لقد انشغل اغلب العراقيين بالسلطة ، في حين ابتعد الآخرون هاربين ، او محبطين ، او يائسين بائسين من مشهد العراق ، وهو يمر بأقسى حالاته على امتداد خمس سنوات بعد ان عاشوا زمنا مضنيا قاسيا ومرعبا مّرت عليهم اضطهادات ، وملاحقات ، وحروب ، وعوز ، وأهوال ، وحصار .. وإذا كان المواطنون قد عانوا على امتداد أكثر من ست سنوات من افتقاد الأمن والخدمات ، فإنما تشغلهم اليوم مشكلاتهم ومستلزمات حياتهم الصعبة ، فان كل القوى السياسية بمختلف أطيافها وألوانها ، اتجاهاتها ونزوعاتها قد غرقت بما يمكن أن تحصله من نفوذ وقوة وسلطة ! إن العراقيين كلهم ، لم يعد يسألون عن استحقاقات العراق ، تلك التي كان لابد لها أن تكون ، والعراق يحاول أن يخرج كالعنقاء من صراعات دموية ، وانسحاقات كبيرة ، دفع ثمنها كثيرا من أبنائه وأهله ، ونهب المزيد من ثرواته وموجوداته .. إن الوطنيين العراقيين ، كقوى سياسية أو حكومية أو حتى معارضة .. إذ شغلتهم أمور أخرى كالسلطة والسيادة والقوة والأمن ، فليس معنى ذلك أنهم يتغاضون عن استحقاقات العراق .. فالمسألة وطنية وليست سياسية ، وهي ليست ابنة الحاضر بل إنها قضية مستقبلية أساسا .. بمعنى أنها تاريخية لها ارتباط قوي بحقوق من سيأتي من بعدنا كي يسألنا نحن أبناء هذا الحاضر : ماذا فعلتم بشأن استحقاقات العراق ؟ وماذا أكسبتم العراق من حقوقه التي ينبغي أن يستحصلها من كل العالم الذي ساهم في سحق العراق وطنا ، وبشرا ، وبنى تحتية وفوقية ، وموجودات ، ونهب ثروات منذ حرب 1991 وانتقالا الى هجمة 1998 ومرورا بحرب 2003 وانتهاء بتداعياتها المستمرة.. ؟؟ علينا أن نسأل عندما سحقت محطات كهرباء العراق .. هل كانت ملكا مسجلا باسم صدام حسين ، ام كانت باسم الشعب العراقي ؟ ولماذا لم تحطّم قصور صدام حسين ، ولكن حطمت المرافق الحيوية ؟ وقس على ذلك
ان الجهل بتواريخ العلاقات الدولية ، يجعل اغلب العراقيين يتخبطون ، ولا يعرفون من أين تمسك خيوط القضية ! ثمة مجنون أرعن سعى بالتوقيع على أي معاهدة كانت مع الامريكيين من دون قيد او شرط ، كونه مقتنع بان امريكا ستبقى الاب الرحيم للعراق ( كذا ) ، وانه سيكسب مصالح إقليمية ، أو فئوية ، أو جزئية على حساب المصالح الوطنية العليا ، وقسم يتخبط بين القبول والرفض ، فهو مشّبع بقيم ومبادئ معينة ولا يريد أن يفّرط بها ، وقسم أخير يرفض رفضا قاطعا اي اتفاقية مهما كان نوعها مع الأمريكيين كونهم محتلين للبلاد التي دمروها وسمحوا لكل من هّب ودبّ من وراء الحدود ، أن يعيث فيها فسادا .. ويعترف الأمريكيون بأنهم جاءوا من اجل المصالح المركزية الأمريكية ووسائلهم في ذلك : الخلاص من أسلحة الدمار الشامل ، والقضاء على الإرهاب ، ونشر الديمقراطية في العالم العربي .والعالم كله لا يعرف حتى الآن الأسباب الحقيقية لغزو العراق عام 2003 ..ويجهل ماذا تتضمن الإستراتيجية الأمريكية لخمسين سنة قادمة .. إنني أقول ـ بتواضع شديد ـ كمؤرخ محترف أدرك أن كل الدول المهزومة توقّع على اتفاقيات بعد أن يصار إلى هدنة ..كما أن العالم كله بات يتعامل مع الأمريكيين من خلال اتفاقيات ، ولكن تلك ” الاتفاقيات ” لا تمس لا بالسيادة ، ولا باستقلالية القرار ، ولا بالمصادر والثروات ، بل ولا علاقة لها بالمصالح العليا لكل بلد .. ولكن العراق اليوم وسط غابة تعج بالمفترسين في الشرق الأوسط ، بحاجة ماسة إلى أن يتفاهم مع الأمريكيين على مبادئ أساسية . أولها إعلان مبادئ وطنية ، تقبل بها الولايات المتحدة وتنص على وحدة العراق وسيادته واستقلاله وقوته والحفاظ على ثرواته .. كما لا يمكن لأي عراقي له قدر من الوطنية ، أن يقبل أية اتفاقات من دون قيام الولايات المتحدة باعمار ما قامت بسحقه في العراق بدءا بالعام 1991 وانتهاء حتى اليوم . على كل العالم إطفاء ديون العراقيين الذين لم يكن لهم أي مسؤولية في صنع القرارات الجائرة سابقا .. وان نشترط إيقاف ما يسمى بالتعويضات للدول الأخرى التي استنزفت ثروات العراق ، ولم تزل .. وأن تقف الولايات المتحدة مع العراق في مقاضاة دول نالت من حقوق العراقيين وأموالهم وطائراتهم وثرواتهم والعبث بكيانهم الاجتماعي بقتل أساتذتهم وعلمائهم وطياريهم .. وان نطالب الولايات المتحدة بتعويض العراق لكل ما قامت بسحقه من طائرات وأدوات حرب ودبابات ومجنزرات وسيارات .. إن العراق ينبغي أن يطالب بكل مفقوداته النفطية على امتداد زمن طويل ، وان يطالب بالتعويضات عن شعب برئ حوصر ظلما وعدوانا لسنوات طوال ، والكل يدرك بأنه لم يكن مسؤولا ، أو مشاركا في الحكم عهد ذاك.. على العراقيين أن يكونوا أكثر جرأة وشجاعة بالمطالبة بحقوقهم الوطنية .. فهل هم مستعدون لذلك ؟ هل هناك إرادة وطنية واحدة كي نطالب باستحقاقاتنا تضمن مستقبل كل من دولتنا ومجتمعنا ضمن مشروع وطني جديد .. أم أن العكس هو الحاصل اليوم ؟ كيف تريدني قبول الأمر الواقع وقد جعلوا حالتنا العراقية تختلف عن حالة اليابان وألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية ؟ إذا ضمنت الولايات المتحدة لي حقوقي الوطنية في مشروع حضاري متقدم أسوة بالأمم المغلوبة المنطلقة بعيد الحرب العالمية الثانية ، فان كل عراقي سينام مرتاحا ، وقد أمّن على ماله وعرضه ومستقبل أولاده . ولكن عندما يجد نفسه مخنوقا وضمن اتفاقات لا تؤمن مستقبل وطنه وأمنه وأعماره ، فسوف يرفض ، وسيفتح أبواب الجحيم حتى ولو بعد حين .. إنني أقدم ندائي لكل العراقيين قادة ومسؤولين ونخبا ومواطنين .. فهل من مجيب ؟ .
الصباح ، 27 فبراير / شباط 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …