أظهرت الانتخابات الإيرانية قبل أيام أن إيران منقسمة على نفسها أشد الانقسام ، بحيث قيل أن مشاعل العنف كانت بديلا عن التصويت ، ولن يسمح للإصلاحيين بالتعبير عن إرادتهم ، وقد وصلت البلاد إلى حد الاحتقان المبشر بالانهيار .. وان الإصلاحيين يصّرون على أن السلطة خطفها المحافظون منهم من خلال التزوير الذي مورس في كل مكان من إيران ! لقد أعيد انتخاب محمود احمدي نجاد عقب انهيار واسع النطاق عبرت عنه اخطر اضطرابات تشهدها طهران في عشر سنوات ! لقد أذيعت النتائج مع حلول الليل ومع قطع خدمات الهاتف الخليوي ليخرج نجاد في خطاب تلفزيوني يبّشر بالنصر .. في وقت كانت شوارع طهران تشهد المزيد من أعمال الشغب والحرائق في الليل والمصادمات العنيفة مع الشرطة .. وعلى الرغم من ضبابية الصورة ولما حدث بشكل فاضح على العالم ، فان الأنباء تكلمت عن ثورة عدة مئات من المتظاهرين الذين اظهروا شجاعة كبيرة في الاشتباكات العنيفة التي خاضوها ، كي يعلنوا عن موقفهم وقد اظهروا العديد من العلامات ، وارتدوا الألوان الخضراء ، نسوة ورجالا ، وهم يؤيدون الإصلاح وينادون بمرشحهم مير حسين موسوي الذي وقف ممثّلا لهم ، ومعبرا عن إرادتهم ضد سياسات المحافظين الذين يقودهم محمود احمدي نجاد .. لقد وصل الصراع إلى ذروته سياسيا عندما اتهم موسوي المحافظين هاتفا بـ ” أن الحكومة كذبت على الشعب ” ! إن ثورة إيران اليوم لم تعد صامتة ، فلقد أشعل المحتجون النار في إطارات السيارات خارج وزارة الداخلية ، وصدتهم شرطة مكافحة الشغب بالهراوات وحطموا أعداد من السيارات ، وتولي الشرطة أمر مطاردة الثائرين سيرا على الأقدام ، وظهر فجأة البعض الآخر من المدنيين ، متصلين ببعضهم بغمغمة متواصلة ، وهم عصابات على الدراجات النارية ، وطاردت المتظاهرين الذين كانوا يجوبون الشوارع ، وهم يرفعون قبضاتهم في الهواء. لقد انهال رجال الشرطة بالضرب السريع على المحتجين بالهراوات والركل بأحذيتهم .. وقام المتظاهرون بضرب الحجارة ..
إن وصول الحالة إلى حدوث ” اشتباكات عنيفة” اثر تراشقات وملاحقات .. واستمرار حرائق من قبل المتظاهرين .. مع انتقال هتافات علنية لشباب وشابات وصلت أوج انتقاداتهم وهم يهتفون “الموت للدكتاتور ، و” الموت لأحمدي نجاد” وأضافوا قائلين : “نريد العودة لتصويتنا” و ” لا نريد الحسم السريع ” .. الخ كلها تشير إلى أن المجتمع السياسي الإيراني اليوم منقسم على نفسه انقساما خطيرا ، وعندما نرى النتائج التي أظهرت أن 6. 62 في المئة من الأصوات قد منحت لاحمدي نجاد ، وان 33.75 في المئة منها قد أعطيت لمير موسوي — وهو رئيس وزراء سابق ، وغدا اليوم بطلا لحركة الشباب نحو الإصلاحات بدافع البحث عن مزيد من الحريات وألطف وجها لإيران في الخارج. إن كل ذلك يمنحنا نتائج غاية في الأهمية ، خصوصا ، وان الانتخابات جرت والسلطة بأيدي المحافظين الذين اقفلوا الأبواب أمام أي فرصة للإصلاح والتغيير ، وخصوصا ، الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ، الذي يفترض فيه أن يكون أبا روحيا لكل إيران والإيرانيين ، وان يستخدم إرادته كي لا يمارس أي تعاطف مع أي طرف من الأطراف ، فهو الوحيد الذي يمتلك سلطات لا حدود لها ، وصلاحيات لا نهايات لها ، للتدخل في النزاعات ، فكيف يمكنه أن يظهر في رسالة على شاشة تلفزيون الدولة ، كي يحث الأمة على التوحد وراء محمود احمدي نجاد ، واصفا النتيجة “تقييم الهي” !! ؟
إنني اعتقد بأن إيران ستمشي بعد هذه ” اللحظة التاريخية المريرة ” في طريق آخر ، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتوحد الأمة الإيرانية وراء مرشّح يدعمه سيد البلاد الروحي كونه تقييم الهي ! ولقد رفض موسوي النتيجة وقال أنها مزورة ، ودعا أنصاره إلى مقاومة حكومة “الأكاذيب والديكتاتورية” ! وقال : “أنا احذّر من الاستسلام لهذا التلاعب” ، وقال بيان نشر على موقعه على الانترنت : “نتيجة ما شهدناه من أداء المسؤولين ، فهو خطير جدا يهز دعائم جمهورية إيران الإسلامية المقدسة “. واستطرد قائلا : “لن تحترم الناس أولئك الذين قاموا بالاستيلاء على السلطة عن طريق الغش ” و ” لن نستسلم لهذا التلاعب الخطير”. وقام موسوي بمناشدة الإمام خامنئي مباشرة للتدخل ووقف ما قال انه يمثل انتهاكا للقانون .. ، فهل سيجني موسوي غير خيبة الأمل ، هذا إن استطاع أن يحافظ على حياته ، وكلنا يعلم بأن الإمام خامنئي رجل دين لم ينتخب ، ولكنه سيد إيران الحقيقي ، ويحمل السلطة السياسية في إيران بيديه ، ويسيطر على جميع القرارات الرئيسية المتعلقة بالسياسات.
إن إيران اليوم على مفترق طرق صعب ، وهي بحاجة إلى وحدة بين الفرقاء ، وكان خطاب المنتصر احمدي نجاد مثيرا ، وكأنه انتصر في معركة حربية ضد أعداء حقيقيين ، كي يصف خصومه الإصلاحيين بشتى التهم .. إن المرحلة القادمة مليئة بالمفاجئات ، وذكرت الأخبار أن السلطات الإيرانية اعتقلت زهرا إشراقي حفيدة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، وزوجها الدكتور رضا خاتمي شقيق الرئيس السابق ، فكليهما من الرواد الإصلاحيين .. إنني اعتقد انه مهما كانت الانتخابات الإيرانية نزيهة ، فهي مفتقدة مشروعيتها كون البلاد بيد ولي فقيه ، وبحكمه الذي يدعي انه مستمد من الآلهة .. فلا وجود لسلطات دستورية ، وحتى إن وجدت ، فلا فصل في ما بينها . هنا تكمن تناقضات المشكلة الأساسية عند الإيرانيين والحقيقية للانقسام بين محافظين وإصلاحيين .. مع وجود ملايين الصامتين !
نشرت في البيان الإماراتية ، 17 يونيو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …