Home / مشروعات / العراق : مشروع دولة متمدّنة.. التجربة التكوينية

العراق : مشروع دولة متمدّنة.. التجربة التكوينية

الملك فيصل الاول : مؤسسا لدولة ذات مشروع استراتيجي ولذلك فان وجود الحكم الملكي في العراق ابان المرحلة التأسيسية على عهد فيصل الاول 1921-1933 او ابان المرحلة الانتقالية على عهد غازي 1933-1939 ، أي بمعنى ، ان العراق المعاصر عاش في أول عقدين من حياته، بروح الفطرة الملازمة لأبنائه الذين وجدوا أنفسهم في دولة ملكية يقف على رأسها فيصل الاول وابنه ، واعتقد ان جميع العراقيين سواء اولئك الذين كانوا مع فيصل أم ضده قد شعروا بأن شيئا جديدا قد ظهر للوجود اسمه العراق الحديث بزعامة عربية هاشمية ، وهذا يكفي فقط من أجل النسج للإعلان الأولي عن اهتمامات السلالة الهاشمية الحاكمة والتي تمثلها أسرة صغيرة جدا اكتسبت ثقة العراقيين منذ الايام الاولى علما بأن كسب ثقة العراقيين صعبة جدا في بداية الامر.. ويبدو لي ان تلك ” الزعامة ” المؤهلة كانت حاجة العراق اليها ضرورة أساسية بالرغم من رؤية العراقيين لها من منظار آخر ، فهي قد وجدت فيها مزجا حقيقيا بين التاريخ والدين والمذاهب والعروبة والحداثة والقيادة والتجربة الفيصلية .. ويبقى الانكليز هم اصحاب الامر والنهي في كل المقترحات والترشيحات والحل والعقد والفصل ، وأتى العراقيون لينادوا بفيصل بن الحسين ملكا على العراق .. ولحسن الحظ ، فان الذي ساعد على ذلك كله ، حجم التواريخ التي حفرها المثقفون والعسكريون العراقيون في الذاكرة ، وهم الذين قادوا تحركات العرب ضد الاتراك ايام الحرب العالمية الاولى تحت قيادة فيصل نفسه .

الدولة في العراق كانت قبل المجتمع
من المنجزات الأساسية للعراق ، والتي غدت مثار اعتزاز نخبة واسعة من المثقفين العراقيين على صفحات الجرائد والمجلات في الفترة بين 1921-1939 ، قد تمثّلت بما سمي بـ ” استقلال العراق ” ودخوله كأول دولة في المنطقة عضوا مستقلا في عصبة الامم ، وهذا اجراء مهم جدا على المستوى الدولي . وكان هناك سبب آخر هو أن مواكبة الاحتياجات المستمرة للبلاد التي كانت في طور صعب من التردي والتخلف.. وعليه ، فقد أضيفت منجزات بشكل رائع الى وسائل التعليم ، وبتماسك كاف أخذت الملكية العراقية في هذه السنين بفكرة مشروع التعاطف مع آلام جميع الوطنيين العرب وحياتهم وبتأييد صارخ من قبل المثقفين العراقيين مدنيين كانوا ام عسكريين . وبدأ العمل بنشر هذه الفكرة في المدارس على عهد فيصل الأول (1921-1933)، الذي اتبع كرئيس أعلى للبلاد نهجه الريادي بحكم ما تملكه من كاريزما ، لم يتمتع بمثلها غيره من القرناء ، وفي العراق ، قبل أي بلد عربي آخر ، ولكن بالحاح واضح .. واقصد بنهج الريادة هنا ، العمل على تأسيس كيان مدني حديث لكل من الدولة والمجتمع ، وهذا ما لم نجده عند معاصريه من القادة العرب ، فلقد تفوق كثيرا بقدراته في هذا المجال على اخيه الامير عبد الله الاول في شرقي الاردن ، وايضا على الملك فؤاد الاول في مصر ، وايضا على الملك عبد العزيز آل السعود وغيرهم .. لقد استطاع فيصل ومن حوله العشرات من الساسة والمثقفين المدنيين والعسكريين العراقيين الاوائل من تشكيل كيان عراقي مدني تفوق على غيره من الكيانات العربية اولا سنة 1921 م ، وسبق كل من الجمهورية التركية ( التي تأسست عام 1923-1924 على يد اتاتورك ) والمملكة الايرانية ( التي تأسست عام 1925 على يد الشاه رضا بهلوي ) ) علما بما في العراق من مشاكل داخلية متنوعة ، اذ كانت هناك واجبات صعبة تفرض نفسها بإلحاح أيضاً تتمثل برعاية مختلف عوامل الثبات التي تضغط على المشاعر العامة والأهداف العامة أيضاً في داخل العراق.

فيصل : النسيج الداخلي بين اللحمة والتفكك
قال الملك فيصل الاول في مذكرته الخاصة التي كتبها قبل أن يموت عام 1933 بقليل بانه ما زال هناك الكثير الذي يستوجب عمله يقول ذلك بقلب مليء بالأسف بأن ليس هناك شعب عراقي ، ولكن هناك جمهرة كبيرة جداً من الكائنات البشرية خالية من أي أفكار وطنية، ولكنها مشربة بتقاليد سخيفة غير مرتبطة مع بعضها ، وهذه الجمهرة من الكتل المختلفة ، تصغي لصوت الشر، ميالة إلى الفوضى السياسية، وهي دوماً مستعدة للنهوض ضد أي حكومة مهما كانت. ويتابع فيصل بأننا نريد من كل هذه الجماهير أن نوجد في العراق ، شعبا ندربه، ونعلمه، ونهذبه… لقد أدرك فيصل الاول طبيعة المجتمع العراقي منذ وقت مبكر . كما عمل بمعرفة ودراية على إستمالة الجميع ، وكانت له رؤيته المتوازنة لكل الممل والطوائف والاديان والاعراق .. لقد كان يهاب شيعة العراق ، ويعتبرهم جزءا منه كونه سليل آل البيت في العراق وكان يستمع لهم الى مطالبهم ومعاناتهم على امتداد تاريخ طويل .. كما اصغى للسنة العراقيين وعرف أوضاعهم وقدراتهم . فبدأ فيصل ليس بطريقة المصادفة ـ كما يريد البعض أن يقول ـ بتحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي لكل الطوائف ، ويؤكد البعض : ان اي تفرقة طائفية لم تحدث على عهد التأسيس ، ولكنني أرى حدوث بعضها في بعض المرافق ، وهذا لابد له ان يحدث بطبيعة الحال والاحوال ، ولكن اجد ان العراق كان متوازنا ابان فرص تكوينه التاريخية الحديثة ، وليسهل تسلم كل العراقيين وقبولهم للخدمة الحكومية، عبر أشياء أخرى وضع أعضاء شباب من هذه الطائفة او تلك في برنامج تدريبي سريع ومنحهم الفرصة ليصعدوا في مراكز عالية في المسؤولية .
وأيضاً رأى الأكراد يتلقون نصيبهم الجيد من التعيينات الحكومية، وفي نفس الوقت شعر بأنه يمكن أن لا يكون هناك عمل جاد وصلب نحو حالة جيدة حقيقية بدون قوة الجيش. وبما أن الحكومة بعيدة عن الناس وضعيفة، كانت في عام 1933 في البلد أكثر من 000, 100 بندقية بينما الحكومة تقتني 000, 15 فقط، كانت هناك شكوك لدى فيصل الاول إذا كان سيستطيع التعامل مع نشوب حرب مسلحة في مناطق واسعة منفصلة، فكّر بأنه سيكون من الجنون عمل إصلاحات مهمة ومشاريع تطوير بدون التأمين بأن هناك قوة حماية كافية. ولكل هذه الأسباب أخذ بعين الاعتبار بأن الجيش هو العمود الفقري لإنشاء الأمم. وفقاً لذلك في عام 1933 ، وهو العام الذي حصل في بعض المناطق الداخلية العراقية ما يثير القلق .. وعليه ، قام فيصل برفع القوة العسكرية العراقية المؤسسة إلى 500, 11 رجل من مجموع 500, 7 الذي بقى ثابتاً منذ عام 1925.
مشروع تجديد العراق :
في جهوده لتجديد العراق في المؤسسات الوطنية، باشر الملك فيصل الأول اهتمامه كيفية تقّبل المجتمع لتلك المؤسسات اولا ، وكيفية بناء علاقات الثقة بين العراق وجيرانه من اجل وضع نهايات لكف الاذى الذي يتعّرض له العراق من كل الاطراف ثانيا ، في حين تبقى الوحدة الوطنية هي الشغل الشاغل والهم الوحيد امامه ثالثا .. ان اعتماده على اهم كفاءات البلاد واكثرها عملا وتفانيا واخلاصا للبلاد لا لنفسه وتجسيره للفجوة بينه وبين كل ابناء النخبة العراقية رابعا ، ناهيكم عن مبدأ ” خذ وطالب ” في التعمل مع الانكليز الذين ربطوا العراق بمعاهدات معهم خامسا .. كانت اهم النقاط الجوهرية في سياسة فيصل في مشروعه تجديد العراق .
ويتابع المؤرخ ان فيصلا قد أبقى عيونه متيقظة ليس فقط على ما هو يستحق ذلك ، ولكن على ما يمكن أن يحقق بالتدريب، وقام بتجنب أي خطوة تثير ذكريات المغامرة الفردية فلقد كان مؤسسا لدولته الفيصلية من قبل ان يغتالها الفرنسيون في دمشق ، كما وتجنّب تماما ان يثير اي مشاعر عراقية بالضد من سياسته ، على الرغم من تمكنه في اصدار قرارات استراتيجية . ومع كل هذا وذاك ، لم يخلص الرجل من انتقادات حادة وجهها العراقيون له علنا وبلا اي مبرر . وبالطبع في هذه تماماً مثل الاتجاهات السياسية المناسبة الأخرى كان يتوخى تجنيب العراق الدخول في أية مزالق اقليمية وفي منطقة حساسة مشوبة بالحذر ، وكان يخشى عاقبة اية انقسامات داخلية فلم يشغل باله تماما إلا بشعبه، وأنه كان قلقا على مصيره من بعده برغم تأسيسه على قاعدة القوة داخليا ، ويكفي ذلك برهانا ساطعا على من يقول بأن فيصلا في مبادئه وركائزه كان نموذجا مستعارا لدولة خلقها الانكليز !! واذا كان فيصل له بهض الاخطاء والهفوات ، الا انها لا تعد خطايا وجنايات كالتي ارتكبها غيره من زعماء العراق لاحقا ، اذ لم يبق فيصل الاول رمزا تأسيسيا للعراق ، ولم يتبع كل الزعماء الذين اتوا من بعده خطواته اسسا والبناء عليها مقارنة بما حدث في كل من ايران وتركيا والسعودية .
أن العراق بعده وتحت ولده حكم الشاب قليل الخبرة الملك غازي (1933-1939) سقطت الدولة فريسة للانقلابات العسكرية والقلاقل الداخلية من قبل القبائل، وتأثيرات القوى السياسية العربية ، ولكن على كل حال لم يكن هناك حاجة ضرورية للانحراف عن الطريق الرئيسي للسياسة الملكية التي رسمها المؤسس فيصل ، ما عدا فترة قصيرة (1936-1937) ، اذ غدا العراق قاعدة أساسية لفعاليات جميع العرب من ساسة ومثقفين ، واصبح مسرحا قوميا قويا يعطي اهتمامه للمشكلات العربية أكثر مما يعطيه للتوازنات والمعضلات الداخلية ، علما بأن الجيش العراقي نمت قوته من 800 ضابط و500 ,19 رجل مقاتل في عام 1936 الى 1426 ضابطا و345 ,26 رجل مقاتل في عام 1939، وكان هناك القليل من الطيارين العراقيين في عام 1933 اذ كان يبلغ عددهم 37 طيارا ، وكان من المتوقع أن يزدادوا إلى 127 في نهاية العام التالي.
وأكثر من ذلك فان الخط الحديدي الأمامي من بغداد إلى قصبة بيجي شمالا ، وهو جزء حيوي من الخط المعياري كان من المفترض أن يكون جزءا استراتيجيا من الخط الحديدي بغداد- برلين، ولكنه تُرك غير مكتمل في نهاية الحرب العالمية الأولى، اكمل عموديا باتجاه الشمال الغربي وصولا الى قرية تل كوجك عند الحدود السورية، وهي خطوة استراتيجية في حياة مسالك العراق البرية والتي عملت على تغير اتجاه اقتصاديات المنطقة من الموصل شمالا إلى الخليج العربي جنوبا ، وذلك يعني في الحقيقة ليس فقط الربط بين المدن العراقية ، بل يعني تقدم عملية التطوير باتجاه التغيير الاجتماعي في العراق وتأسيس التجسيرالمنظم في الاقتصاد.

وقفة أخيرة
واخيرا ، هذا غيض من فيض التأسيس ، وهذه مجرد نماذج وامثلة تاريخية لما حفل به تجديد العراق الحديث .. اعتقد بأن الخطوات التكوينية لمشروع بناء العراق الحديث لابد من استيعابها ودراستها اليوم ، فاننا احوج ما نكون اليها والعراق ـ كما يبدو ـ مشرذما وضعيفا وآيلا للانقسامات الداخلية ، وتعبث به الاجندة الخارجية مهما كان نوعها .. العراق اليوم اسوأ بكثير من بدايات القرن العشرين .. ان معاناته اليوم ناتجة ليس عن عوامل خارجية بحتة ، بل انه يكابد من امراض داخلية لا توصف ، واذا كان العراقيون يحلمون بدولة يمكن ان يكون لها وزنها بين الامم ، فانهم اليوم يحلمون بمجتمع آمن ومستقر يمكنهم ان يعيشوا فيه مثل باقي البشر .. اذا كان قد وقف في بدايات تأسيس العراق الحديث رجالات لهم وطنيتهم وكفاءتهم ونزاهتهم واخلاصهم ، فهل يمكننا ان نجد اليوم نظراء لاولئك الرجال ؟ الكل يقول : لا ابدا !

25 آب / اغسطس 2008
للبحث صلة
www.sayyaraljamil.com

Check Also

انهيار ( أمّة ) : مُسببّات النُكوصُ ومُمْكنات التَقدّم.. الحلقة الاولى

مقدمة من المشكلات التي تعاني منها الثقافة السياسية في منظومتنا العربية وعالمنا الاسلامي تكمن في …