صنعوا التاريخ الأعمى .. ومضوا !!
التاريخ الأعمى نعم، إنه التاريخ الأعمى للعرب فى القرن العشرين.. طفروا فجأة من عصر السكون والرتابة لتصعقهم النهضة والتقدم، فبقوا يلفون ويدورون حول شعاراتهم «خطابة وأقوالا»، من دون فعل حقيقي.. وعندما أراد العقل أن يتحرر من سباته إثر تفتح عيونه على الاستنارة بالمعاني والأشياء، غلبت السياسة والمؤدلجات على الحكمة والعقل، فتعاظمت التناقضات، وكثرت الثنائيات، وازدادت الصراعات، يوما بعد آخر، وغدا الزمن يسجل تاريخا أعمى.. خصوصا عندما لم يكتمل الوعي بأدوات التغيير وإجراء التحولات على نار هادئة.. لقد اعتقد الجميع اعتقادا راسخا أن حياتنا ستغدو متقدمة بعد أية حركة إصلاحية، أو بعد أية ساعات انقلابية، أو بعد أية تحزبات سياسية أو دينية، أو بعد أية شعارات ثورية، أو أثر خطابات عاطفية!
لقد ظنوا أن الحياة ستغدو متقدمة ومنظمة بسرعة خارقة، بل متطورة على أشد ما يكون التطور، لذا راحت كل جماعة تلعن سابقتها، وكل نظام يبيد نظاما آخر، وكل انقلاب عسكرى يلعن دستورا قائما بذاته.. وصفق المهرجون فى الميادين، ورقص المتبتلون فى الشوارع، ونشر المفذلكون مفبركاتهم فى الصحف، وكثر المخابراتيون على الناس، وكمم العسكريون أفواه الأحرار.. وكانوا ومازالوا يظنون أن الوطنية تقاس على بدلة زعيم، أو مانشيت حزب، أو عنوان دولة ولا تقاس على أساس الكفاءة، أو القانون، أو الدستور، أو عدالة مجتمع.. وكان الكذابون والمفذلكون والمثرثرون يجعلون الناس فى كل واد يهيمون.. فكثر المتطفلون الذين مازالوا يزيدون من تناقضاتهم ويرسخون التاريخ الأعمى الذى ستضحك عليه الأجيال القادمة! إفرازات النصف الثانى من القرن العشرين إننى مؤمن بالتجديد والتقدم والتغيير إيمانا عميقا، وكنت ولم أزل أدعو إلى إحداث تغيير جذرى فى كل بنيوياتنا ومؤسساتنا، بل حتى تفكيرنا ووعينا، إننا فعلا، نخبة تعيش اليوم شقاء الوعى الواعى بنفسه، نظرا لما يدركه كل العقلاء فى هذا الوجود، إن واقعنا الذى انتهينا إليه فى القرن الواحد والعشرين، هو نتاج حقيقى لما أفرزه النصف الثانى من القرن العشرين، وخصوصا تداعيات النكبات ومآسى الحياة بكل آمالها وآلامها.. بكل انتصاراتها وانكساراتها.. بكل متلاقياتها وتناقضاتها! دعونى اليوم، أعالج بعض «الأفكار» التى ربما يتفق، أو يختلف معى الناس فيها، ولكن ينبغى أن أقولها، أو يقولها غيرى قبل رحيلنا عن هذا الزمن.
يبدو أن ما راج من مسميات وشعارات ومانشيتات، تلك التى استخدمها من عرفوا أنفسهم بـ «التقدميين» و«الثوريين» وقد اجتمع تحت مظلتهم عدد من أقطاب الفكر الليبرالى، أو الماركسى معا فى القرن العشرين، إن أخطر ما يتصف به الشعاراتيون والحكاءون والمثرثرون.. أنهم يتبنون جملة من التعابير والمسميات والمانشيتات التى لا تستقيم أبدا وعقلياتهم الصدئة.. وبذلك فهم يؤلفون خطابا واهيا، لا أساس له من الحياة، ولا أساس له من الصحة، لعل أكبر الهموم التى عانت منها مجتمعاتنا، تلك التى دفعها وعيها بما حصل فى العالم كله إلى السؤال الدائم: ما أسباب تأخرنا، وما عار تخلفنا عن ركب المدنية؟ ومن بؤس ما جرى، أن كل فريق عد تجربته هى الناجحة منكلا بالتجربة الأخرى.. ومن بئس ما حدث، التعمية على الأخطاء ورمى أسباب الواقع المر على الاستعمار والرجعية.. ومن بئس ما حدث، أن يبدأ أي مشروع سياسى، أو نهضوى، بالدعاية له أكثر بكثير مما هو عليه فى الواقع! إن حياتنا على امتداد خمسين سنة مضت قد ازدادت تناقضاتها بالشكل الذى باتت مجتمعاتنا منقسمة على نفسها، ليس لأسباب موضوعية وعملية، بل لدعاوى شعاراتية ووهمية.. ولعل أخطر ما أنتجته التجارب الاستعراضية: اللعب على تفكير الناس، وإخفاء وعيهم بالعواطف الساخنة!
تجارب بائسة للوعى المفقود
لقد كانت لنا تجارب جد بائسة فى حياتنا السياسية لأكثر من خمسين سنة مضت، إصلاحية، أم ثورية، أم قومية، أم راديكالية، وانتهاء بالأصولية.. وكان من المهم أن تتلاقح فى حياة ليبرالية تتطور يوما بعد يوم، بدلا من أن تقمع على أيدى انقلابيين عسكريين، أو حزبيين متطرفين وتصادر فيها كل الحياة، وفى أهم البلدان عراقة على امتداد منطقتنا.. هنا، علينا أن نكون منصفين لنسأل أنفسنا، قبل غيرنا، سؤالا مهما: هل كانت انقلاباتنا العسكرية فى عدد من دولنا العربية مثلا، هى حركات تحرر وطنية، أم أنها كانت موجة من المتغيرات التى تقف من ورائها خطة استراتيجية لأمريكا أو السوفييت من أجل سد الفراغ؟ وما يجرى على الانقلابات، ينسحب أيضا على حركات التمرد فى أكثر من مكان، تلك التى حدثت ليس فى منطقتنا فحسب، بل فى مناطق عديدة فى العالم: هل هى بمثابة حركات تحرر وطنية؟ فى حين أن أغلبها كان ولم يزل يسعى لتطبيق أجندة غير وطنية ومشبوهة وخطيرة؟ كيف غدت الانقلابات العسكرية ثورات اجتماعية؟ إننى أسأل: هل كانت الأوضاع فى عدد من أهم البلدان العربية، سيئة للغاية قبيل نجاح تلك الانقلابات العسكرية، حتى تقرن تلك «الانقلابات» بالثورات الكبرى فى العالم.. والعالم كله يعرف كيف كانت فرنسا وروسيا والصين وغيرها؟ عندما أصبح الحكم عسكريا فى أى بلدان الانقلابات، اعترفوا بداية الأمر، أن حركتهم انقلابية، وأن انقلابهم كان ناجحا، ولكن ما تمكنوا من الحكم، وسيطروا ليس على الدولة فحسب، بل على المجتمع، فقد أوهموا الناس بمصطلح «الثورة» الذى لا وجود له اليوم؟ وهم يدركون إدراكا حقيقيا، بأن الثورات لا تصنعها إلا الشعوب، أما قطعات الجيش، فلا يمكنها أن تصنع سياسيا إلا التمردات والخيانات والانقلابات العسكرية! إنهم يدركون أن مفهوم «الثورة» أكبر منهم بكثير فى ذلك الوقت، إذ ليس له اليوم أى قيمة تذكر حتى فى الذاكرة الجمعية، ولكنهم يصرون على أنهم ثوار؟ لماذا؟ إن أول ما يفكرون به هو اتهامهم بالخيانة لدستور البلاد وشرعية الدولة.. وهم يعلمون علم اليقين، أن الدولة الحقيقية، أو الوطنية هى دولة مدنية لا دولة عسكرية! إنهم يدركون أن مصطلح «الثورة» سينقذهم من البقاء أسرى البدلات الخاكية، كى يلبسوا بدلاتهم المدنية! لقد كان هناك فى القرن العشرين قادة وزعماء وكوادر من الثوريين الحقيقيين، ولكن تجدهم قد بقوا على نفس أوضاعهم الأولى من دون أن يتغيروا، أو يتبدلوا.. بل هناك من كانت السلطة قريبة منه، أو بين يديه ورفضها.. مقارنة بضباط الانقلابات العسكرية الذين وجدوا فجأة أنفسهم يتخطون كل الحواجز الشرعية، ويتعدون بصولجاناتهم الخطوط الحمراء ليكونوا فى أعلى سلطة بالبلاد وبيدهم تصبح مقاليد كل الأمور.. أصبحوا يشعرون بأحاديتهم.. وأخذوا بامتهان سلطاتهم، ويزدادون عتوا وطغيانا.. بل خنقوا الأحزاب والأفكار الحرة، وغلقوا المجتمع على أعلامهم وشعاراتهم وتزميراتهم.. بل وأن أعتى خطورتهم قد تمثلت بمخادعة الناس أنهم فى السلطة من دون أى انتخابات، ولا أية استفتاءات خشية الاستعمار وأعوان الاستعمار!
الاستعمار: قميص عثمان من يلبسه الآن؟
الاستعمار، هذه الظاهرة التاريخية التى ناضل ضدها الوطنيون الحقيقيون.. أصبح مصطلحا أو تعبيرا دوغمائيا لدى العسكريين، وبالرغم من خطورته، لكنه لم يكن أصل الحكاية عندهم، بل كان قميص عثمان يلبسه كل من اندفع لتحقيق مطامح فردية للاستحواذ على السلطة، أو لتنفيذ خطة خارجية، أو للوصول إلى الدكتاتورية.. كان غاندى محاربا حقيقيا للاستعمار بأساليبه السلمية لا الثورية، وكان نلسون مانديلا محاربا حقيقيا للاستعمار كونه دفع ثمنا غاليا من سنى حياته وعاف المنصب لمن يريده.. وكان هوشى منه محاربا حقيقيا فى الأدغال ضد الاستعمار حتى تحررت فيتنام.. وكان جيفارا، مناضلا ثوريا حقيقيا فى أى مكان فى هذا العالم ومات وهو لا يملك إلا قميصه! إن جملة من العلل التاريخية التى تختفى وراء ما حدث فى مجتمعاتنا التى كانت تتقدم بصورة طبيعية، وكانت أبعد ما تكون عن الحرب الباردة كونها لا تريد أن تصبح وقودا بين هذا المعسكر أو ذاك.. وكانت ثمة نسبة من الحريات، وثمة هامش من الفكر، وثمة مساحة غير مقيدة للصحافة.. كانت كل المنطقة مقبلة على تحولات واسعة بفعل الفراغ الذى تركه البريطانيون والفرنسيون إثر الحرب العالمية الثانية.. كان لابد لقوى جديدة ظهرت استراتيجياتها تتبلور بعد الحرب، وهى تطمح لسد الفراغ.. ومما يؤلم حقا أن كل شىء اليوم قد افتضح وبان، ولكن هناك من لم يزل يتعلق بشعارات الماضى، أقصد بشعارات طنانة راجت خلال النصف الثانى من القرن العشرين. ؟ العروبة الحضارية والقومية العربية إننى أسأل أيضا: إذا كانت القومية العربية، ظاهرة طارئة سياسيا على حياتنا، فلماذا استحوذت تلك الظاهرة على «العروبة» كظاهرة تاريخية وحضارية عمرها آلاف السنين؟ بل وتكلموا باسم «العروبة»، علما بأن هذه الأخيرة لا تمت بأى صلة إلى القومية العربية؟ وإذا كانت «العروبة» نفسها، بكل أصالتها، وشراكة عناصرها، وقوة منتجاتها.. لم توّحد العرب – مثلاً – منذ مئات السنين، بل حافظت على وجودهم وهويتهم ومدارسهم وأساليبهم وفولكلورياتهم.. فكيف أراد القوميون أن يوحدّوا العرب فى أطر سياسية وسلطوية ليس إلا؟ بل لا نستغرب أبداً، فشل كل التجارب الوحدوية، والمجلسية، والاندماجية للأسباب نفسها التى جعلت من أناس معينين غير مؤهلين لزعامة هذه التجارب الخطيرة التى لا يمكن لها أن تبنى فى يوم وليلة! بل والأخطر من كل هذا وذاك توظيف التاريخ شعاراتيا وإعلاميا بشكل إيجابى من دون معرفة ما شهدته منطقتنا بالذات من انقسامات وصراعات ونزاعات على امتداد القرون الأربعة الأخيرة!
قرارات غير دستورية
لعل أخطر الحالات التى عشناها أيضا صناعة الزعماء للقرارات الخطيرة بأنفسهم من دون إرادة شعب، أو احترام مجتمع، أو شرعية دولة ونظام.. قرارات عبثت بمصائرنا واقتصادياتنا.. قرارات أخّلت بكياناتنا ووجودنا.. قرارات أنهكت مجتمعاتنا وتشكيلاتنا.. قرارات حروب.. قرارات باسم الأمة.. قرارات عسكرية.. قرارات اشتراكية.. إعدامات جماعية.. صفقات تسلحية.. قرارات معاشية.. ميليشيات شعبية.. مواثيق عربية.. تحالفات قوى الشعب العامل.. قرارات حزبية.. قرارات رئاسية.. قرارات وحدوية.. إلخ نسأل من باب التشريعات الدستورية: هل استندت تلك «القرارات» على أى نوع من الإرادة البرلمانية، أو الالتزامات الدستورية؟ الجواب: كلا! فأى حق منح أولئك الزعماء أنفسهم الحق للتصرف كما يشاءون؟ ومن أين استمدوا الحق فى أن يتدخل أحدهم بشأن الآخر؟ أسئلة نجيب عنها فى مقالات أخرى.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 4 ابريل 2009 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
الرئيسية / افكار / على ورق الورد.. كيف ضربت السيّاسة العقل العربي ؟ الوطنية ليست على مقاس بدلة الزعيم
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …