مقدمة من اجل بناء العراق
على مدى سنوات طوال ، كنت اطالب كل القوى السياسية العراقية التي يغالبها الفشل دوما .. ان لا يضّيع كل المسؤولين العراقيين اوقاتهم الثمينة في جدالات وسفسطات لا معنى لها ، وهم يتوارثون اساليب متخلفة ، بل ويمارسون أدوارا بليدة ، ويرتكبون اخطاء لا تغتفر ، وهم يعلمون علم اليقين ان العراق يمرّ بمتغيرات صعبة جدا سيرصدها التاريخ ويحاكمنا جميعا عليها .. وان العراق بحاجة الى بدائل تحل محل التناقضات خصوصا ما يتعلق الامر باكثر القضايا سخونة تقف على رأسها مشاكل اساسية لا تعد ولا تحصى ، وكلها تفاقمت ، بكل آثارها وتداعياتها اثر تداعيات غياب أي مشروع وطني ، ويصبح كل من يطالب به ، هو بعثي ومجرم وارهابي .. والخ من اتهامات سخيفة .
وبقدر ما نادينا بغلاسنوست عراقي ( أي : مشروع اعادة اصلاح عراقي ) من اجل تطوير الحياة السياسية العراقية ، وذلك بطرح مشروعات بديلة تلبي ضرورات الشعب العراقي لما هو سائد اليوم من اجندات ومخططات عبرّ الشعب العراقي عن رفضه لها .. فثمّة خطاب جديد يتداول امره على الساحة العراقية ، ينادي بالتغيير لما فيه تحقيق ارادة عراقية للعراقيين دون البقاء ضمن ما يريده هذا الطرف ، او يتطّلع اليه ذاك التكتّل !
انني اسمع بعض الذين ارتضوا الواقع ، انهم لا يريدون اية افكار جديدة تطرح سواء على الشعب او في نقد القوى السياسية التي بيدها مقاليد السلطة في العراق ، بهدف تغيير الواقع ، اذ دوما ما يتهموا كل صاحب افكار اصلاحية ، او تغييرية كونها لا تصح ، لأنها مثالية ـ كما يقولون ـ ، ويستطردون قائلين بأن لا يمكن ان يقبلها الواقع .. ولكن أي واقع مهترئ يمكن اصلاحه بنفس ادواته واساليبه ، اذ لابد ان يكون هناك خطاب مختلف سواء كان فيه حقائق ، او تطلعات ، او مثاليات ، او حتى شعارات وطنية .. تعمل على تغيير المفاهيم من اجل اختيار الناس للافضل ، والاكثر كفاءة ، والانظف نزاهة .. والأعلى شجاعة .. وإلا نكون قد لبسنا أقنعة ماكرة كي نتقبّل الامور كما يريدها حزب معين ، او أقلية معينة ، او طائفة بالذات وقد طمسنا الواقع الحقيقي باسم بنود دستورية ، او احزاب متسلطة ، او ديمقراطية عمياء !
المعزوفات الانقسامية .. متى يتركها العراقيون ؟؟
ان من تحققت مصالحه الانقسامية من العراقيين على حساب العراق ، قد أساء جدا للاخرين بفرض اجندته كاملة من دون أي وجه حق .. ان استغلال الوان الطيف الاجتماعي سياسيا بفرض واقع انقسامي جديد لا يمتّ بصلة الى الحقيقة ، كان على امتداد السنوات السابقة مبعثا للصراعات والتهتكات وحمامات الدم .. فان كانت التجارب القاسية قد علمّت العراقيين شيئا ، فينبغي ان تعلمهم بأن كل الاساليب التي مورست كانت خاطئة جدا بحث العراقيين .. وان الضرورة تطالبنا اليوم بالتغيير . اننا مقدمون على انتخابات تشريعية عامة ، والتحديات هي نفسها قوية جدا في مواجهتنا ، وكالعادة سوف لن يكون باستطاعة العراقيين ايضا الخروج بأي ( مبادرات ) كالتي الفنا سماعها دوما بعيدا عن أي حلول عملية يتطلبها واقعنا اليوم ، وخصوصا من قبل القوى السياسية التي بيدها مقاليد العراق حتى وان كانت تعمل ضمن اشارات المرور الامريكية !
اننا نعلم ، ان حجوم الانقسامات في ما بين الكتل السياسية كبير جدا ، واننا ندرك حجوم اختلافاتكم واحدكم عن الاخر ، وان اقصى ما يمكن عمله اليوم يقضي بتفعيل مبادرة حقيقية من اجل تغيير اوضاع العراق ، وعدم الركون لما يقوله ممثّلو هذا الطرف ، ومستشارو ذاك .. انني اخاطب كل اولئك الذين سيقبلون على الترشيح في الانتخابات العراقية القادمة ان يضعوا مصالح العراق فوق مصالحهم الذاتية والحزبية والطائفية والعرقية والاقليمية ! كما واتمنى عدم ترويج اية شعارات اثبت الواقع فشلها ، ولم يكن لها أي معنى لها كي يتم بها اسكات افواه الناس الذين ينتظرون شيئا حقيقيا منكم اليوم ، واعتقد ان مجرد الحديث عن مقترحات واهنة وتقريرية وانشائية لا نفع فيها ستضر حياتنا العراقية الصعبة وتزيد من تعقيداتها من دون تقديم حلول براغماتية حقيقية لتحديث الحياة العراقية بديلا لما يشاع من شعارات اصلاحية سواء كانت امريكية الصنع ام عربية الدعاية او ايرانية المحتوى ..
العراق بعيدا عن الترسبات التاريخية
ان السياسة العراقية اليوم تمشي على عكاز بين مطرقة القيادة الامريكية وسندان القوى الحاكمة التي بيدها مقاليد السلطة ولتكن سياسة متوازنة تراعي مصالح العراق العليا ، ولتكن جذرية في التغّير مقتلعة لكل الترسبات القديمة والجديدة ، ترسبات خمسين سنة من الدعارة التاريخية باسم الوطنية والنضال والثورة والقومية العربية .. وترسبات سبع سنوات من الدعارات الجديدة باسم المكونات الاساسية العرقية والطائفية والدينية ، والتقسيمات الفيدرالية ، والمحاصصات التوافقية العلنية ! اعتقد انه لم يعد باستطاعتنا كعراقيين ، ان نخدع انفسنا اكثر من خداعها لأكثر من خمسين سنة مضت ، فالعالم كله يتغير بسرعة مذهلة من حولنا .. ومن لم يكن بمقدوره ان يصلح من شؤونه الداخلية ، فلن يكن باستطاعته تحّمل حجم ما سيصيبه من جراء المواجهة .. ولابد من ادراك متبادل لحجم التحديات وطبيعة المتغيّرات ونحن ما زلنا نغني اغنياتنا القديمة ونبيع العراقيين المشاعر والعواطف ونشحن الرأي العام بالعنتريات وترديد الشعارات التي اودت بكل نفائسنا .
ما الذي نحن بحاجة اليه ؟
وعليه اعيد واكرر مسألتين اساسيتين ، هما :
اولا: الشأن الداخلي لمؤسسات العراق الدستورية ، وكيفية ترتيبه بما يتوافق ومتطلبات اساسية ربما لم يقتنع بها او حتى يفهها العراقيون وليس بالضرورة ان تكون متوازية ومشروع فاشل كالذي استخدمته الولايات المتحدة باسم ( المكونات الرئيسية ) على حساب ( المشروعية الوطنية ) . ان على العراقيين معالجة بيوتاتهم المخربة دواخلها ، من اجل ان يبحثوا عن صيغة تراضي للخروج من مأزق الاحزاب الدينية والطائفية والشوفينية .. انهم امام مهمة عسيرة من اجل الاصلاح باسم البيت العراقي ، اذ لا وجود لمثل هذا البيت على ارض الواقع اليوم ما دامت هناك قرارات غير موحدة ، وميليشيات ومركزية ضعيفة جدا !
ثانيا : الشأن الخارجي للعراق ، بتأسيس استراتيجية سياسية عراقية اقليمية ودولية لها ثوابتها العراقية ، وكيفية ترتيب ذلك الشأن بما يتوافق والمتغيرات في العالم .. وليس شرطا بما ينسجم والارادة الامريكية التي تحتكر العالم ، بل يمكن التعامل خارجيا مع الكتل الكبرى السياسية والاقتصادية في العالم .. فليس هناك سياسات احادية عراقية في التعامل مع الاطراف المختلفة .. واعتقد ان في ذلك عناصر ايجابية يمكن استثمارها في ان يكون هناك استخدام عراقي ذكي من اجل مصالح العراق العليا .
وأخيرا وليس آخر
ان القوى السياسية وكل ممثليها الذين اثبت الواقع المرير فشلهم في أداء مهامهم التشريعية او التنفيذية .. عليهم ان يرحلوا عن السلطة وعن الادارة ، كي يبدأ العراق مع وجوه جديدة ربما تكون هي الافضل في قيادة العراق كله ، اننا ندرك كم هي حلاوة السلطة لكل من يمارسها كبيرة جدا ، ويتبختر بها صاحبها ، ويستفيد منها هو والوصوليون مع المحسوبين عليه والمنسوبين اليه .. ولكن العراق بحاجة الى دماء جديدة ، والى افكار جديدة ، والى انفاس جديدة كي يبدأ صفحة جديدة ليس باستطاعة القوى السياسية الحالية فتحها والعمل بها .. ولن ينفع ابدا اليوم من يأتي ليخرج من ثوبه الحالي الذي عرفه به الناس ، كي يلبس اثوابا جديدة .. فهو يحمل على اكتافه سيرته نفسها ، ويتحّمل كل الاخطاء التي جناها بحق العراق .. فضلا عن رأسه الذي يحمل عقلا تافها لا يوازي ضرورات العراق واهله الكرام والاذكياء معا . وليدرك كل العراقيين اهمية المرحلة القادمة ، اذ ينبغي ان يفرز الخبيث من الطيب ، وان يعرف الناس بعد التجارب القاسية والمريرة من الذي يخدم العراق عن ذاك الذي لا يعرف الا خدمة مصالحه الشخصية .. أي حزب يريد التنكيل بالعراق ، واي حزب يتطلع الى تقدم العراق .. وان يدرك كل العراقيين بأن ارادتهم لابد ان تجتمع من اجل العراق لا من اجل تقسيمه .. وانهم امام طريق طويل لتحقيق امنياتهم في ان يوحدّوا انفسهم من اجل ان يكونوا علامة بارزة في الوجود .
يتبع
نشرت في الصباح ، 11 حزيران / يونيو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …