المعزوفات المملة
معزوفة مصطلحية عربية أشاعها (التقدميون) في القرن العشرين . والناس تسمع ولا تتأمل فمنهم من تنشرح نفسه ومنهم من تنقبض وما بدلوا تبديلا. واندلعت الثورات ، وتفجرت الانقلابات ، وعقدت المحاكمات ، وطافت المسيرات ، وأبرقت التأييدات ، ورفعت الشعارات واللافتات ، وصدرت القرارات ، وحلت الحروب الباردة والساخنة والأهلية والإقليمية ونفّذت الإعدامات .. وكلها بأسم القضاء على الرجعية والعملاء ! نعم ، مضى زمن صعب جدا وأفلت التاريخ من عقاله اثر سكونية ماض عقيم . مضى الزمن العربي وأصحابه يدورون دورتهم حول انفسهم ببطء شديد ، فلا تقدم نوعي حدث ، ولا تطور مدهش وقع ، لا فلسطين حررت ولا عدالة اجتماعية حصلت إذ ما زال الناس يعيشون في قلب العالم وهم في دبيب تفكير بطئ جدا بسبب حجم تخلف مريع ، وأمية طاغية ، وتقاليد بالية ، وتقديس مواريث سالبة : سياسيون يجترون ، وأحرار قليلون ، ومتعلمون لا يقرأون .. مثقفون مضطهدون والناس جوعى وقد استلبت إرادتهم .. الوعي مكبوت والتفكير في إجازة دائمة والعمل معظمه : بطالة مقنعّة ! العلماء يقتلون أو يسجنون أو يهجّرون أو يلوذون بالصمت الرهيب أمام أجهزة كاتمة للأصوات ! تكافؤ الفرص منعدم نهائيا ، هل يعقل أيها الناس ان يغدو الإعلام العربي مجرد حكايا ومواعظ ، أو بقايا هذيان وسلاسل أكاذيب ؟؟ إنها حالة مرعبة مفجعة حتما !
ما زالت البقايا والرواسب تتحرك في الأعماق ، وما زال الظاهر غير دليل الباطن. ولم تزل السكونيات والتواكليات والسذاجات والمستهلكات والمزدوجات واستعراض الذات والعضلات والنرجسيات والمدائحيات والمداهنات والوساطات وكل أمراض السلوكيات السالبة تكمن في اللاوعي الجمعي وهي تميل إلى حيث البلادة والتغابي عن جميع المتغيرات والتحولات والمستحدثات التي غيرت تفكير العالم والكون والحياة .. وقد توالد جيل جديد يحمل ويا للأسف كل المواريث السقيمة التي تربى عليها وعلى قيمها القمعية البالية .. التناقضات تحكم كل التصرفات وتهيمن على التفكير والحياة من اصغر الأشياء وأدقها إلى كبرى الأمور ! لقد ساهمت منظوماتنا وأعرافنا وقوانيننا في ذلك كله ، فتأخرنا كثيرا ، وأصبحنا فريسة سهلة أمام القوى العولمية الكونية الجديدة عند بدايات قرن جديد .
من اجل القضاء على الأشكال لا المضامين !
قرارات رسمت وصحف صدرت وبيانات أذيعت وكتب نشرت ومقالات طبعت وشعارات رفعت وحناجر ذبحت وموجات جماهيرية سارت بالهتافات والتصفيقات .. لماذا ؟ لأنها كانت تصّرح دوما إنها ” ستقضي على كل أشكال ” ، ولكنها لم تقل يوما إنها ” ستقضي على كل مضامين ” ، لقد أصابت في ما قالت ، وأخطأت في ما فعلت ! ذلك لأنها برغم صدق طواياها ونواياها خطابا وأدلجة ودعايات ، إلا أنها نفسها كانت تحمل ثقلا من الترسبات وبقايا من عقم الماضويات البالية ! والأمر لا ينحصر عند الفئات العامة من الناس البسطاء الطيبين الذين لا حول لهم ولا قوة ، بل يصل إلى قادة ونخب وجماعات من متحزبين ليبراليين وماركسيين وقوميين ثوريين وحتى مثقفين ومفكرين يعيشون حتى يومنا هذا ازدواجية التفكير والتصرفات ، وثنائية المقاصد والغايات ، وعقم النوايا والأغراض والتناقضات !
الثنائية والانقسام والسكونية : ميراث خفي خطير
قبل أكثر من عشرين سنة ، كتبت قائلا : بأن سر تخلف العرب ، وسر جمودهم دولا ومجتمعات يعود الى ما هو كامن في واقعهم اليوم والى ما هو مترسّب في تفكيرهم عن العصور السكونية التي سّماها الدكتور طه حسين بـ ” العصور المظلمة ” وقد خالفته في تسميته لأن السكونية غير الظلمة .. وكان ذلك ولم يزل ـ حسب اعتقادي ـ هو سر أزمة كل من الواقع والتفكير العربيين المعاصرين ، سواء ما يخص الاحوال السياسية والاجتماعية التي عبّرت في خطابها من خلال افرازات الدولة في ما كرسته ضد المجتمع ! وقد بقيت الامراض التاريخية التي حاول عدد من المصلحين الاجلاء علاجها من دون طائل ، فترسبت هنا وهناك آثارها في اللاوعي الجمعي ، ومن غرائب الأحوال أن يستمد العرب ، على امتداد مائة سنة ، نزعاتهم الخفية من تلك المؤثرات التي تتلبس الدين تارة والسياسة تارة أخرى .. أو تتمثلها الهوية او السلوك او التعاطف حتى في ظل انتعاش العروبة المثالية والقومية المؤدلجة التي تعالى شأنها في بلدان ساخنة وقوية .
ولعل أبرز من يعّبر عن ثنائية الانقسام الخفية لدى بعض الزعماء وأغلب الساسة والقادة والمثقفين ، خطابهم الذي تختبىء خلفه مجموعة من تصريحات لا حقيقة لها تعبر عن سكونيات ماضويات كانت حكومات ثورية عربية قد أعلنت الحرب ضدها ، ووقف ضدها أيضا : مثقفون ليبراليون وراديكاليون على حد سواء باعتبارها ” أشكال ” وليست ” مضامين ” ، من دون أن يعالجها الفكر العربي المعاصر باتجاهاته النهضوية المتعددة : الاصلاحية والتجديدية والتغريبية والقومية والعلمانية والماركسية .. ليكون ذلك مرجعية لأي دولة عربية تقوم بمهمتها الحقيقية في اصدار قوانين تطور الحياة والتفكير وتقضي على التقاليد البالية اشكالا ومضامينا .
أمثلة حية من الترسبات المتجذرة :
اذا كانت ” الاشكال ” و ” الرموز ” و ” الالقاب ” و ” البنى ” .. قد ذهبت مع الذاهبين ، فان معانيها ومضامينها وترسباتها وبقاياها كامنة ومتجذرة في الاعماق .. ان كل ما فعلته القرارات والاحكام والتعليمات والكتابات والمقالات في الصحف والمجلات والشعارات وأفلام السينما والقصص والروايات .. إنها ألغت ” الأشكال ” ولكنها أعادت انتاج المضامين البالية باثواب مهترأة . تسألونني : كيف ؟ فاجيب : مواريث ماضوية سكونية بالية تسكن اعماق المجتمع ، صحيح ان الطرابيش افتقدت من مصر ، ولكن الألسن ما زالت تلوك ألفاظ البهوات والابلات والبنباشي والباشوات في السرايات .. يا فندم .. يا تيزه ! . وفي الجزائر ، مضى أكثر من مائة وخمسين سنة على تجربة الأتراك الدايات فيها ، ولما تزل البلاد تعيش مضمون الاوجاقات العسكرية الصارمة . وفي تونس ، اينما ذهبت تلاحقك صور قدماء البايات وعمراتهم وسياساتهم بعد ان تبددت نكهة الموريسكيين الأندلسيين .. وفي العراق ، مزيج من تعابير وسلوكيات وعادات ومقامات وحكايات ومجالس قوناغات وسراي حكومة وتسلط باشوات صارمين مرعبين! وفي لبنان ، مطابع وحداثة وتغريب وتأورب وعلمنة وثقافة وانفتاحات ومهاجر منذ عهد بعيد .. مع وجود جّبات خضراء وعمامات سوداء ولفّات بيضاء وطرابيش حمراء تنتصب فوق رؤوس مطربين وراقصات .. وفي السودان ، استحلى القوم الاردية البيضاء والعمامات الكبيرة بعد زمن النضالات وأكل هوى السياسات بدل كسرات الخبز والتقلبات من العزلة في الجنوب نحو الهجرة الى الشمال . وفي سوريا ، اندفعت زعامات العساكر تتمرد كالانكشارية هنا وعصيان العصابات هناك في سلسلة انقلابات .. ولم تنفع معها أحلام العصافير التي بشر بها الرومانسيون . وفي اليمن ، فصائل وقبائل قديمة يصعب ضبطها واصطراعات محلية وعادات حمل السلاح واختطاف أجانب واخذ ثارات .. وفي السعودية والخليج اتساع هائل لحجم التناقضات !
هل ستتغير المضامين القديمة في القرن الواحد والعشرين ؟
إن ذاكرتنا العربية لم تتخلص حتى اليوم من جملة الأدران الماضوية ، حبذا لو بقي ما هو جميل وأصيل ومستأنس ومتوافق مع حياتنا المعاصرة في تفكيرنا وسلوكنا ، ولكن لابد أن يطالب العرب بتجديد القوانين في بلدانهم ، فهي لم تتجدد منذ زمن السنهوري رحمه الله ، وان تكون لهم دساتير مدنية حديثة محترمة ، وان يتخلصوا من بقايا التاريخ السيئة الموروثة بزرع التعدديات بديلا عن الأحاديات والثنائيات ، وتوفير الشفافيات بديلا عن الشموليات ، وتحقيق منظومة الحريات بديلا عن التناقضات ، وإعادة التفكير في نظام العمل والإنتاج والسلوكيات وتجديد المعاملات وبناء المستقبليات في حرمة البيوتات وجنبات المقاهي وردهات المدارس وأروقة الجامعات وقاعات البرلمانات والمحاكم والدوائر والوزارات وحتى في فناء الثكنات ! وماذا أيضا ؟ مازال التعليم والعلم عند العرب يعشش تحت طربوش أو عمامة ، ولا يرجى منه فائدة بأساليبه التقليدية الرديئة ، فالجامعات مجرد كتاتيب وكافتيريات ، وليس للاساتذة الا التكرار في العبارات المليئة بالأخطاء والعاميات .. كل شيء مشوه في المدارس والأساسيات والثانويات والجامعات .. استنساخ ونسوخات ومسلوخات من فقرات وعبارات ، وأدعياء الفكر والعلم يتنطعون بالمنهجيات ، لكنهم يمسخون الأجيال بالإنشائيات والمقتبسات دون الحد الأدنى من استقلال التاريخ والذات وبناء الإرادة القوية .. لم يستفد العرب من الرواد النهضويين الأوائل بعد أن رموا تقاليدهم البالية وجددوا ذاكرتهم وحدثوا تفكيرهم والسياسة والسلطة فقط تشغلان الناس . وعليه ، لابد أن تدرك النخب والقيادات بأن مجتمعاتنا بحاجة إلى إنسان حيوي لم ينتج نفسه إلا من أعماق الأصالة والمعرفة كي يغيّر واقعه وتفكيره ويجدد طرقه وأساليبه ، فيصبح إنسانا حرا وفاعلا ومنتجا له إرادته القوية وثقافته النوعية وعقلانيته وموازناته . فمتى يحرقوا أوهامهم وينقطعوا عن مخيالهم وبعض عاداتهم ويفكروا بمستقبلهم ، وينتهوا من عقم شعاراتهم .. بعد أكثر من قرن كامل لم يأكلوا فيه الا الهوا ؟؟ وهم يواجهون اعتى الهجمات التي ألحقت وستلحق الضرر بمصيرنا جميعا . فهل بعد كل التجارب التاريخية المريرة من دروس وعبر !؟؟
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 20 سبتمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …