في العصور القديمة ، نشأت أولى المدن على ضفاف نهري دجلة والفرات بمياههما الوفيرة ، وعرفت بلاد ما بين النهرين بنشوء الزراعة والري واستمرار الحضارات الأولى منذ فجر التاريخ .. ولما دّمر العراق بنيويا مؤخرا ، فان مشروع ” إبادة ” منظمة ستلحق به وبأهله إن استمر الجفاف ونضوب المياه وتيبّس الاهوار وموت النخيل . إن العراق نفسه اليوم يواجه تحديات هائلة ستؤثر على مستقبله ، وسيفتقد العالم فردوسه الذي طالما عدته البشرية مصدرا لكل حضاراتها ، ومركزا لكل اتصالاتها . إن بلاد وادي الرافدين ، يلحق بها الأذى عن تعمد وسبق إصرار من قبل جيرانها الذين يجحفون حقها في المياه كواحدة من الدول المتشاطئة ! إن سياسات تركية وإيرانية فاضحة تحجز مياه الأنهر ، أو تبني سدودا عليها ، وتخّزن الخزانات .. وتحّول مجاري الروافد والأنهر الصغيرة ، قصد إلحاق الأذى بالعراق .. والعراق منشغل بانقسامات مكوناته وتحزبات القادة والمسؤولين فيه ، وتشظيات أقوامه وأديانه وطوائفه ..
إن السياسة العراقية تراوح في مكانها ، وليس للقيادة العراقية مواقف صارمة تجاه ما يحدث ضد العراق وحقوقه المائية . إن ما حصل من تقدم لإحياء الاهوار العراقية بعد أن جفّفها النظام السابق كان رائعا قبل ست سنوات ، ولكنها اليوم تعاني من التصحر والأملاح وتحويل المياه الشحيحة إلى أماكن أخرى للحفاظ على الزراعة ، ولقد اطلعت على تقرير معهد بحوث تسوكوبا الياباني ، وما جاء على لسان آكيو كيتو .. ذلك أن حصيلة توقعات الأرصاد تضمنت معلومات مرعبة عن اختفاء ما يسمي بالهلال الخصيب من على وجه الخارطة هذا القرن إن استمر تراجع شحّة المياه في الأنهر العراقية !
لا يمكن أبدا البقاء أسرى ما يريده السياسيون ونحن نرى صورة الهلال الخصيب تذوى وتضمحل حتى ستختفي يوما من أيام القرن الواحد والعشرين .. وهل يمكننا أن نرضى بإسدال الستار على تاريخ حضاري عمره ألوف السنين وقف خلف صناعته كل من نهري دجلة والفرات ؟ لقد أصبح العراق جافا ويابسا نتيجة لقلة مياه دجلة والفرات وهما النهران العظيمان اللذان يقترنان باسم العراق وحضاراته ، فضلا عن دورهما في نشاط الإنسان وثقافاته منذ القدم . إن احتجاب المياه عن كل من هذين النهرين العظيمين مؤخرا قد أضر بالحياة الزراعية في عموم العراق وبحياة الاهوار في جنوب العراق مما قد يؤدي إلى اختفاء الحياة من العراق بتصحره وموت أشجاره ونخيله مع نمو ظاهرة الجفاف في كل أرجاء العراق .. وستنهار كل مدنه المعتمدة على النهرين اعتمادا أساسيا مذ قامت ونشأت قبل آلاف السنين . ان ثمة مشروعات تركية خطيرة على دجلة الخير ، وان السدود التركية الكبرى المقامة على الفرات ، إضافة إلى سدود سوريا قد خفضّت تدفق نهر الفرات إلى الأراضي العراقية لأقل من 250 مترا مكعبا في الثانية ، وهذا هو اقل من ربع ما هو مقرر من مياه للحفاظ على الزراعة العراقية . لقد تزايدت حدة التوتر منذ شهر أيار / مايو الماضي ، عندما رفض البرلمان العراقي الموافقة الجديدة على اتفاقية التجارة مع تركيا ما لم تتضمن شروطا ملزمة على تدفقات الأنهار. ولكن ، يبدو أن تركيا ليست في حالة تسمح بقبول حلول وسط. في شهر تموز / يوليو 2009 ، أعلن ختاميا عن ضوء أخضر لبناء سد آخر على شاطئ نهر دجلة.
من جهة أخرى ، ووفقا لما جاء في برنامج الأمم المتحدة للبيئة والشؤون الهيدرولوجية ، فان البؤس في العراق قد تضاعف بسبب السياسات التي تتبعها إيران أيضا ، وبشكل مضاعف ، إنها ساعية بشكل كبير ضمن خطط جديدة لبناء سدود على روافد نهر دجلة على أراضيها . إن تركيا وإيران تتصرفان بالمياه العراقية ، وكأنها مُلك لهما تماما ، وليس ثمة احتجاج حكومي عراقي ، لقد قامت إيران بتحويل نهر الوند الذي يقطع خانقين إلى داخل أراضيها ، وكذلك الكارون وغيرها من الأنهار التي تدخل الأراضي العراقية ، ورفضت أخيرا قيام شركات وزارة النقل العراقية بصيانة القنوات الملاحية في شط العرب ، وسوف يتم إغلاق مينائي المعقل وأبي فلوس التجاريين في البصرة لعدم التمكن من صيانتهما ، إذ أن غاطس مدخل شط العرب وهو الممر الملاحي المشترك بين العراق وإيران وصل أخيرا إلى مترين ونصف المتر مما يجعل عملية الملاحة مستحيلة بالرغم من تشكيل لجان فنيه مشتركة على مستوى وزارتي خارجية البلدين لحل المعضلة ، وبالرغم من تشكيل ما يقارب 100 لجنة مشتركه بين البلدين ولمدة ستة أعوام ، إلا أنها لم تنجز عملا واحداً !
“إن بعض الأنهر العراقية قد أصبحت جافة تماما .. وان ما حولها بعيد جدا عن معنى الحياة ، ويشكّل ذلك خطورة كبرى حسب ما جاء في مجلة نيو ساينتيست بعددها الأخير ! لقد كان العراق قبل خمسين سنة هو السّباق في بناء السدود والخزانات ومشروعاته المستقبلية التي وضع خططها مجلس الأعمار إبان الخمسينيات ، وكما أنجز من عدة سدود لم تزل حتى يومنا هذا ، ولكن انشغال العراقيين بأحزابهم وصراعاتهم وانقلاباتهم ومن ثم حروبهم وانقساماتهم .. جعل بلادهم ضعيفة جدا دولة ومجتمعا .. مما جعل الآخرين ينالون منهم ويمنعون عنهم اعز ما يمكن للإنسان أن يمتلكه . أن الحكومة العراقية مطالبة بإتباع سياسة جديدة كونها من الدول المتشاطئة ، وينبغي تنفيذ الاتفاقيات الدولية ، وان العراق اليوم مدعو قبل أي وقت مضى إلى الشروع ببناء سدود وخزانات كبرى لتأمين متطلبات المستقبل . علينا أن نبذل الغالي والرخيص قبل أن يختفي الهلال الخصيب لا سمح الله .
نشرت في البيان الاماراتية ، 5 اغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …