نعم، إنه “صراع ثقافات” نعيشه اليوم، وليس “صراع حضارات”، كما توقّع ذلك مخطئا صموئيل هانتغتون.. صراع ثقافات بدأ معنا الآن إثر حركة المتغيّرات التي ولدت في حياتنا العربية مع العام 2010، والتي ستبقى تعيش لثلاثين سنة قادمة.. صراع يختزل نفسه بين ثقافتين؛ أولاهما حداثوية والثانية ماضوية، فلا الحداثة نجحت في حياتنا العربية ولا الماضويّة أفلست فيها، إذ وجدت الأخيرة لنفسها حواضن اجتماعيّة عربية وأرحاماً سياسية إقليمية.. ومع انهيار القيم المدنية التي أرست نفسها منذ القرن التاسع عشر وحتّى الحرب العالمية الثانية ومجيء الحكومات العسكرية إثر انقلابات مفاجئة، تكبّلت الحياة بالأغلال، وافتقدت الحريّات..
وبدأت الحداثة تدخل نفسها في شرانق أيديولوجية، وواجهت الآخرين في صراع أيديولوجي مكشوف على امتداد ثلاثين سنة، حتى العام 1979 عندما دخلت في صراع مكشوف من نوع آخر مع المستبديّن الجدد، سواء استبداد السلطة، أو استبداد المال، أو استبداد الطوائف.. واليوم هي في مواجهة مكشوفة مع نوع آخر من الاستبداد الثقافي والطائفي والمذهبي، ولكنه وباء يأكل كلّ الحياة..
اليوم، كل منحى ثقافي عربي يعيش في أزمة.. وكل مدينة ثقافية عربية تعيش في أزمة.. اليوم، يعيش الفن العربي في أزمة قاتلة رغم هشاشته.. ويطال الصراع حتى أولئك الأوائل من المبدعين الكبار؛ أدباء وشعراء ومفكرّين وفنانين مبدعين، من الذين أثروا حياتنا في القرن العشرين.. اليوم نحن أمام مواجهة حقيقيّة بين التمدّن والتوّحش.. اليوم لسنا نعيش “أزمة مثقفين” . كما وصفت قبل ستيّن سنة، بل نحن أمام صراع حياة أو موت.. نحن أمام هجمة شرسة تأتي باسم التغيير، وقد سرقت مبادئ الثورة الحقيقية، ودخل التوحش من شبابيك الديمقراطيّة! علما بأن الماضويين لا يؤمنون أبداً بالحريّات، ولا بالإنسان، ولا بالديمقراطيّة..
نحن في مواجهة حقيقية مع تيّارات لا أوّل لها ولا آخر، يمتد اجتياحها من أعماق المشرق نحو أقاصي المغرب، وقد تمكنّ بعض هذه “التيّارات” من السلطة، فزاد توحّشها، وغلظ لسانها، وبدأت تفرط في بشاعتها.. خرجت اليوم كالغول المتوحّش، وكأنها لم تكن تعيش حياتها في الماضي الجميل لتغدو ساخطة على كل الحياة المدنيّة وعلى كل قيم وافكار جديدة !
لا حوار معها، فهي لا تعرف الحوار العقلاني والمنطقي، بل إنها تستخدم أبشع أنواع الاتهامات، وتمارس التسقيط والتهميش والبذاءات والسباب والشتائم والتنكيل، وكأنها ولدت في بيئات موبوءة، وكأنّها لم تعش بين ظهراني مجتمعات توارثت التقاليد الرائعة والقيم الدينية السمحة والاعتبارات الأخلاقية والإنسانية منذ القدم.. فهي تيّارات وجماعات أو أحزاب لا تعرف إلا لغة النفيّ والإقصاء والتحريم والتجريم، والتكفير والانحياز والتمسّك بالمطلقات من دون منح الآخر أي هامش للحركة أو أي مجال لإبداء الرأي، أو أي نطاق للتفكير!
ولا مجال للحوار مع هؤلاء الذين لم يصلوا إلى مواقعهم السلطوية إلا من خلال عاملين اثنين؛ أولهما الأرضيّة الداخليّة التي صنعتهم وأهّلتهم، وخلقت من ورائهم موجات جماهيريّة ترضخ لهم ولإرادتهم.. أي أن تراجع المجتمعات في دواخل حياتنا العربية إلى الدرجة التي منحت هؤلاء شرعيّة سياسيّة في الحكم. وثانيهما الأجندة الخارجية التي باركت وصول هؤلاء إلى السلطة والتحكّم بمقادير الأمور وتقريب المواجهة، بل وخلق الصراع بين النقائض في مجتمعاتنا.
إن ما نشهده أو نسمعه عما يحدث من تكريس لثقافة التوحّش في أكثر من بلد عربي، ومن حرب مواجهة شاملة يمارسها الغلاة ومن يناصرهم ضد المتاحف وضد التماثيل، وضد الفن، بمختلف أشكاله وأنواعه، وخصوصا ضد الغناء والطرب ، او ضد المسارح والسينما ، أو ضد الفنون التشكيلية وضد المصوّرات والرسوم والالوان ، أو ضد المنتديات وحتى النقابات، وضد الشوارع السياحية وأشجارها، أو الحملات المحمومة ضد المبدعين والأدباء ، او ضدّ الفنون الادبية وحتى ضد الألبسة والأشكال والهيئة العامة باسم المحرّمات والمدنّسات ، فضلاً عن التدّخل لتشريع ذلك دستورياً.. إن ما نشهده اليوم حقاً هو صراع حقيقي بين ثقافات، ستكون الغلبة فيه للمتسلطين والمتنفذين ومن بيده حكم البلاد والعباد، ولكنّها ستفشل في النهاية، عندما نكون قد خسرنا زمنا طويلا وإمكانات ممتازة وعجزنا عن التقدّم في العالم، بل وعجزنا حتّى عن حلّ المشكلات التي تغرقنا منذ زمن طويل.
المشكلة في انهيار مستويات التمدّن والقيم والاخلاق أمام شراسة ثقافة التخلّف واستبداد شريعة الغاب تحت مسميّات جميلة.. فلقد سرقوا تلك “المسميّات”، ليغدو هذا ” حزب نهضة ” ، ويصبح ذاك ” دولة قانون ” ، ويتغنّى الاخر باسم ” حزب الحريّة والعدالة ” .. الخ انهم مهما حاولوا الترقيع بمسميّات حداثوية، فهم مساهمون في خلق العنف والغلو والتطرّف، ناهيكم عن التسييس الطائفي ومحاربة العصر.. فأين سيقودنا صراع الثقافات لثلاثين سنة قادمة؟ كيف ستتربّى الأجيال الجديدة في ظل هذا “الصراع”؟ ما الأثمان الكبيرة التي ستدفعها مجتمعاتنا في قابل ؟ كيف سنواجه العالم ونحن بهذه الأحوال؟ من سيصلح شأن الحياة لدينا؟ من سيبني مستقبلنا؟ وأين سنكون من العالم إذا استمر مثل هذا “التفكير” مطبقاً ومسيطراً على حياتنا، وقد شلّ إرادتنا، وسحق تفكيرنا، وقضى على إبداعنا؟ متى ستكون لدينا حزمة قيم وأخلاق عالية نتعامل بها مع أنفسنا قبل غيرنا؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 2 اكتوبر / تشرين الاول 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …