سأكتب اليوم مقالتي عمّن سرق مجتمعاتنا ، وزرع العنف في جنباتها .. عمّن قتل الفرحة من خواطرنا .. عّما ابتلي به الجيل الجديد .. انه التعصب والغلو، بعيدا عن التوسط والاعتدال واليسر .. وتعريفه اجتماعيا : الخروج على المفاهيم والأعراف والتقاليد والأخلاق والسلوكيات العامة . وأمنيا : الخروج على القانون والدستور السائد.. إن التعصب لا يقتصر على فكرة معينة ، أو مذهب بعينه ، أو سياسة أو دين .. بل هو يشمل كل مرافق الحياة السياسية والاجتماعية ، وسواء كان ذلك ضد المجتمع نفسه أم الدولة ، فهو اخطر ما يهدد منظومتنا الاجتماعية لا السياسية وحدها ، وكان ولم يزل وليد السياسات المتزمتة ، والتربويات الخاطئة ، والإعلاميات المتشدّدة ، والعواطف الساخنة التي لازمت حياتنا ، وأطبقت على تفكيرنا ، وألغت كل قواعد المنطق والعقل في وجودنا . ويتلون ” التعّصب ” من مرحلة لأخرى ، بألوانها ، وقد زاد منذ ثلاثين سنة بشكل علني مفضوح ، ولم يكن صامتا في يوم من الأيام ، ولكن زاد تأثيره اليوم ، بحيث أصبح يحاكمنا ويهيمن على كل مجريات حياتنا .
إن المجتمعات العربية بطبيعتها منفتحة كالصحراء ، ومنطلقة جامحة كالخيول على الأرض ، أو الطيور في السماء .. ولكنها اليوم، أسيرة التعصّب الأعمى والذي يقوده أناس لا تفقه سنن الحياة ، ولا تمتلك من العقل شيئا أبدا ! ونسأل: كم هو الاعتدال جميل ، وكم الوسطية مطلوبة .. وكم المرونة واجبة ؟ كم يحتاج الإنسان أن يمسك العصا من الوسط من دون أية انحيازات ، أو تعنّت ، أو تّصلب في معالجة قضايانا السياسية ، ومشكلاتنا الاجتماعية ، وأساليب تفكيرنا ، وتقاليد حياتنا .. وبمنطق نسبي للأشياء لا مطلق ؟ كم طالب الدين الحنيف باليسر لا العسر في علاقاتنا ومن دون أي أوصياء ، ولا أي أصنام ؟ .. إن التعصّب أو الغلو قد مرّ في تاريخنا ، ولكن عند فئات معينة ، كان تعصبها سياسيا ، أو عقائديا ، أو قوميا ، ولكن أن ينتشر التعصّب والغلو بمثل هذا الطغيان ، ليقتل كل الحياة ، ويصنع هموم مجتمعاتنا ، ويخلق المضادات والنقائض ، فالتعصب يخلق بلا شك تعصبات ضده .. وتصبح ظاهرة متبادلة ، قبيحة فتاكة تقتل مجتمعاتنا بأمراضها السايكلوجية وأساليبها المتوحشة .
وعليه ، لابد من إيجاد حلول لها ، خصوصا ، وان احد ابرز أدوات المتعصبين ، يتمثل بالعنف سبيلا لتحقيق ما يريدونه . بل ويصل مثلا إلى إباحة القتل الجماعي والسرقة والاعتداء من اجل أهداف لا نهايات لها أبدا ، بل ولا يمكن تحقيقها مطلقا ! إن باستطاعة أي إنسان ذكي ، أن يكشف أي غلو وتعصب منذ اللحظة الأولى ، صحيح أن التعصّب موجود في أي مكان من هذه الدنيا وعبر التاريخ ، ولكن أن يصبح مستشريا في دواخل أي مجتمع ، ويغدو سمة عامة تقف حيال أي تقدم ، أو حجر عثرة إزاء أية سيرورة تاريخية .. وإذا كان هناك تعصب في إسرائيل ، فهو لها وليس عليها كما هو حال العرب !
لقد ازدادت التعصبات ومظاهر الغلو في مجتمعاتنا التي عاشت حياتها إما مشاركة ، وإما منعزلة .. إما متكلمة وإما صامتة .. إما منغلقة وإما منفتحة ، ولكنها لم تشهد تاريخيا ، أي تعصب وغلو شديدين في الأفكار والعقائد والأيديولوجيات والمذاهب والطوائف كالذي تشهده اليوم . وإذا كانت الحياة أكثر انفتاحا فكرا وسياسة في النصف الأول من القرن العشرين، فإنها غدت أكثر تعصبا وتطرفا وتحزبا وتخوينا وغلوا وتكفيرا في النصف الثاني منه .. ولعلّ اغلب الأفكار التي يتعّصب لها المتعصبون هذه الأيام هي وليدة القرن العشرين .. ففي حين كانت المجتمعات في العالم تتخلص من مركبات النقص والتشدد في النزعات العقائدية والإيديولوجية كالتي سادت وأفسدت ، وما أكثرها .. إلا أنها تقلصت كثيرا ، ولم تبق إلا بضع جماعات أصولية قليلة في العالم ، مقارنة بظواهر الغلو والتعصب والتشدّد في مجتمعاتنا ، فهي قد زادت وتنذر بمخاطر جسيمة ، وستزيد من تناقضات حياتنا ، وستخلق انقسامات وصراعات فيها .. بل وحروب مع كل العالم.
مما لا يخفي علي أي متابع لمجتمعاتنا أن التعصب والغلو، طال كل شيء مع ندرة للاجتهادات الذكية والحلول العملية ، وخصوصا في التعامل مع ثقافات وتقاليد أخرى .. ومن اخطر أنواع التعصب الذي يصل حد الخيانة ، أو التكفير لكل من خالف حتى في ابسط الأشياء ! وهناك في الفكر السياسي والثقافي ومحاولة فرض كل طرف مفهومة علي المجتمع والآخرين بحدة وعنف واتهامات التكفير التي قد تتعدي حدود الفكر إلى العنف الجسدي والسياسي .. تطرف يؤدي أحيانا إلى تكفير المجتمع والحكومات والأفراد .. نجد التطرف والتعصب واضحا في لغة ينعدم منها الحوار ، وتبدد فيها أي حقوق وقوانين . إن خطورة استشراء الظاهرة ، تتجسد باغتيالات ، وحرق محلات ، ومهاجمة أماكن عبادة ، وتدمير مؤسسات سياحية ، وحدوث تصفيات جسدية ، وقتل على الهوية .. ووصلت إلى التفجيرات والتفخيخات وقطع الرؤوس .. وكل الأساليب الوحشية المحرمة . إن مجتمعاتنا كلها بحاجة إلى وعي جديد من خلال تربويات متغايرة .. وإعلاميات مضادة لا مهادنة للتعصب ، أو مروّجة له .. إلى تنمية تفكير بترسيخ النسبي لا المطلق . لابد من تبديل السياسات والمناهج التربوية في مجتمعاتنا التي هي بحاجة ماسة إلى التغيير الشامل ، بحيث تتربّى الأجيال ، تربية جديدة، ومستقيمة ، ومسالمة ، وان يزرع وعي جديد باليسر لا العسر ، وان يكون الدين المعاملة والفضائل .. فمتى سنشهد حصول ذلك .. متى ؟
البيان الإماراتية ، 15 ابريل 2009 ، وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …