من ينكر كل الخراب في العراق ؟ من ينكر كل هذا الفساد في العراق ؟ من ينكر تلاشي الكثير من القيم في العراق ؟ من ينكر أن العراق ليس ذاك الذي عرفناه منذ خمسين سنة ؟ من ينكر أن العراقيين اختلفوا كثيرا عن أولئك الذين عاشوا من قبلهم ؟ ما هذه ” الثقافة ” الواطئة التي انتشرت عند العراقيين ؟ ما سر اعتياد الناس على التعامل مع الفساد والفاسدين، وكأن الحالة طبيعية ؟ من خوّل بعض المسؤولين أن يكونوا من المضاربين، وكأن النهب حالة طبيعية للمال العام ؟ من جعل هذا الوباء ينتشر انتشارا كبيرا في العراق، ليغدو ثقافة منحدرة لدى الأغلبية ! ويضيف احدهم قائلا: ان تنتقد هذه الحالة، فانك تصبح ساذجا يتضاحكون عليك.. إذ يعتبر الاختلاس والرشوة والتجاوز والنهب.. فضلا عن القتل والخطف والتعذيب والإجرام.. من السمات الطبيعية لثقافة فوضوية غاية في الإسفاف.، ولكنها غدت ثقافة مألوفة عند الناس! يا للهول..
ملائكة وشياطين
إن هناك من يريد حمل هذه الثقافة لدى العراقيين حتى اليوم، فالكل يشهرون سيوفهم ويحملون خناجرهم في أحزمتهم ضد بعضهم الاخر، ولكن مصالحهم المشتركة تجعلهم يتفقون على قسمة السرقة، فيسكت هذا على ذاك.. علما بأن، هذا يريد الفتك بذاك والثالث ينكل بالرابع وهلم جرا.. ليس هناك ملائكة حكمت العراق، ولكن ليسوا كلهم بشياطين! ليسوا كلهم عقلاء ودهاة وليس كلهم مخابيل ومجانين.. إن المطلق هو السائد على النسبي دوما في التقويم، وربما اعترف البعض بأن لهذا العهد أو ذاك الزعيم أخطاءه المريرة، ولكن أيضا له مكانته ومنجزاته.. إن عوامل التغيير دوما موجودة في تكويننا التاريخي داخليا، ولكن غدا التغيير نحو الأسوأ، بفعل عوامل خارجية لها فعلها أيضا.. ليست المشكلة في ما حدث، بل في الرؤية إلى عوامل الحدث، وأيضا ما نتج عنها وما تداعى منها. لماذا نهايات زعماء العراق كلها مأساوية عبر التاريخ، والعراق ينتقل من مأساة إلى مأساة؟ ما سر سلسلة هذه النهايات المأساوية التي ينتهي إليها حكام العراق وزعماؤه ؟ ولم تقتصر ثقافة اليوم على ما ذكرنا فقط، بل امتدت إلى أن تكون ثقافة انقسام مفضوح، بل ان هناك ثقافة مزيفّة في المجتمع منذ أزمان طوال مضت! ولقد أنتج الانقسام صراعات بين القوميات والطوائف والأديان والمحليات والطبقات والمدن والأرياف.. الخ
هل من تحقيق في قضايا الفساد ؟
قبل أن أطالب المجتمع أن يعتذر من نفسه، كي يتصافى بوعي جديد للحياة وفهم جديد للتاريخ وشراكة حقيقية في الثقافة.. علينا أن نطالب بالتحقيق في كل قضايا الفساد وحكايات النهب المنظم والسرقات والاختلاسات لأموال العراق وبالملايين.. قبل أن ننادي بالسماح لكل المزورين والكاذبين والدجالين والأفاقين ونغفر لهم جناياتهم وجرائمهم.. على الشرفاء في الدولة الوقوف بصرامة أمام كل المارقين وفضح ما يقومون به! على كل النزهاء العراقيين أن يسألوا كل الطفيليين الذين أصبحوا من أصحاب المليارات والملايين في غضون وجودهم في الحكم! إن ثقافة الاعتذار لا تشمل كل الذين أساؤوا إلى المال العام في العراق، وكانوا وما زالوا يلهثون وراء المناصب ومراكز القوة من اجل النهب.. إن الفضائح بات يدركها القاصي والداني.. على العراقيين أن يفرقوا بين العراقيين لا على أي أساس عرقي أو مذهبي أو طائفي أو محلي.. بل على أساس النزاهة والكفاءة.. وقبل أن نناشد أن يحلّ الانسجام بديلا عن التخندقات الطائفية والعرقية، لابد أن يعرف كل العراقيين أولئك الذين كانوا وما زالوا يمصّون دماءهم، ويأكلون مصادر رزقهم، وينهبون ثرواتهم.. بل ليدرك أوجه الصرف التي تمارسها الدولة والإنفاقات المجنونة من دون أي مردود.. صحيح أن على العراقيين أن يتجاوزوا آثار صراعاتهم الإيديولوجية الدموية التي كانت قد وصلت إلى حد الانسحاق والعذابات في النصف الثاني من القرن العشرين! ولكن لا يمكن أن يستمر الحال.. إن على الدولة أن تتخلص من جوقة من الذئاب التي تنهش لحوم العراقيين علنا، وكأنها لم تفعل شيئا.
هل من إجراءات حقيقية ؟
كم أتمنى على القادة العراقيين الشرفاء جميعا ، الاستئناس بما يقوله المعارضون الحقيقيون الذين يعيشون قلقا مستمرا على حاضر العراق ومستقبله ، ويحملون هموم العراقيين.. لا للإيمان بوجهات نظرهم، بل لمجرد اتخاذ إجراءات حقيقية من اجل كبح جماح الفساد المستشري في كل مكان.. إن العراق لا يخلو حتى هذه اللحظة من الشرفاء المخلصين الأمناء والنزهاء الذين لا يمكنهم قبول دينار واحد بالحرام.. إن ثمة عراقيين ما زالت أيديهم بيضاء، وسيرهم نظيفة، وأخلاقهم عالية، وقيمهم رائعة.. فهل استطاع احد في الدولة أن يكرمهم؟ هل نجح الإعلام في إبراز وجههم المشرق؟ إنني اعرف نسوة ورجالا من عراقيين لا يمكنهم إلا أن يتبرعوا بجهودهم وأموالهم وعواطفهم من اجل الصالح العام.. وعلى عكسهم، فثمة عراقيون بهيئة ذئاب جائعة لا تشبع أبدا، وكلما سرقت وزادت من ملايينها، غدت أكثر بشاعة وشراهة.. وحتى أن شبع هؤلاء الجناة بحق العراق والعراقيين، فلا يمكن أن ترتجي منهم خيرا للعراق، ولا يمكن ان تنتظر منهم أي مشروع يخدم العراقيين.. ولا يمكن أن يشعر هؤلاء أن العراق وطن الجميع، ولم يخلق لوحدهم حتى ينهبوه نهبا مفضوحا.. إن المشكلة ليست بما يدعيه هذا أو يقوله ذاك من الناس، ولكن ما يقوم به الطفيليون إنما يستند على وثائق ومعلومات دامغة تسكت كل الألسنة.. ولقد استطعنا أن نقف على معلومات وثائقية مؤكدة تدين عراقيين ادانات قوية، فهل تصغي الدولة إلى صوت العقل وتبدأ بإجراء تحقيقات علنية لما يقوم به البعض سواء كان ذلك البعض في الدولة والمجتمع؟
الساكت عن الحق شيطان أخرس
إن الساكت عن الحق شيطان اخرس، وان الدولة إن سكتت على ما يجري تحت مسميات وإعلانات شتى، فانها تعتبر مشاركة في مثل هذه الآثام، وهي مسؤولة تمام المسؤولية عن حجم الجنايات التي يقوم بها الطفيليون العراقيون بحق العراق، وهم من متنوعي المشارب والاتجاهات مسؤولين وموظفين.. إن اكبر مشكلة يعيشها العراقيون أنهم لا يتقبلون نقد أنفسهم.. إنهم يتعصبون لبطل أو حدث أو عهد أو زمن من دون ان يتقبلوا نقد بعضهم بعضا، ومن دون ان يعترفوا بأخطائهم، ومن دون ان يتسامحوا مع بعضهم ابدا ! ربما أتسامح مع أي عراقي سياسيا ودينيا وطائفيا وفكريا وفنيا.. ولكن لا يمكن أبدا مسامحة المزورين والمختلسين والسارقين والنهابين والافاكين .. لا يمكن أبدا مسامحة أو مساعدة هذا الرتل الخطير الذي وجد نفسه فجأة أمام المال العام والخاص، وبات ينهب ما شاء له النهب من دون أن يوقفه احد عند حده، ويحيله إلى التحقيق والقضاء.. إن لجان النزاهة لم تعد نافعة في العراق، لأن تيار الفوضى والفساد اكبر حجما بكثير مما نتصور.. ولم يعد هناك من يتابع باسم القانون، ولم يعد هناك من يخشى السلطة، ولم يعد هناك من يردعه ضميره لارتكاب ما يقوم به من جنايات وجرائم! إن المشكلة ليست سياسية أو فكرية، بل انها سلوكية وتربوية في الأصل.. وعليه، فهم لا يأتون بالعيني والاغاتي، بل بالمحاسبة لكل من يثبت انه أصبح مليونيرا او مليارديرا كي يسأله الشعب العراقي من قبل حكومته : من أين لك هذا؟
ماذا نفعل ايها العراقيون ؟
عرفت مجتمعاتنا منذ القدم عادات وتقاليد بالية، لا يمكن أن تتوازى أبدا مع حقوق الإنسان، وسمو التعامل، وخصب الحوار، وشرف الكلمة، وسمو القيم، ونظافة اليد، ورفعة الأخلاق! لقد عرف المجتمع جوقات من الأشرار والسراق والمرتشين والطفيليين ومارسوا أساليب متدنية، إلى حد الإسفاف لما دعي بـ النهب المكشوف، ولكن كان هناك من يراقبه او يحاسبه او يحلق شعره على شاشات التلفزيون ويقاضيه.. أما إن تبقى أموال العراق تذهب هباء منثورا، كي يتقاسمها بعض من هم في السلطة أو المسؤولية أو الوظيفة أو الإدارة باسم شركات ومناقصات وكومشنات وتقديرات وهمية.. الخ فهذا ما سيحاسبكم عليه التاريخ.. أناشد كل من وقف على رأس العراق في الدولة العراقية ان يأخذ ندائي اليوم على محمل الجد.. فهو ليس مقالا سياسيا يعارضكم، وهو ليس مقالا اجتماعيا يخالفكم.. انه دعوة صريحة تعّبر عن ضمائر الملايين من ابناء الشعب العراقي.. يدعوكم إلى وقف هذا النهب المنظم من قبل طفيليين وجدوا أنفسهم على رأس مؤسسات عراقية. وسيبقى الشعب العراقي يلّح عليكم لقطع دابر الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع.. سعيا وراء ثقافة عراقية نظيفة جديدة، بالاعتماد على الشرفاء والنزهاء وأصحاب الضمائر الحية، برغم ان المزيفين باتوا أكثر جدا من الحقيقيين، وان الكذابين أمسوا أكثر من الصادقين، وان الطفيليين غدوا اكثر من الملتزمين والعضويين. وعليه، فقد باتت الحالة العراقية تعيش حالة بائسة من التدنّى، واغتصبها أناس لا يمكن اعتبارهم عراقيين شرفاء وأولاد نعمة وأصحاب قيم وأخلاق، فمن يحمل هذه الصفات يتحّلى بمواصفات لا يمكن أن نجدها عند من يمثلها اليوم مع الأسف.
إن العراقي سواء كان ملتزما أو عضويا أو مثاليا، فلا يمكن له بعد اليوم أن يسكت ـ او يغّرد خارج أي سرب.. فليس من الأمانة أبدا أن يترك البيت العراقي يعبث به الطفيليون و(الحرامية).. صحيح انه يتسامى بضميره العالي دوما عن الصغائر، ولكن ما يحدث لا يعد ابدا من توافه الأمور ونحن نحلم بعراق يزهو بأسمى المعاني الحضارية يحترم فيه الإنسان بقدر ما يقّدس فيه المال العام، ويعشق فيه الوطن التراب كمن يلصق نفسه بهذا الوجود.. علينا أن نقولها جملة عراقية واحدة : لا للطفيليين والحرامية في العراق إلى الأبد.
نشرت في الصباح البغدادية ، 13 يناير / كانون الثاني 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …