نيافة المطران الدكتور لويس ساكو : موقف وطني حقيقي
عرفت نيافة المطران الدكتور لويس ساكو منذ سنوات طوال ، ولم تزل علاقتي به بالرغم من بعد المسافات ، أراسله ويراسلني ، ويكتفي مرات بملاحظات قصيرة ولكنني افهم كل معانيها .. وهو متشبث بالعراق ووطنيته مترسخة ، وهو رجل المهمة الصعبة كونه يؤمن بالمحبة وبالوطن والسلام ، ولكنه يعيش في قلب منطقة حساسة جدا .. انه ضد الكراهية ، وضد كل الأحقاد ، وضد أي انقسام يروّج له الانقساميون من كل الأطراف في العراق .. لقد طال الأذى والعدوان اغلب المسيحيين العراقيين ، وهم اليوم في قلب الأزمة . وان معاناتهم هي جزء حقيقي من معاناة العراقيين ومآسيهم .
لقد قرأت مقالته وتصريحاته الأخيرة التي يترجم فيها مشاعره وأفكاره بالنسبة إلى سهل نينوى ، وكان لابد أن يكتب رؤيته التي تعبر عن ضميره ووجدانه .. وإنني إذ أثمن مواقفه الوطنية ، اذّكر بأنه حاصل على جائزة الدفاع عن المؤمنين للسلام والتي تمنحها منظمة الإيمان والعقل العالمية عام 2008 لجهوده الخيرة في الحوار ، وتجسيره بين جميع المكونات الدينية والقومية في مدينة كركوك. وهو احد الزعماء الروحيين البارزين في الكنيسة الكلدانية ، والذي من أهم واجباته ، التنبيه إلى المخاطر وحماية شعبه منها ، وخصوصا في المناطق المسيحية الساخنة في العراق . انه ينبّه إلى خطر الدعوة لتأسيس حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، وهي دعوة خطيرة جدا ، كونها شرارة مؤذية للسكان الذين يعتزون بعراقيتهم ، ولا يريدون الانفصال في حكم ذاتي سيكون حتما بين المطرقة والسندان . إن أفكاره مسالمة وواقعية ، وان رؤيته بأن ثمة قضايا ومستلزمات يحتاجها العراقيون جميعا ، وليس النصارى وحدهم .. وهي أهم بكثير من الفيدرالية والحكم الذاتي .. إن أهم ما يخشاه نيافة المطران لويس ساكو حدوث انقسام بين المسيحيين العراقيين حول مبدأ حكم ذاتي ، إذ يعتبر ذلك ، هو الخروج عن الوطنية .
لقد قرأت بعض المقالات التي يردّ أصحابها فيها على دعوة المطران ساكو وتصريحاته ، ولأغراض سياسية بحتة من دون أي تفكير هادئ بهواجس الرجل وخوفه من المستقبل .. انه هنا يخشى سوء العواقب التي يمكن أن يتعّرض لها كل المسيحيين . إن مطالبة البعض من الشخصيات والجماعات والأحزاب القومية والدينية المسيحية بالحصول على الحكم الذاتي في إطار إقليم كردستان هي بمثابة دق إسفين للصراع الداخلي أولا ، وللانقسام بين المسيحيين ثانيا .. وان المسيحيين العراقيون بحاجة اليوم قبل أي يوم مضى إلى الانسجام والوحدة تحت ظل وطنية عراقية .. وحدة مسيحية عراقية تعزز تماسك كل الملل المسيحية كشعب واحد . إن كل الملل المسيحية العراقية تعيش في قلوب العراقيين ، إذ يكّن كل الناس محبتهم واحترامهم للمسيحيين العراقيين وأبناء الديانات الأخرى .
المسيحيون العراقيون لا يتمردون على العراق
لا يمكن لأي مسيحي عراقي أصيل أن يتمرد على العراق ، وإلا يكون قد فقد أعز ما يملك من الانتماء في مثل هذه الظروف الحرجة ، وهذه النقطة الفاصلة من التاريخ . هل يعقل أن أجد من يتحدث بغير هذه اللغة ، إلا إن كان قد وقع تحت ضغوط وممارسات رهيبة فرضت عليه إرادتها ، وجعلته ينادي بغير ما هو منطقي يستقيم وسنن الحياة ؟ ولعل ما لاحظته على كتابات أولئك الذين أوعز لهم أن يكتبوا ، وهم يجهلون مكانة متميزة يختص بها المطران الدكتور لويس ساكو الذي يعد واحدا من زعماء الكنيسة الكلدانية في العراق ، وإذا كان يقيم في مدينة كركوك ، فان مركز كل المسيحيين الكلدان في العالم اجمع هو بغداد ، بعد أن كان في الموصل قديما ، وهو من ولادات بلدة زاخو في أقصى شمال العراق … إن المشكلة ليست في المطران ساكو ، بقدر ما أثارته تصريحاته من ردود فعل متباينة ، إذ كانت موضع استحسان كل المسيحيين في العراق ، ولم يعارضها إلا من يريد الخروج من جلده ، أو من أوعز له بالمخالفة ، أو من راح يصفق لعواطفه من دون أي تفكير بالمصير ! إن مواقف كل رجال الدين المسيحيين في العراق لا تنطلق من أي نزعات سياسية أبدا ، كونهم لم يتدخلوا في أي شأن سياسي ، كما هو شأنهم منذ أزمان طوال ، أما إن أجاب احد المطارنة حول قضية مصيرية ومستقبلية تخص كيان المسيحيين العراقيين ، أو صّرح معارضا أي دعوة لإقامة منطقة حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، فهو يعتبر ذلك وهما لا يمكن تحقيقه ، ومن يريد تحقيقه ، له مصلحة وخطط إستراتيجية لضم هذه المنطقة إلى مشروعه ، وان ذلك يعد فخّا سيقع به كل المسيحيين العراقيين ..
هنا ، ينبغي التفكير من قبل ذوي الشأن الحقيقي ، وان يسألوا أنفسهم ، وهم يدركون جيدا ، أو لابد أن يدركوا جيدا مدى علاقتهم وارتباطهم بطرفين غير متكافئين أبدا .. ارتباط بتاريخ طويل وجغرافية وطن من جانب ، وارتباط بمصالح غير منظورة ومصير مجهول من جانب آخر ! وعلى ذوي الشأن أن ينتبهوا بأن مطارنتهم في الموصل وبغداد وكركوك .. أو أي مكان من سهل نينوى ، هم الأعرف بتقدير المصير كونهم قد اضطلعوا بمعرفة تاريخ تلك الارتباطات والعلاقات منذ قديم الأزمان . إن سهل نينوى قد ارتبط منذ القدم بمدينة الموصل ارتباطا عضويا ليس من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية فقط ، بل من الناحية الروحية .. وما الهجمة الجنونية على كنائس الموصل وبغداد خلال السنوات الست الماضية إلا جزءا من مشروع غبي لا يدرك أصحابه مدى العلاقة الروحية القديمة التي ربطت كل المسيحيين العراقيين بكل من الموصل وبغداد .. أي باختصار بالعراق الواحد الموحد الذي لم يستطع احد أن ينجح في تقسيمه حتى هذه اللحظة .
المسيحيون العراقيون لا يعيشون في قفص !
لقد دفع المسيحيون العراقيون أثمانا كبيرة في الدفاع عن وجودهم القديم على هذه الأرض العريقة ، وعن تاريخ ارتباطهم بالعراق ومساهمات كل أجيالهم منذ عصور مبكرة في التاريخ من اجل العراق وبلاد وادي الرافدين ، وكان منها مؤخرا مصرع المطران فرج رحو طيب الذكر والموجة التي عانى منها المسيحيون في الموصل لإفراغ المدينة منهم .. فكان أن اتضحت حقائق لم يكن لأحد أن يتخيلها أبدا ، ولم تزل حقائق مخفية ، أو تمت التغطية عليها لنفس الأسباب ذاتها . إن من قيم المخالفة في الرأي أن لا يستخدم الطعن في الذات بسبب العجز في مواجهة الموضوع ، وهذا ما وجدته في قيام بعض الكتاب بتوجيه نقدات لاذعة وشخصية للصديق المطران الدكتور لويس ساكو كونه يرتبط بجهات حزبية وسياسية تعارض مشروع الحكم الذاتي للمسيحيين في سهل نينوى ، وانه لا يقف مع تطلعاتهم ( المشروعة ) في العراق !! هؤلاء كما يبدو لا يعرفون هذا الرجل ولا يدركون ما يفكر به ، ولا يحترمون مشاعره الوطنية .. بل ولا يجدونه زعيما دينيا لا يتدخل بالسياسة أبدا ، ولكن لا يقبل بغير حقائق الأشياء ولا يسكت على أي مشروع للهدم . إنني اعرفه منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة وقد قرأت كتاباته منذ بدايات السبعينيات واعرف مدى قوة ارتباطه بأرضه وكنيسته ، فهو رجل دين مفكر ومسالم ويحظى باحترام الجميع على ارض العراق أو في المحافل الدولية ، وانه يريد أن يحافظ على وجود أهله وبني كنيسته مع احترامه لكل الأطراف الأخرى .. انه لم يتلفظ بأي ألفاظ جارحة ، ولم يدع إلى أي مشروع مضاد للآخرين .. وانه تمتع بقدر من وضوح الرؤيا وسط ما يجري في تعتيم شديد ، وانه بالتأكيد يدرك أن كل المسيحيين العراقيين ليسوا ملة واحدة أولا ، وان تاريخهم ينبؤنا كم ازدهروا بأديرتهم ، وبيعهم ، وكنائسهم في كل أرجاء العراق دون أن يكونوا منحصرين أو محشورين في مدينة واحدة أو منطقة واحدة .. ويكفي أن نعرف تاريخهم العريق في بغداد وما قدموه لها منذ أكثر من ألف سنة .. ويكفي أن ندرك ما قدمه كل المسيحيين العراقيين من خدمات ومهن وعلوم ومعارف في كل مجالات الحياة العراقية .. أبعد هذا وذاك ، يريد البعض سلخهم عن العراق وتوطينهم في مكان له أبعاد محددة اسمه منطقة سهل نينوى ، وصفها المطران وردوني بقفص الحكم الذاتي ؟؟
العراق لكل الاطياف
لقد دفع المسيحيون العراقيون ، كما اكرر وأعيد ، ثمنا باهضا جدا بعد العام 2003 ، ونالهم التهجير والقتل والتدمير بشكل لا يتصوره عقل ، ولا يتخيله أحد .. وكانوا أسوة بالآخرين من أبناء العراق دون استثناء .. وكأنهم قد وقعوا هم أيضا تحت طائلة تنفيذ مخطط بشع تابعنا كم كان خطيرا ، وكما دفع الشعب العراقي سيولا من دمائه ، فان التاريخ سيبقى يقول أن المسلمين والمسيحيين في العراق كله قد سال دمهم مشتركا من اجل العراق .. وقد كانوا معا على امتداد السنين الماضية قد شارك احدهم الآخر ألآمه وآماله في الخروج من أنفاق صعبة صنعتها سياسات أحادية غبية ، وباركتها توجهات عنصرية فاشية ، وساندتها أساليب قمعية دكتاتورية . من هنا ، ومن هذا المنطلق العراقي ، يتحتم على كل المطارنة ورجال الدين المسيحيين العراقيين ومعهم كل المخلصين للعراق أن يقفوا ضد أي مشروع انقسامي من شأنه أن يضّر بحياة المسيحيين العراقيين ومستقبلهم .. إذ يكفيهم ما عانوا منه .. وان يكون العراق لهم كلهم ، كما عرفوه منذ القدم ، ولا يمكنهم أن يحشروا في منطقة حكم ذاتي وقد افتقدوا إرادتهم العراقية كأحد أطياف المجتمع العراقي الكبير . وعلى كل العراقيين دولة ومجتمعا احترام كل أطياف العراق العريقة ، وان لا يسكت احد على ظلم ، أو قمع ، أو تهجير ، أو قتل .. إن الوعي بتاريخ كل طيف من أطياف العراق ، وخصوصا الطيف المسيحي ، له أهميته البالغة ، ومع سعينا لطي صفحات الماضي ، ولكن الوعي بما حدث للمسيحيين العراقيين في مناطق سهل نينوى وما اقترف بحقهم من مذابح ، يكفي كي يدرك من يصفق اليوم للتحجيم والانفصال والتشظي من خلال حكم ذاتي ! إننا لا نرضى أبدا أن يصيب أي مسيحي عراقي واحد من المسيحيين ، أي أذى سواء كانوا رموزا دينيين أم مواطنين عاديين إزاء أي موقف يتخذونه ، أو أي رأي يبدونه ، أو أي اجتهاد يعلنونه .. إن العراقيين كلهم لا يقبلون بإيذاء أي طيف عراقي ، أو ملة دينية.. وأطالب مرة أخرى بكشف كل الحقائق التي أخفيت عن أعيننا ، كما وأقدم أسمى الأمنيات للصديق نيافة المطران الدكتور لويس ساكو ، متمنيا زوال هذه الغمامة التي تجتاح العراق ، وان نسعى معا للحفاظ على وجود كل العراقيين ، وعلى أرضهم الواحدة الموحدة ، وان نشارك معا في بناء العراق ، وتطوير مجتمعه ، وإثراء موروثنا المشترك ، بعيدا عن الشوفينية المقيتة والطغيان الأعمى ، واندماجا مع انتمائنا العراقي ، والكشف عن حقائق جديدة ونشر الوعي التاريخي والحضاري والتوجس من مخاطر المستقبل .
نشرت في الصباح ، 16 ابريل / نيسان 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …