التي ولدت بأجندة كيديّة بعد 2005 ، وافتقدت شرعيّتها تماما بعد هزائم وانهيارات ليست سياسيّة بل وطنيّة وتاريخيّة ، أي بمعنى ان الوطن نفسه بات مهدّدا ، بل ولم نجده إلا على الخرائط القديمة ؟
اذا كنتم واقعيين ، كما تزعمون ، فلماذا تنكرون هزيمتكم وما حاق بنظام الحكم كلّه ؟ ولماذا تربطون مصيركم بمصير الوطن ، فالوطن اكبر منكم جميعا ومن الدولة نفسها ، واذا تبدّل مجتمعنا مع الزمن ، فالوطن واحد لا يتبدّل . متى تتخلّصون من التناقضات المهترئة التي انفضحت وتعرّت حقائقها وما يكمن من ورائها .. ومادتها الكذب والتدليس والتشويه والهستيريا الإعلاميّة الفظة .. انهم سواسيّة – عندي – سواء من قام بتحطيم نصب وتماثيل عظماء الموصل ، او من قام من الطرف الآخر بتحطيم تماثيل أبي جعفر المنصور مؤسّس بغداد والشاعر أبي نواس وغيرهما ؟ كلهم سواسيّة فلا تكيلوا بمكيالين ، فأولئك وهؤلاء موتى هذا العصر ولكنهم يحيون العصور الوسطى ! لماذا سكت كلّ المسؤولين العراقيين حتّى اليوم على جريمة حرق مكتبات العراق وتدمير المتحف الوطني يوم احتلال العراق عام 2003 ، ولم تستنكروا عندما جعله البعض منكم عيدا ؟ لماذا تستغربون على ما يفعله الدواعش ، وقد سكتم على ما فعله الآخرون من فواحش ؟ لماذا قبلتم ان يحكمكم حزب ديني طائفي هو حكر على أبناء طائفة واحدة ، ولم تفكّروا بما سيحدثه ذلك من ردود فعل عارمة وزدتم في الاضطهاد والتنكيل والقتل بتوّحش مضاد لذوي النزعتين المدنيّة والوطنيّة . انتم المسؤولون عن شيطنة الواقع باعتمادكم على الأعداء لإشعال العراق بالنار وقصف أهلكم في بيوتهم وأسواقهم ومعابدهم بطائراتهم .. إنكم تستعدون شعبكم كونكم تكرهونه وتطلبون مساعدة الآخرين كي تبقون في الحكم .
إن الوطنيّة لا تعمل في أجواء موبوءة بالمعتقدات المتخلّفة العمياء والأساليب الطائفيّة الضالة ، إن الوطنيّة نزعة واضحة لا تقبل التأويلات الفقهيّة والاختلافات العقديّة ولا علاقة لها بها ، واذا كانت الطائفيّة محتكرة لدى هذا الطيف او ذاك ، فالوطنيّة لا يمكن لأحد احتكارها لنفسه ، فهي مشاعة لكلّ العراقيين مهما تباينت أطيافهم وتعدّدت ثقافاتهم وتنوّعت اتجاهاتهم .. إنني اسمع بعض الإعلاميين والسياسيين والنوّاب يطالبون العراقيين بـ ” منظومة أخلاقية ” ولكنهم هم انفسهم يمارسون أدواراً غير أخلاقية .. باستخدامهم الكذب والتدليس وتشويهم سمعة المخالفين لهم واتهام المعارضين للنظام السياسي الحاكم بأبشع الاتهامات .. بل يقومون بتشويه سمعة سكان مدن حضريّة كاملة بأسوأ الأوصاف ! عشر سنوات ، والعراقيون يشتكون من اتباع سياسات جائرة والإعلان عن ثارات قاتلة وانقسامات ماضويّة عقيمة ، وكنتم تصمّون آذانكم .. ويخرج علينا البعض من الساسة والنواب يجيبون قائلين بانهم قد منحوا الفرقاء مناصب عليا ، وكأن ذلك عدالة اجتماعية لشعب يعتبرونه مجرد قطيع ورعاع !
عندما كنتم تؤيدون او تعارضون حكومات عراقيّة سابقة ، كنتم تتشدّقون بشعارات وطنيّة برّاقة ، فهل حققّتم عشر معشارها ؟ وكيف أتقّنتم اللعبة في العمل مع أعداء العراق على نخر العراق باستخدام ” الدين الطائفي ” وسيلة مثاليّة من اجل الهدم الاجتماعي بأثواب تحزّبات سياسيّة طائفيّة متعصبّة ؟ ولا تستغربوا ما يقوم به هذا وتصمتون على ذاك ، فالإرهاب انعكاس بالضدّ لما جرى من فواحش باسم الدين منذ العام 1979 ، لا فرق بين ” خليفة ” يعلن عن نفسه هنا ، او بين ” إمام ” يعلن عن نفسه هناك ، واذا كان هناك من ” أمير مؤمنين” او ” أمير جماعة” ، فهناك ايضا ” ولي فقيه” او ” مرجع اعلى ” ! ذلك ان الجميع في سلّة واحدة . لقد انبثق أول نظام ديني في المنطقة سنة 1979 ، واعلن عن تصدير مبادئه ، وكان قائده رجل دين بعمّة سوداء ، فكان ان ظهرت في الطرف الآخر عمامات بيضاء .. واذا كان الأوّل قد اصدر فتواه بتصفيّة سلمان رشدي لمجرّد كتابته رواية .. فانّ الثاني قد حطّم تمثال بوذا ! واذا كانت جريمة الأوّل صامتة بقتل المبدعة والمناضلة زهرة كاظمي ، فان الثاني قد اجرم بقطع رأس تمثال ام كلثوم ! فلا فرق أبدا يا ناس بين هؤلاء وأولئك .
لما كتبتم “دستور العراق” كنتم متحالفين مزيفّين مزوّرين لتعزيز مصالح غير وطنيّة في بنود عارضناها، كونها جناية بحقّ العراق بعد تشريع ماكر بالتقسيم . لقد رقصتم بما فيه الكفاية مستهترين على حساب الوازع الوطني وأكذوبة الديمقراطية وما اقترفتموه باسم ” المكوّنات ” ، ومنحتم فرص تدّخل الآخرين في شؤوننا الوطنية ، ولم تلتزموا جميعا حتّى بـ” دستور مشّوه ” ، واليوم تتباكون على ما حصل ، وتبدون فاشلين ومهزومين ايضا بعد حلول واقع مرير جديد، بل تبدون أشبه بمجانين متهسترين لا تعرفون ماذا تفعلون .. لماذا تتمسّكون بنظام حكم هزيل لا تأثير لكم فيه إلا على منطقة سماها الأمريكيون بالخضراء ؟ لقد ضيّعتم العراق بسياساتكم ، وأهدرتم ثرواته ، ونكلّتم بكرامة أهله ، وما زلتم لا تعترفون بأخطائكم وخطاياكم وجناياتكم ..
لم يعد يهمّ من تختارونه رئيسا للحكومة منكم ، وكفاكم تتبجّحون بالفائز الأول في الانتخابات وحقّه في ولاية ثالثة ، ونسيتم كيف نكلّتم بالفائز الأول في انتخابات 2010 وغيبتموه قسرا وظلما كونكم أدوات بأيدي الآخرين ، علما بأنّ البلاد وقت ذاك كانت موحّدة واليوم تواجه تصدّعا مصيريّا ، فما الذي يمكن فعله كي ننقذ البلاد ليس منكم ، فالزمن سيأكلكم ويسحقكم ؟ ولكن من مصيرها المجهول ؟ العراق اليوم بأيدي ثلّة من المتعصّبين المشوّهين بعد ان ضيّعه حاكم لا يعرف رعي قطيع أغنام ، وقد كان وراء كلّ الهزائم والانكسارات . حاكم سحق العراق والعراقيين يتوّجب محاسبته ومحاكمة بطانته ، فكيف باستطاعته او كتلته او حتّى أيّ عضو من أعضاء حزبه إنقاذ البلاد بالعنتريات والهلوسات والخطابات المضطربة والاتهامات المنكرة ؟ ان البلاد بحاجة الى ثورة وطنية تقدّمية حقيقيّة لا تفرّق بين العراقيين ، وتسعى من اجل بناء تاريخ جديد بعيدا عن كلّ أجندات الأحزاب الدينية القاتلة.
نشرت في جريدة المدى العراقية يوم الثلاثاء 15 تموز / يوليو 2014
http://www.almadapaper.net/ar/ViewPrintedIssue.aspx?PageID=10293&IssueID=519
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …