هل الديمقراطية جسر للتقسيم ؟
إن أي انقسام للعراق كالذي يطرحه البعض كونه علاج للعراق والمنطقة، هو طرح يريد أن يرضي عواطف البعض من العراقيين، ولكنه يقّدمهم على طبق من ذهب إلى الآخرين !إن دعاة الانقسام والانفصال لا يعتمدون أساسا على مصادر العراق الحقيقية، بل يعتمدون على كتابات من نسج خيالهم، ولا اعتقد بأنهم قد عاشوا في العراق حتى يدركون مجتمعه وتفاصيل مكوناته وتعقيدات نسيجه.. إنهم يجازفون في الكتابة عن مستقبل العراق في مثل هذا الظرف لا لشيء الا خدمة لمن يخطط اليوم لتقسيم العراق. يقولون بأن التقسيم حلا مثاليا للعراقيين بعد أن عانوا من الدكتاتورية وان الديمقراطية لا تنفع العراق ولا يمكن أن يمارسها العراقيون. إن التأكيد على التقسيم بشكل غير مبرر يمنحنا الثقة كي نقول أن هذه ” الدعوة ” معدّة سلفا، فضلا عن أن دعاة التقسيم لم يشهدوا فشل التجربة، بل يسعون كغيرهم إلى إنجاحها مهما كان الثمن.
فإذا عرفنا أن دعاوى التقسيم قد وصلت أوج مداها في العام 2004، فهل مشروعهم لم يزل قائما؟ وكيف يمكن لأي ديمقراطية أن تعيش في أي مكان إذا كانت الاوضاع مزرية تلك التي يعيشها العراق؟ وكيف يمكن للديمقراطية ان تبدأ في العراق وقد خرج من زمن طويل للدكتاتورية؟ وكيف تريدون هذه ” الديمقراطية ” أن تنجح اذا كان أسيادها لا يدركون فحواها، وهم يعتبرونها وسيلة لتحقيق أهداف ومصالح غير وطنية أصلا؟ وكيف تريدون للديمقراطية أن تنجح في ظل حراب الأجندة الخارجية وتحت سطوة الميليشيات الحزبية؟ وكيف تريدونها أن تنجح في العراق والعراق تمزقه الطوائف وتكثر فيه التدخلات وتتنازعه الأهواء وتمارس فيه كل الموبقات.. بل ويجتاحه الإرهابيون؟ ولم يكرهه أحد كما يكرهه الانفصاليون!
التزوير التاريخي للعراق
إن هؤلاء هم أكثر الناس الذين يزّورون تاريخ العراق ويسوقّونه للعالم وللعراقيين بالذات.. ولا يمكن معالجة كل التزويرات التي يتضمنها خطابهم لكثرتها، بل وأنهم دوما يعتمدون على مراجع سيئة أو عادية من دون أن يكلفوا أنفسهم الاعتماد على مصادر أصيلة ومعلومات مؤكدة.. إنهم يأخذون الآراء التي تخدم أغراضهم ليجعلوها حقائق مسلما بها.. لقد كان العراق خاضعاً للانتداب البريطاني الذي نصب فيصل الأول ملكاً عليه برغبة من العراقيين أنفسهم بذهاب وفود منهم الى ابيه في الحجاز كما هو معلوم. ثم تتابعت ذرية فيصل الاول على العرش من بعده حتى سقوط النظام الملكي على يد الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1958. ومهما انتقدت الدولة سياسيا طوال القرن العشرين، الا إن أحدا لم يقل بأن مجتمع العراق كان مثاليا او انه لم يتناصف بين السنة والشيعة، وهناك العرب في العراق، ولكن تشاركهم قوميات واعراق اخرى كالأكراد والتركمان.. فضلا عن أقليات عريقة جدا تعيش في العراق منذ آلاف السنين وهم : اليعاقبة السريان والاثوريين والكلدان والصابئة واليزيدية والمعدان فضلا عن الشبك والأرمن.. ان التشديد على انقسامات المجتمع وكأنه كان يعيش صراعا دمويا إنما هو تزوير فاضح لتاريخ العراق.
إن حيرة الديمقراطية ومعضلة الديمقراطية وصعوبة ترسيخها في العراق.. ليس من خلال انتفاء تطبيق ذلك في العراق بقدر ما كمن الخطأ الأكبر في تسويقها كهدف معلن للأمريكان وجلبها أو استيرادها لتطبيقها في واقع مضطرب ومتنوع ومتخلف كالعراق، ولم يكتف بذلك، بل جعلها متاحة لصعود التيارات الدينية والطائفية التي لا تؤمن بالمبادئ الديمقراطية والحريات أساسا ! أن التسليم بانعدام نفع الديمقراطية في العراق وعدم الاعتراف بالظروف التي يحيا عليها العراق وكل العراقيين هو إجحاف بحق الاثنين معا.. إن إخفاق تسويق الديمقراطية بالأسلوب الذي سارت عليه العملية السياسية في العراق لا يمكن ان يكون التقسيم بديلا له مهما كانت الأثمان.
هل الديمقراطية مستحيلة في العراق؟
كتب احد الخبراء في شؤون العراق يقول : بعد ان نجح التدخل العسكري بسرعة في قلب النظام السابق تبين أن تشكيل عراق جديد ديمقراطي شبه مستحيل لأسباب عديدة، أهمها أن العراق مكون من فسيفساء عجيبة وغريبة من الطوائف والأعراق المتناحرة. فهو منقسم على نفسه إلى سنة وشيعة على المستوى المذهبي. كما انه منقسم على نفسه إلى عرب وأكراد على المستوى العرقي أو القومي. ولهذا السبب فإن التدخل الغربي لن ينجح في مهمته: أي لن ينجح في تشكيل عراق موحد وديمقراطي. فالتناحرات المذهبية والعرقية والطائفية سوف تمنع نجاح مثل هذا المشروع. وقد أثبتت التجربة ذلك (انتهى النص). هكذا يحسم مصير العراق بتوزيع هكذا أحكام بليدة وخبيثة من دون أي إدراك بأن العراق لم يكن وحده في هذا الكون يتألف من نسيج فسيفساء عجيبة وغريبة ! ولكن من جعل مثل هذه الطوائف والأعراق العراقية متناحرة؟ هل كان البغداديون يقتلون الأكراد في شوارع بغداد؟ هل كان أهل السنة يقتلون الشيعة؟ هل كان على السنة لا يزورون العتبات المقدسة؟ هل كان هناك انفصال اجتماعي وحضاري وعائلي بين الطوائف؟ هل حرم على الأكراد أن يحرمهم المجتمع من التجارة والسياحة والدراسة؟ لماذا لم يفّرق الأغبياء بين أجهزة الدولة وسياسة نظام سياسي وبين عادات مجتمع وتقاليده؟ وهل احتكرت الدولة من قبل طائفة دون أخرى وعرق دون آخر؟ لماذا تزوّر الحقائق لخدمة تقطيع العراق؟ متى حدثت التناحرات المذهبية والعرقية والطائفية؟
من الشناعة بمكان أن اتهم طائفة معينة كونها مسؤولة ليس عن نظام أو دولة وحسب، بل اجعلها مسؤولة عن كل ما حدث في التاريخ؟ إن حرب العصابات قد تبلورت في العراق بعد النجاح السريع لقلب النظام السابق، فابتدأت تلك الحرب ضد الاميركان وضد النظام العراقي الجديد من دون أن تتخذ أية إجراءات أمنية وتأمين البلاد من المخاطر الداخلية والإقليمية.. ومن دون أن يستمع الأمريكيون لما يقدمه العراقيون المستقلون من نصائح وأفكار ومشروعات ! وهذه الحرب لا تزال مستمرة حتى الآن. وقد تؤدي إلى تدمير العراق، بل وأنها قد دمرّته سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. إنها تحصد العشرات كل يوم سواء من شرطة النظام أو من السكان المدنيين أو من تدمير البنى والهياكل والمؤسسات، ناهيكم عن عمليات العصابات وأعمال الخطف والقتل والتفجيرات والتفخيخات الذي يذهب ضحيتها الأبرياء من كل العراقيين. أن بقاء الاوضاع العراقية على ما هي عليه، بل وتطور بشاعاتها من دون أي حلول جذرية تؤكد أن أجندة محلية وإقليمية ودولية كلها وجدت لها ميادين عمل ليس لتفكيك العراق وحده، بل للذهاب بمنطقة الشرق الأوسط برمتها إلى عصر الظلمات!
لماذا يكون التقسيم حّلا وحيدا؟
يردف أرباب التقسيم إلى النتيجة التالية: ” وهي أن الحل الوحيد الممكن في العراق هو التقسيم وليس الديمقراطية. كنت قد تساءلت قائلا وأنا أجيب هؤلاء وأمثالهم في مقال لي نشر عام 2006 : ” هل كانت الديمقراطية وسيلة ساحرة للوصول الى الهدف الذي يطمح له الإقليم، أي تجزئة العراق إلى ثلاثة كيانات هزيلة أو أكثر من دون أن يعي كل من يسعى إلى التقسيم، بأن ذلك ليس هو الحل، فسواء انقسم العراق، أو ابتلعت أجزاؤه، فان العراقيين سيدخلون بتاريخ طويل من الصراعات الداخلية والإقليمية كونهم أبناء مجتمع انقسامي وفي كيان مرّكب، ولكنهم أبناء ارض مترابطة جغرافيا برباط وثيق يمثله كل من النهرين الأزليين دجلة والفرات.. وستمر أكثر من ثلاثين سنة على الأقل حتى يسترجع العراق أنفاسه أن حدث له أي تقسيم اليوم في المرحلة المنظورة لأربع سنوات قادمة (أي حتى نهاية 2009). أما أن استطاع العراقيون أن يلمّوا شعثهم خلال هذه المرحلة الصعبة جدا ويقفوا ضده وقفة رجل واحد، وهذا ما استبعد حصوله، بسبب الافتراقات السياسية التي تستند على نزوعات طائفية وعرقية، فان العراق يلزمه ما لا يقل عن ثلاثين سنة لاستعادة عافيته ” (انظر المصدر : إيلاف، 3 مايو 2006 ).
المعلومات البليدة وراء الانقسامات
عندما أقارن بين المعلومات التي كان ينشرها الغربيون وخصوصا البريطانيين والفرنسيين عن العراق في بدايات القرن العشرين مع ما ينشر اليوم من قبل الغربيين وخصوصا الأمريكيين فأنني أجد فوارق كبيرة جدا من النواحي العلمية والسياسية إذ كان القدماء أكثر تحريا ميدانيا وتشخيصا بارعا ودقة في الأرقام وقلة في إطلاق الأحكام.. اليوم وخصوصا منذ خمس سنوات وحتى الآن اجد تكريسا متعمدا لمعلومات خاطئة وحقائق لا واقع لها واجد أرقاما تفبرك وأحكاما جزافا تطلق.. وكلها يتلقفها العالم والعرب والعراقيين في مقدمتهم باعتبارها من المسلمات، وهذا ما يفني الواقع العراقي الذي يقام على أسس ومعلومات خاطئة. يقولان عن العراق:” فالبلد مقسم بشكل طبيعي وجغرافي تقريباً. فالجنوب عربي شيعي اساساً، والوسط عربي سني اساساً، والشمال كردي سني اساساً.. وبالتالي فإذا ما تعذرت الديمقراطية، ويبدو انها متعذرة في الأفق المنظور على الأقل، فلا حل الا بتقسيم العراق ! وعندئذ تنتهي المشكلة من أساسها، فآخر الدواء الكي كما تقول العرب..” . وهنا لابد ان يتساءل المرء: كيف يمكن أن يتجرأ باحثان انكليزيان لإطلاق هكذا أحكام من دون معرفة حقيقة التوزيع السكاني ومصاهرات النسيج الاجتماعي وما الذي ستنتجه عملية الانقسام من نتائج غاية في الرعب لا يمكن للبلهاء ان تتخيلها كونهم من عديمي التفكير، فلا يمكن أن تنظف مدينة الزبير من سكانها السنة، ولا يمكن أن تستأصل قبائل السعدون والمنتفج من الناصرية ولا يمكن بنفس الوقت تنظيف تلعفر في الشمال من أو أطراف كركوك والتون كوبري وطوزخورماتو من التركمان الشيعة والشبك!
أما المركز بغداد فهو حاضنة العراق وعقدته بطوله وعرضه لا يمكن أن نتخيل ما سيحل من فجائع ببغداد أن استسلمنا لهوى مثل بعض الكتّاب البريطانيين البليدين وأمثالهما من الأمريكيين والعراقيين معا ! إن هذه الأطروحة المتطرفة لا تأخذ بعين الاعتبار ان السنة العرب موجودون في البصرة والجنوب ايضاً، وان الشيعة العرب موجودون في بغداد بكثرة وكذلك في كربلاء والنجف اللتين تنتميان إلى منطقة الوسط. وحتى الشمال الكردي لا يخلو من العرب ومن العناصر غير الكردية كالتركمان والمسيحيين الخ. إن هذه ” الأطروحة ” ما كانت لتكون لولا المعلومات الخاطئة التي اعتمد عليها الإعلاميون والتي روجّها الأمريكيون متعمدّين – كما يبدو لي – بحيث خرجت من قراءة كتاب ” عامي في العراق ” لبول بريمر وأنا مشمئز النفس من المعلومات التي اعتمد عليها في إدارته للعراق.. وقارنت بينه وبين السير برسي كوكس بعيد الحرب العالمية الأولى، والذي كم كانت له ولكل طاقمه من معلومات صحيحة ومعرفة باللغة العربية واندماجا بالمجتمع ونسيجه من اجل صنع القرار في العراق وبناء أي أطروحة في تكوينه السياسي والمستقبلي .
نشرت في الصباح ، 16 تموز / يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …