ربما كانت عواطفنا العربية أقوى من عقولنا لتاريخ مضى، فكان نصيبنا الفشل باتخاذ الاصوب من الأمور، وعدم احترام الحقيقة، وربما كنا نقرأ النصوص بأشكالها وتزويقاتها دون التوغل لتمثّل روحها ومعانيها، ولنعلم جيدا بان مأساة مجتمعاتنا بعض ما توارثته من قيم وتقاليد معقدة اكتسبوها من آثار بيئاتهم الصعبة التي يعيشون فيها منذ آلاف السنين ! لقد عاشوا يقاتل بعضهم بعضا منذ أحقاب طوال: داعس والغبراء، شمال وجنوب، قيس ويمان، قبيلة وأخرى، دواخل وخوارج، بطون وأطراف، أمويون وعلويون، عباسيون وفاطميون، شيعة وسنّة، سلالة وأخرى ، بدو وحضر، أغنياء وفقراء، خلفاء وسلاطين، فرق وعصائب، ملل ونحل، أحزاب وأيديولوجيات، حكام ومعارضون، مثقفون وسلطويون، اكثريات وأقليات، مدينيون ومتريفون.. الخ، ربما كانت للمجتمعات الأخرى القريبة والبعيدة مشاكل مشابهة، ولكنها ليست بالحجم الذي غدت عليه مجتمعاتنا عند نهايات هذه التواريخ المعاصرة!
علينا أن نعترف بأن مجتمعاتنا برغم كل فضائلها ومنجزاتها، ابداعاتها وانتصاراتها، تجاربها وتمدنها.. إلا أنها كانت مشروعا مفتوحا لجروح وقروح لم تندمل أبدا منذ أزمان طوال، أورثتنا اليوم صراع تناقضات الماضي، وبعض أحقاد وبغضاء.. وصولا إلى تفاقم الأمر بإيقاد العواطف الثائرة التي تترجمها حروب باردة، وشتائم وسباب، ووسائل غدر وإشعال الحروب وصولا إلى الموديلات الجديدة في التفجير والتفخيخ كالتي نشهدها اليوم.. ناهيكم عن الأخذ بالثارات الدموية دون أي تسامح، أو حكمة، أو عفو عند المقدرة، أو موعظة حسنة.
إنهم يصلون إلى درجة يفتقدون فيها كل معاني وجودهم وإنسانيتهم، فيغدو بعضهم كالوحوش الكاسرة في الإيذاء، وتحطيم كل ما يرونه أمامهم من الجماليات والمخلوقات، ويسحقون كل المعاني الإنسانية لمجتمعاتهم على عكس مجتمعات أخرى لها كراهيتها لمن يستحقها فعلا.
ومما زاد في الطين بلة أن سياسات دولنا وكياناتنا، غدت تترجم ما توارثته من كل تناقضات التاريخ وأوبئته، لتجعل حياتنا جحيما جراء إحياء انقسامات الماضي، وجعلها واقعا معاشا ومعاصرا.
هنا، نحن إزاء مهام علمية من اجل بناء أجيالنا القادمة، إذ ينبغي أن تجري حفريات دقيقة ومكاشفات نقدية صارمة لبعض مضامين تواريخنا السياسية والاجتماعية لمعرفة خطورة ما أقول! وكثيرا ما تأخذنا العزة بالإثم، وتفور عواطفنا التي جبلنا عليها ونحن نقول إن الكرامة فوق أي اعتبار، إذا ما تعرضت للتجريح من قبل الغرباء والخصوم، ولكن مجتمعاتنا، ويا للأسف، لم تنظر أبدا إلى ما تسجله من اقترافات بحق ذاتها!
لقد منحتني دراستي المتواضعة للتاريخ الاجتماعي فرصا ثمينة جدا في التأمل واكتشاف حجم المفارقات التي عاشتها مجتمعاتنا على امتداد القرون، وما أصابها مؤخرا من تخلخلات وأمراض وتناقضات، ويصعب التعامل مع تلك الحالات التي لا يمكن استخدام العقل معها ما دامت تخضع لمسائل سياسية خطيرة، ومواريث اجتماعية قاتلة، ومعضلات ثقافية يصعب حلها.. فضلا عن تربويات خاطئة جملة وتفصيلا صنعت أجيالا لا تتفق مع الايجابيات في التفكير والذهنيات. إن نزعات غريبة جدا تتحكم اليوم في اتجاهات الرأي العام العربي تسيرها المواقف المسبقة تحت تأثير شعارات وهمية، أو قيم خيالية لا تتحقق أبدا.. وأسيء استخدام الأفكار الجاهزة والطوباوية والمستوردة غير القابلة للتحقيق مع ترديد نصوص لا تتفق والعقل والمنطق أبداً.. لقد وصلت مجتمعاتنا اليوم إلى الدرجة التي لا يمكن أن تحل ابسط المشكلات التافهة بأسلوب عقلاني أبداً.. والعرب يتحكم فيهم إعلامهم وشوارعهم وسياسات دولهم ونزعاتها الإيديولوجية!
إنني أتساءل اليوم: لماذا لم تقدم مجتمعاتنا حلولا عقلانية لمشكلاتها؟ لماذا تكره أي مشروع للتغيير باتجاه المستقبل، من دون تنازلها عن جملة أشياء سوف لن تسعفها أبداً في المستقبل؟ لماذا تكره النقد والاستماع إلى الملاحظات؟ لماذا تعّود الناس على سماع المديح والتبجيل والتعظيم ودرجات الشرف الأولى حتى إن كانت منتجاتهم تقليدية عادية تافهة لا خلق أو إبداع فيها؟ لماذا الشعور دوما بالتعالي على الآخرين، وهذه محنة لا يفهمها إلا الآخرون؟ لماذا يكرهون الحقائق والمعلومات والتدقيق والمكاشفات، ويعشقون التنطع والمبالغات والإنشاء وسماع السباب والشتائم والأكاذيب وصناعة الكلام واللف والدوران في القاعات الدراسية والخطب السياسية والحوارات التلفزيونية والمقالات الصحفية؟! لماذا لا يسمون الأشياء بأسمائها؟ لماذا تتحكم بهم عقدة الخواجة مهما أعلن العكس؟ لماذا يبغضون الزمن بغضا شديدا، فترى من أحب الأشياء إلى قلوبهم مضيعتهم للوقت، والتسكع في الشوارع، ولعب النرد والطاولة والدومينيو؟! لماذا يكرهون الروح الجماعية والمصلحة العامة، ويعشقون الفردية دوما؟ لماذا يكرهون الالتزام برأي الأكثرية ولا يدركون المعاني الخصبة للديمقراطية؟!
عليه، دعوني أقول انه لا بد من بدايات عصر جديد يتغير الناس بغير الناس، وان لم يكن باستطاعتهم أو باستطاعة تواريخهم أن تغيرهم. فان التحولات التي ستصيبهم والصدمات التي ستروعهم، ستجبرهم على أن يكونوا بشراً من نوع آخر، فهم ليسوا من الأقوياء أبداً، وان الأديان في أعمها الأغلب تدعو إلى التسامح والمحبة وروح الألفة وتقبل الرأي المخالف، وعدم الإكراه حتى في الدين والمعتقد، والدفاع عن الإنسان مهما كان نوعه ودينه واصله! إن المستقبل سيسحقنا إذا بقينا على أنساقنا المتخلفة والمريضة والموبوءة، وان ما نشهده من التمزّقات الاجتماعية وليد تاريخ مضمّخ بالأحقاد، وسياسات مشوهة، وتربويات فاسدة تحضّ على كراهية الذات والآخر معا. فمتى يتوقف الناس عن غلوائهم في ما بينهم ليكونوا كتلة إنسانية واحدة مع الآخرين؟ أتمنى أن يكون لهم مشروع محبة دائم ونقاء ورحمة وسماحة وهدوء عواطف وشفافية عقل وتمدن عصر.. تضاف كلها إلى سجاياهم الخالدة الجميلة التي يشهد لهم بها العالم .
نشرت في البيان الاماراتية ، 14 ابريل 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة المرفقة بريشة الفنان العراقي مؤيد محسن .
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …