مدخل من اجل الفهم
لقد مارست الحكومات العربية قاطبة سياسات تربوية وتعليمية وإعلامية وثقافية عقيمة وخاطئة جدا لأكثر من نصف قرن مضى ، وخصوصا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، إذ كان من افجع أساليبها خلط المعرفة والتربية والعلوم بكل من السياسة والأيديولوجيات والعقائد ضمن الطريقة المزدوجة التي تفننـت بها سياسات كل منها . ونشهد اليوم وبعد مضي جيلين اثنين نتاج تلك الممارسات الخاطئة التي لم يكن هناك من يفكر بما سيألو حال الواقع في ظل تكوين ذهنيات جامدة ومنغلقة ومتخلفة ليس لها أي مجال لاستيعاب المتغيرات السريعة والتحرر من التقاليد المميتة ، علما بأن حضاراتنا لم تكن قد صنعتها سلطات معينة ، أو دول ما ، أو مجموعات محلية ، أو قومية محددة .. بل صنعتها عناصر ونخب وقوى اجتماعية وثقافية نشيطة جدا، وأغنتها كل تفاعلات المراكز والأطراف.
معنى المزدوجات
إن جيلا مضى اليوم بعد ثلاثين سنة من هوسه وفوضويته ، بدا وقد اختلت موازينه من خلال عاملين أساسيين اثنين ، أولاهما غلبة الكم على النوع ، فدخلت ميادين الحياة فئات ضعيفة التكوينات ، ومنغلقة الذهنيات ، ومنسحقة الشخصيات .. وثانيهما غلبة النزعات الأيديولوجية والعقائدية على التفكير العلمي والمعرفة .. فانعدم تكافؤ الفرص في ظل واقع متخلف ومتراجع ومضطرب مما قاد إلى تمردات عجيبة لنخب مثقفة ومتمدنة ممثلة بهجرات الآلاف المؤلفة من العقول إلى المهاجر البعيدة ، نتيجة لما حل من تناقضات لا حصر لها من الخلط المبهم بين المزدوجات : المعاني والأشياء ، الموروثات والتجديدات ، الأصول والمستحدثات ، القيم والحاجات ، الضرورات والمحظورات .. الخ مما سبب ولما يزل شقاء مريرا في الوعي ، وإحباط في المواقف ، وانحراف في التفكير كإفرازات من إغواء المزدوجات القاتلة !
اضطراب الموازين وصناعة التخلف :
وإذا كان هذا الذي حصل للعرب على امتداد ثلاثين سنة قد اضر بالتكوين الثقافي والتمدن الاجتماعي ولجيل كامل لم يكن بمقدوره أبدا ملاحقة حياة العصر نتيجة ضعف إمكاناته الثقافية وضياع اهتماماته الحضارية .. فان الفاجعة المؤلمة قد ألمت به نتيجة مساهمة هوس السياسات في تغييبه تخوفا منه أو مداراة للظروف التي خلقتها أوضاع المنطقة .. إذ أضيف إلى العاملين السابقين عاملا آخر بعد أن تعب الجيل السابق تعبا سياسيا وأيديولوجيا ، فانضاف إلى مثالب تكوين الجيل الجديد عاملا عاطفيا ما ورائيا زاد من قفلته على نفسه وشدد في التأكيد على ذاته وأنويته فتعصب لنفسه إذ اعتقد أنها أفضل الكائنات ، ولكن ترسّخت في ذهنيته تناقضات صعبة في الانتماء : لدينه ولقوميته ولوطنه ولأيديولوجيته ، ولتراثه ومعاصرته ، ولثقافته والآخر الخ من إغواء المزدوجات !
لقد تفنّنت السياسات التربوية والإعلامية في ممارسة خطاياها كثيرا وتراقص الناس على هول تناقضاتها ، ثمة من بقي كلاسيكيا وتقليديا يستخدم أساليبه وأعرافه القديمة على ثباتها من دون أي تغيير أو إصلاحات .. فبقي الجيل على جموده بل وازداد تخلفه وتقاليده السالبة ، في حين نجد حكومات أخرى انقلابية وثورية كانت تغير مرتكزاتها وفق تلونها مع الظروف والمستجدات فخلقت بذلك عدة تناقضات وتصادمات في الذهنيات التي تربّت القوى الجديدة على موضوعاتها وأساليبها وأدواتها المزدوجة .. وفي كلتا الحالتين ، افتقد الجيل المعاصر مشيته وخطواته وتفكيره وتطبيقاته وسط دوامة من التناقضات والديماغوجيات والازدواجيات ، أو بقي مسجونا ومنعزلا ومتخلفا ومزيفا في الخنادق والمحرمات والزنازين والاسيجة المقفلات .
الذهنيات المركبة والكسيحة
إن أكثر ما اضر بتكوين ذهنية جيل كامل وهو يندفع اليوم نحو ميادين الحياة ،تلك النزعات المتصادمة بين توظيفات الماضي القديم وبين زيف السياسات والأفكار الجديدة ، وجاء ذلك بوسائل ووتائر متنوعة في المرافق التربوية والإعلامية لسياسات حكومية خاطئة لم تكن تدري بأن نتاجا مريرا وحصيلة صعبة ستنتجها ممارساتها تلك .. ولم تزل حتى يومنا هذا غير واعية بمخاطرها على الحياة القادمة . فمثلا كانت هناك سياسات حكومية علمانية تمارس أدوارها تربويا وإعلاميا باسم النضالات التقدمية والتحررية والتجربة الاشتراكية ، وفجأة تنتقل إلى نقيض ذلك بمزجها المتهافت بين الممارسات العلمانية الخفية وتوظيف الدين في سياسات معلنة وحجتها في ذلك إنها تلائم بين التراث والمعاصرة أو تزاوج كما أسموه بالأصالة والتجديد الخ من إغواء المزدوجات .. فحدثت تكوينات ذهنية مضطربة لجيل كامل بدأ ينتج تناقضاته الساخنة على السطح هذه الأيام ! أو هناك من ذهب لينشر الدعاة والمبشرين بواسطة طائرات الجامبو جيت وصرف شيكات مفتوحة لهم بالدولارات .. مؤمنا بأن عمله سينشر دين الحق إلى ابعد مكان من دون أن يدري انه يساهم في خلق جماعات متطرفة ومناوئة ومعقدة نفسيا .. ستخرج عن طور الحياة الحديثة من خلال تزمت أولئك الدعاة ليس بإرجاع القديم إلى قدمه فقط ، بل لتغليفه بأقنعة مخيفة وبشعة باسم الدين والإسلام منها براء وان ممارسات تلك السياسات ستنتج سلوكيات خاطئة وأفكار وهمية وتقاليد بليدة لا يمكن أبدا أن تتلاءم مع روح العصر !
ما العمل ؟ إنها مهمات أساسية !
ليس أجدى بالنفع من ضم صوتك إلى جانب أولئك يدعون إلى بناء مناهج تربوية وعلمية معاصرة وإتباع أساليب ثقافية نقدية جديدة من اجل تكوين هذا الجيل الجديد ، وهو يحتشد اليوم في المدارس والجامعات بشكل لم يألفه مجتمعنا المعاصر من قبل وخصوصا بحجمه الديمغرافي الكبير وحجم متطلباته ومستلزماته الأساسية .. وسيواجه الحياة بعد سنوات على اقل تقدير عندما سيندفع في البحث عن فرص عمل ومعيشة كريمة ، وسيواجه تحديات داخلية سيفرضها الواقع بكل ما فيه من معضلات ومشكلات وأزمات تتفاقم مخاطرها يوما بعد يوم .
وعليه، فان ثمة مهمات أساسية وعملية لابد من الوعي بها في تكوين هذا الجيل بعيدا عن كل الترسبات والبقايا والتقاليد والمألوفات التي ما زالت سائدة حتى اليوم وهي تعيد إنتاجها في كل مرافق الحياة الرسمية وغير الرسمية .. فما الذي يمكنني قوله في هذا المجال ؟
اولا : إن الضعف الذي نشهده في مستويات التربية والتعليم لدى تلامذتنا وطلبتنا هو حصيلة سوء ما يحصل في مدارسنا قاطبة ، فكل من البيت ومرافق التعليم لا تعتني أساسا ببناء شخصية الإنسان إذ تعوّده على التلقين ، وأنها لا تدربه على المهارات العملية والتفكير الجاد في القراءات وتشخيص النقدات ، والبحث عن فرص الإبداع . وفعلا ، أنتجت السياسات العربية شخصية رخوية مزدوجة التفكير .. انها لم تعتن بتربية انسان لغويا ولا بتنمية تفكيره النقدي وتوعية قدراته في الحياة .. إنها كانت ولم تزل تقهره وتكبته من خلال سلطة نصوص تلزمه بحفظها على ظهر قلب من دون الوعي بمعانيها ، أو من خلال قوالب تردعه عن ممارسة أبسط حقوقه !
ثانيا : لابد أن يقترب الجيل الجديد من مغزى المعرفة التي تؤهله للمستقبل ، إذ ينبغي أن يخصب تكويناته وبناء ثقافته وممارسة حريته وإبداعاته ، وأن يفقه معنى الحياة متخلصا من عقد المزدوجات والتناقضات التي يكبله بها كل من المجتمع والدولة ، وعليه أن يدرك أهمية المعرفة ونقد الأشياء من خلال عقلانيته وشخصيته الحرة والقوية والمستقلة . إن الأنظمة العربية مارست باسم الهوية والانتماء والوطنية والقومية والتراثية مارست قهرا وقمعا لفرض مبادئها الأيديولوجية والسياسية ، فارتكبت اكبر الأخطاء .. ينبغي احترام العرب للزمن وتقديسهم لساعات العمل والمال العام وعشقهم للإنتاج وللمؤسسات التي يعملون فيها .. إنها أهم مستلزماتهم اليوم بدل إضاعتهم الزمن ورخوية الأعمال ! إن متابعة مبسطة للإعلام العربي ، سيعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك كم هو حجم الغباء والببغاوية والمكررات والتناقضات التي وصل إليها بعيدا عن نقد الذات وفهم الآخر!
ثالثا : تزداد المزدوجات في تفكير اولئك الذين نعّول عليهم في بناء الحياة الحديثة في المستقبل المنظور ، كونهم سيتحملون مسؤولياتهم في إدارته وتطويره والتخطيط له سواء على مستوى المؤسسات في الدولة أم منظومات المجتمع .. يتوزعون على خنادق متنوعة من مكان إلى آخر وان أخطر ما يتعرضون له اليوم غسيل لأدمغتهم حتى يبتعدوا عن الحياة الطبيعية والمدنية والجماليات ليأكلهم إغواء المزدوجات وألفة الرعب والأوهام والانفصام والأحقاد وقد ألفت عواطفهم تراكم التحسس بالعظمة الموهومة وانه الأحسن والأفضل ، ويسعى لفرض إرادته القاصرة في الحياة معتقدا ومتوهما انه على صواب ما دام قد اختار هذا الطريق .. ويبقى هكذا مزيفا ومجردا من أي وعي حقيقي أو إدراك متبادل أو ثقافة معمقة أو تفكير عاقل !
رابعا : إن حياتنا العربية التي كان يفترض أن تتغير جذريا لتلائم مستلزمات العصر الحقيقية .. غدت مع الأسف تحت وطأة سيادة المألوف والطرق الغبية الشائعة ، وتدفق الأعداد الهائلة من الشباب على تقمصها نتيجة ضعف مؤهلاتهم ! وذاك من العوامل المفجعة والخطايا السياسية التي أضرت كثيرا بالمستويات والكفاءات والمعاملات والمقاصد الخيرة وتأهيل الجيل الجديد في دنيانا العريضة ، علما بأن هذا الجيل ملزم بالتطلع ، وهو وسط دوامته إلى ما يحدث في العالم اليوم .. ويفكر مليا في المستحدثات الجديدة التي غدت بالنسبة إليه تحديات لا يستطيع الوعي بها ، فكيف ستكون له القدرة للسيطرة عليها قبل أن يكون مؤهلا لإنتاجها والإبداع فيها ؟؟
السؤال : إن العلاج يكمن في إصلاح الإنسان وتغييره كي يعي أساليب التقدم !
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 7 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …