مقدمة : ريادة التجديد
عاشت مصر على مدى مائة عام من 1869 إلى 1967 ذروة الإبداع الموسيقى والغنائي وعلى أيدي عمالقة من الفنانين خلقتهم بيئة وظروف وعوامل أساسية منذ عهد الخديوي إسماعيل 1863 – 1879 وصولا إلى عهد الرئيس جمال عبدالناصر 1953- 1970 كانت الفنون من قبل في حالة تقليدية كانت مألوفة ومتكررة.. ومع ولادة عهد محمد على باشا في 1805 بدأت معالم التغيير تطرأ على مصر، وخصوصا بعد انفتاحها على الثقافات الأخرى، ومع وصول الخديوي إسماعيل إلى سدة الحكم، بدأ التجديد على يديه بخلقه جملة هائلة من الحوافز وعنايته بالأوبرا ، وبنائه لدار الأوبرا المصرية القديمة في قلب القاهرة من اجل أن تعزف فيها أوبرا عايدة .. هكذا بدأ انفتاح مصر على كل العالم، وإنفاق المال على المبدعين وموسيقى القصر واندماج الألحان العربية بالتركية بدعوة الموسيقيين والمطربين وانتشار الطقاطيق وتجديدات في الغناء بدأها الفنان عبده الحامولي 1847- 1901 الذي اعتمده القصر برفقة الفنان السوري أنطون الشوا، ودخول الكمان إلى التخت المصري لأول مرة، ثم لحقه ابنه الفنان سامي الشوا الذي اشتهر شهرة عريضة بتقاسيمه على الكمان، واستمر الشوا في إبداعه حتى الثلاثينيات من القرن العشرين. لقد مر النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفرص التجديد كبيرة وممكنة بانفتاح مصر واستعداد المجتمع للتغيير، وتقبله لذلك من خلال طبيعة سلسة ومنفتحة من دون أية تعقيدات، ولا أية مشكلات، ولا أية حواجز دينية أو سياسية..
المؤسسون الاوائل
ويعد الفنان الحامولي رائدا للتجديد، المولود بطنطا عام ,1845 وكان لهذه المدينة الهادئة دورها في تقديم مبدعين كبار من أبنائها، ساعدها موقعها، وكثرة شيوخها والمنشدين المجودين فيها.. اشتهر الحامولي وانطلق نحو القصر الذي احتضنه، وأرسله الخديوي إلى إستانبول ليغنى أمام السلطان عبدالحميد الثاني، كما جدد الرجل مواهبه وتعلم عدة مقامات وإيقاعات أدخلها على غنائه.. فكان أن وصل إلى درجة عالية في كل من التجديد والشهرة والمنزلة الرفيعة، وكانت التقاليد المتحضرة قد بدأت في القاهرة، بانطلاق الحفلات العامة من حديقة الأزبكية والتي سطع نجم الفنان سلامة حجازي 1852 – 1917 من خلالها، وعرف التخت مكانه على المسرح الذي اعتلاه هذا الفنان، فتحول الفن على يديه من صالات القصور إلى حدائق الدولة، أي من أبهة الملك إلى مسارح الشعب، وكان أشهرها مسرح سانتى في حدائق الأزبكية.. كانت انطلاقة الأدوار بعد أن تم التخلي عن الدوبيت، وبعد أن أصبح الفنان في فرقة، أسس سلامة فرقته عام 1888 ليبدأ زمن المسرح الغنائي منذ ذلك الزمن، وما أن يفتتح القرن الجديد أيامه حتى يكاد التخت يتراجع إزاء ولادة الفرق الموسيقية العادية أو الأوركسترالية.. لم يقتصر أمر التجديد على الدراما، بل انتقل إلى إبداع الألحان بعد الخروج من عباءات التقاليد لترديد التواشيح والطقاطيق.. بدأت الألحان تنطلق باستخدام آلات موسيقية جديدة، واختص الشيخ سلامة بتلحين الأناشيد والمارشات الخديوية، وعدّ الأب الروحي للفنان سيد درويش، وانطلقت المرأة لتشخص بهيئتها على المسرح أمام الناس، فكان ذلك مدعاة للاعتزاز بدور المرأة الفني، ولأول مرة برزت الفنانة منيرة المهدية 1885 – 1965 تقف لتغنى على خشبة المسرح وتشترك مع فنانين رجال في أداء الروايات المغناة، كما قامت بتأسيس ملهى في حي الأزبكية، أخذ يقصده المثقفون من أدباء وشعراء وساسة.
1917 : النقطة الفارقة والفاصلة
لقد أثمر التجديد في نصف قرن إنجازات رائعة تمثلت بكل من الجيل المؤسس الذي قاده كل من الحامولي وسلامة حجازي والشيخ يوسف خفاجي المنيلاوى والشيخ أبو العلا محمد وعزيز عيد ومنيرة المهدية وسيد درويش.. وعنده تختتم مرحلة تأسيسية خصبة لتبدأ مرحلة جديدة تتطور كثيرا على أيدي مؤسسين من نوع آخر ومن خلال عشرات المبدعين نسوة ورجالا. أعتقد أن العام 1917 كان حدا فاصلا بين مرحلتين من تطور مصر بانتقالها في هذا العام عبر سلسلة القرن التاسع عشر من ولاية باشوية إلى خديوية إلى سلطنة إلى مملكة، أي على امتداد مخاض سياسي وحضاري فيه أعلى درجات النهضة عام 1869 عند افتتاح قناة السويس وبين احتلالين فرنسي عند نهاية القرن الثامن عشر وبريطاني عند نهايات القرن التاسع عشر.. لقد اعتلى فؤاد الأول العرش عام 1917 الذي شهد تحولات كبرى في العالم، وبين مخاض الحرب الأولى وبين عام 1967 خمسون عاما شهدت مصر فيها مختلف البدائل والتجديدات عبر مخاض صعب جدا من المتغيرات، لقد استمرت مصر في كل من عهدي الملكين فؤاد الأول وولده فاروق الأول تنضج نهضتها الموسيقية والغنائية بتبلور مبدعين عمالقة في كل من التلحين والغناء، وترافق ذلك مع الفرص التي منحها التطور التكنولوجي بذيوع شركات الأسطوانات والجرامافونات، فاعتمدت الطقطوقة والأدوار القصيرة في التسجيل.. كانت منيرة المهدية سلطانة الطرب المصري عهد ذاك، ومنحت الفرصة أمام النخبة المصرية من المثقفين المصريين الكبار لأصحاب المواهب من الشباب أن ينطلقوا على مسرحها، فكان أن ظهر على خشبته محمد عبد الوهاب الذي سيكون له شأن كبير على امتداد القرن العشرين وخصوصا في الخمسين سنة المعنية باعتلائه صهوة التجديد في الغناء العربي وصولة التغيير في الموسيقى العربية، بظهور الأوبريت الغنائي متأثرين بأوروبا وتراثها الموسيقى.
زمن العمالقة : ذروة الإبداعات الجميلة
تبلورت نخبة جديدة من المبدعين المتميزين في التجديد، وقف على رأسها الفنان سيد درويش 1892 – 1923 الذي لقب بفنان الشعب، كونه أنزل الفن من عليائه إلى الناس ليتحدث به معبرا عن مشاعرهم ومطالبهم ووطنيتهم وبأوركسترالية عالية، كان يؤدى سيد درويش أعماله الجميلة، ويكفيه فخرا أنه صاحب النشيد الوطني الخالد «بلادي بلادى» ولكن القدر لم يمهله طويلا ليغنى الحياة إبداعا فرحل مبكرا ! كان سيد درويش الذي اشتهر كونه فنان الشعب قد تأثر بموسيقار العراق الشهير الملا عثمان الموصلي الذي التقاه في بلاد الشام ، وعاش الموسيقار الموصلي الضرير في مصر حينا ، ووهب بعض ألحانه الرائعة للمصريين . وظهر أيضا داوود حسنى 1870 – 1937 وكان له أثره أيضا بالاشتراك مع محمد كامل الخلعي 1881 – 1931 ، وكان هذا الأخير أستاذا للقصبجي ، وواصلت المرأة طريقها بظهور الفنانة بديعة مصابنى التي أثرت الحياة الفنية إثراء كبيرا وتخرج في مدرستها العديد من الفنانين والفنانات . في هذه المرحلة، أصبح فن مدرسة عبده الحامولي قديما منسيا، ببروز عظماء الملحنين الشيوخ، وهم: صالح عبدالحى وزكريا أحمد ومحمد القصبجى، الذين نقلوا الموسيقى وحركاتها إلى فضاءات جديدة، فإن كان عبدالحى قد بقى على أساليب المدرسة القديمة في غناء الأدوار بمذاهبها وأغصانها، فقد مزج زكريا أحمد الروح القديمة بأنفاس جديدة ضمن مدرسة خاصة به تمّيز بها بجدارة ، ولكن الموسيقار القصبجى بزّ الاثنين بانتقالات بارعة منتقلا بالموسيقى العربية إلى حركات أوبرالية جديدة ضمن الفضاء الشرقي وقد استفاد جدا من موسيقى العالم لإثراء الظاهرة المصرية والعربية بجملة رائعة من الألحان الخالدة .. وتنطلق الأغنية من عقال الطقطوقة وأصول الأدوار التقليدية نهائيا بظهور كل من الفنانين اللامعين المجدديّن : محمد عبدالوهاب ( الذي سيحمل لقب موسيقار الأجيال ) وأم كلثوم، التي حملت لقب كوكب الشرق منذ زمن بعيد، وبرز أيضا بعض المتميزين من المطربين والمطربات ، أمثال : فتحية أحمد ونجاة على ومحمد عبدالمطلب .. وبالرغم من بقاء الأخير في إطار الموروث في حالة جديدة.. لتغدو التجديدات في كل من الموسيقى والغناء عظيمة المحتوى إبان الثلاثينيات من القرن الماضي، وينتهي التخت تماما بزيادة عدد العازفين وتموج النغمات الأوكسترالية ضمن المقاطع الغنائية المتعددة (المذاهب) إذ يصبح لكل مذهب موسيقاه.. وتدخل الأغنية زمنا جديدا سواء القصيرة أم الطويلة ، والتدرج فيها حسب الكوبليهات التي أجاد في صناعتها الموسيقار عبد الوهاب بشكل خاص .
متميزون آخرون
ويلحق بهذا التطور كل من الفنان منير مراد وابنته الفنانة ليلى مراد بالحان الاب وصوت وأداء الابنة ، ثم انطلقت شهرة الفنان فريد الأطرش الذي سيتميز بمدرسته الخاصة ( ويشتهر موسيقارا بألحانه الجميلة ، ويكفيه أن لحنه الخالد ” دقوا المزاهر ” يدق في الآف الأعراس يوميا ) وذاع صيت أخته الفنانة أسمهان (التي تميزت بأوبراليتها وطربها الرائعين معا) ، وأيضا الفنان المتميّز بألحانه الرائعة رياض السنباطى لتعلو مكانة كل من الموسيقى والغناء العربيين إبان الأربعينيات وتغدوان في الذروة، إذ يختص كل فنان بأسلوبه ومريديه وعشاقه وعالمه وفضائه وحفلاته .. ومع تطور كل أعمال هؤلاء العمالقة مع الزمن على عهد الملك فاروق الأول، كانت الألحان قد تطورت ودخلت العديد من الآلات الموسيقية الغربية مثل التانجو والسامبا، والباص، والكونترباص والشيللو والفيولينة والكاستانيت والبيانو، ويظهر مجددا آخر في التلحين والغناء ممثلا بالفنان محمد فوزي الذي اتخذ له أسلوبا مبدعا جديدا، وشاركته كل من أختيه الفنانتين هدى سلطان وهند علام.. لقد اصبحت مصر ابان ذلك الزمن الجميل قبلة للفن العربي مع انتشار الراديو والسينما معا ، فكان أن وصل من لبنان كل من الفنانتين القديرتين نور الهدى وسعاد محمد إلى القاهرة في ماراثون رائع من التطور، والحقيقة، إن استقطاب القاهرة للفنانين والفنانات من بيئات عربية معينة كان بسبب نضوج السينما المصرية، وسرعة انتشار الأفلام المصرية في العالم العربي، إذ ما لبثت الساحة المصرية أن استقطبت كلا من الفنانتين المبدعتين صباح وفايزة أحمد.. ثم تدخل على الخط الفنانات الرائعات: سعاد مكاوي وشادية وشهرزاد ونجاح سلام ونازك ورجاء عبده وثريا حلمي وكروان وعائشة حسن وحورية حسن وشافية أحمد وسلوى فهمي وأحلام.
الساحة المزدحمة بالمبدعين
لقد ازدحمت الساحة بعد ذلك بعدد من الفنانين الموهوبين الرائعين الذين تسابقوا فيما بينهم لتقديم الأحسن والأجمل في الحفلات الإذاعية وفى السينما والحفلات العامة والمناسبات والتي كانت تلاقى تجاوبا واسع النطاق من كل صنوف الناس ، وامتدت إلى بيئات اجتماعية عدة من العالم العربي ، فكان الفنانون الذين تميّزوا واشتهروا كلّ واحد بأسلوبه وصوته وطريقته ، ومن أشهرهم : كارم محمود وعبدالعزيز محمود ومحمد الكحلاوى (ذو المسحة الشعبية) وعبدالغنى السيد وإسماعيل شبانة، ثم التحق بالركب كل من الفنانين عبدالحليم حافظ (ذي الشهرة الجماهيرية الواسعة بين الشباب ) ومحرم فؤاد ونجاة الصغيرة وفايدة كامل ووردة الجزائرية، ثم شريفة فاضل ومها صبري وعبداللطيف التلبانى وماهر العطار ومحمد قنديل وعادل مأمون ومحمد رشدي وإبراهيم حمودة وعباس البليدى وشكوكو وأحمد غانم وشفيق جلال وشريفة ماهر ومحمد العزبى ومحمد طه وعصمت عبدالعليم وكامل أحمد على وغيرهم.
لقد حظي الفنانون بشعراء رائعين من الزجالين والشعراء والقوالين الذين نبغوا في كتابة نصوص رائعة، بدءا بأحمد شوقي وعلى الجارم وأحمد رامي وبيرم التونسى، وانتهاء بقائمة طويلة من أصحاب الكلمات الجميلة الرشيقة التي طافت في كل المحيط العربي بالتعابير الغزلية والقصائد الدينية والأغنيات العاطفية والمقولات الاجتماعية وآهات الحب وضرام المشاعر والعذاب والأمل والغرام.. كما أن المطربين حظوا بعدد من الفنانين الملحنين الموهوبين الذين قدموا أروع الأعمال، ومنهم محمد الشريف ومحمد الموجى وكمال الطويل وبليغ حمدي وسيد مكاوي وفؤاد حلمي وسعيد عزت وعلى فراج ومحمد الحفناوي ، وقائمة طويلة من أسماء لا تحضرني الآن.
وأخيرا : الظاهرة التاريخية
لقد رحلت مائة سنة من حياة النهضة الفنية المصرية التي أثرت الثقافة العربية الحديثة ثراء رائعا ووصلت إلى أوج ذروتها في كل من الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي ورحلت مع العام 1967 ولم تعد بكل شخوصها من عمالقة وموهوبين ، وكان أن تركت من ورائها تأثيرات واسعة جدا ، لم يواصل النهج نفسه ، إلا قلة من المبدعين الذين لم يسعفهم الزمن بهجمة التراجعية وفوضى القيم وانحسار الأذواق وهي مرحلة صعبة لم نزل نعاني منها .. إن ابرز الأسماء من الفنانين اللامعين الذين تأثروا بتلك الظاهرة الحضارية التجديدية الموسيقية والغنائية المصرية التي دامت مائة سنة وقد جاءوا من بعدها كل من الفنانين المصريين : هاني شاكر ولبلبة وعمر إبراهيم خيرت وصلاح عرام وعمار الشريعي ومحمد ثروت وياسمين الخيام .. .. ومن الفنانين العرب المتميزين : عوض دوخي وعبد الهادي بلخياط وميادة الحناوي وجورج وسوف ولطفي بوشناق ولطيفة وذكرى وأصالة نصري وصابر الرباعي وكاظم الساهر .. وغيرهم . لقد تفوق الفنان الأستاذ صباح فخري في إعادة أداء الأدوار المصرية والموشحات القديمة بشكل لا يضاهيه أحد ، ولكنني اعتقد أن الفنانة المعاصرة الوحيدة التي تجيد العمل اليوم ، بإحياء كل الموروث ألطربي والغنائي المصري بكل فواصله ونماذج مراحله هي الفنانة المغربية المقتدرة السيدة كريمة الصقلي التي أجادت بأعمالها المعاصرة المتميزة أداء أنواع عدة من أصناف ذلك الغناء المتنوع بدءا بالأدوار والموشحات والقصائد الطويلة والأغنيات الخفيفة والاوبرالية .. نأمل أن تكون حافزا لأجيال قادمة كي يتعلموا من تلك الظاهرة التاريخية الفريدة في تاريخنا الحضاري.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4286 – السبت الموافق – 31 يوليو 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …