مقدمة
في كل العالم تتطور الحياة الصحافية من الادنى نحو الاعلى .. كونها تستفيد من تجاربها وانتقالاتها وتطور آلياتها واخلاقياتها المهنية ، كونها من منتجات العصر الحديث .. في حين نجد العراق وقد تأخر في صحافته واعلامه .. وبات هذا المرفق الحيوي يعيش فوضى قاتلة اليوم ، ولا يمكن ادراك ابعاد المأساة التي تلم بالصحافة العراقية وكل من ينتمي اليها مهنيا ، وكل من يلتزم باخلاقياتها واعرافها .. دعوني اليوم اعالج هذا ” الموضوع ” ، مناشدا كل العراقيين العمل على انقاذ ما يمكن انقاذه !
الصحافة العراقية : تاريخ رائع
للعراق تاريخ رائع من تسلسل الصحافة الحديثة ، وشهدت مراكز العراق الاساسية منذ القرن التاسع عشر ولادة اولى الصحف البدائية ، ولكن من يراجع تاريخ الصحافة العراقية على مدى مائة سنة ، سيندهش حقا لما شهدته ساحة الصحافة العراقية من اكبر الصحف وارقى مقالات الرأي ، والنقد ، والمواقف في السياسة والثقافة والحياة العامة .. لقد عرف العراق نخبة ممتازة من كبار الصحافيين العراقيين الذين كانوا حقا ليس من المؤسسين فحسب ، بل كانوا متعددي التيارات ، ومتنوعي المشارب ، ومجددي الافكار .. كانوا حقا بمهنيين يراعون اصول المهنة ، ويدركون كم هو حجم مشكلات البلاد ، وكم هي بحاجة الى معالجات وحلول .. كانوا حقا بمثقفين بارعين ، لهم امكاناتهم في الثقافة العامة ، ولهم ضلوعهم في اللغة التي استخدموها .. ولهم معرفتهم الواسعة بالمجتمع العراقي .. فضلا عن الاخلاقيات التي مارسوها في ما بينهم بالرغم من حدة التنافس المهني والسياسي لا شيئ آخر ..
لقد كانت الصحافة العراقية في اطوارها الاولى معّبرة تعبيرا واقعيا عن الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية العراقية .. بل كانت تترجم رأي كل الشعب في السياسات ، والموقف من الحكومات .. وهي تدرك بالرغم من استقلالية بعضها ، او تحزّب بعضها الاخر .. انها مقروءة من قبل الناس في كل بيت ، او مقهى ، او ملتقى ، او دائرة ، او اي ركن من الاركان .. كانت صحافة العراق في عقودها الاولى قليلة في صفحاتها ، ولكن كبيرة في مضامينها .. كان يتعب فيها اصحابها ، بل وتمارس عليها رقابة من داخلها سواء من قبل اصحاب الامتياز من الناحية القانونية ، او رؤساء التحرير من الناحية الفنية والسياسية .. بل وان كل محرر صحفي لا يمكن ان يكون كذلك الا بعد ان يثبت مدى كفاءته الصحفية واللغوية ومهنيته العالية امام رؤسائه .. كانت الصحافة العراقية ملتزمة دوما بالحرفية ، وتصّنف على هذا الاساس في كل الاوساط حتى تلك التي كانت تنطق على لسان حكومة ، او احزاب .. ولقد كانت الصحافة العراقية هي الحلقة الاساسية بين المجتمع والدولة ، ضمن اي قانون للمطبوعات يشّرع ، فيلتزم به الجميع .. ان اكثر الارتباكات التي حدثت في تاريخ الصحافة العراقية كانت لاسباب سياسية ، خصوصا عندما كان بعض الصحافيين ينتقدون المسؤولين على صفحاتهم ، انتقادات لاذعة لا يمكن تخيل حجم شدتها .. كانت الصحافة العراقية واسطة حقيقية لعقد الصلات بين ادباء العراق وغيرهم من الادباء العرب .. خصوصا اذا علمنا ان اغلب الصحافيين العراقيين القدماء كانوا من كبار الادباء الذين عبروا عن افكارهم واشعارهم ورؤاهم بشجاعة وصلابة على صفحات جرائدهم ومجلاتهم طوال العهد الملكي في العراق .. ان اسماء مثل : داود صليوا ، وعبد الحسين الازري ، وعبد الله فائق ، وسليم حسون ، وبولينا حسون ، وتوفيق السمعاني ، وروفائيل بطي ، وكاظم الدجيلي ومحمد مهدي الجواهري ، وفهمي المدرس ، ومعروف الرصافي ، وقاسم حمودي ، وابراهيم الجلبي ، وعبد الباسط يونس .. وغيرهم كثير اسماء سوف لن تتكرر ابدا !
الصحافة العراقية من ايدي المثقفين الى ايدي السياسيين
لقد حدثت جملة متغيرات في الصحافة العراقية على امتداد العهود الجمهورية ، اذ غدت ميدانا لكبار السياسيين سواء كانوا مؤدلجين لاحزاب معينة او كانوا صحافيين سلطويين يتبعون الحكومة .. لقد استمرت قوة الصحافة العراقية باقوى تجلياتها على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم .. وغلب الطابع اليساري التقدمي الراديكالي على صحف العراق ، وسكت الصحافيون القدامى يوما بعد آخر .. اما في العهد العارفي ، فشهدت الصحف العراقية نفسها حالة معبّرة عن المد القومي العربي ، او ذائعة له وسط اختفاء توهج الصحافيين الليبراليين القدامى الذين وجدوا انفسهم غرباء على الساحة مع بقاء بعض التقاليد الموروثة عند صحافيين هم ابناء لصحافيين سابقين.. بل وجدنا لأول مرة الصحافة السلطوية ، وشهدنا اسماء جديدة اغلبها تعبر عن اتجاهات قومية : عارفية او ناصرية مع بقاء المهنية واحترام العلاقات النقابية والتزام حرفي بقانون المطبوعات .. مع خمول الرأي المخالف والنقد السياسي ..
الصحافة العراقية محتكرة بايدي السلطة
اما في عهد احمد حسن البكر ، فان الصحافة تغدو معبرة عن اتجاهات ثلاثة لا غير ، مذ اغلقت في العام 1969 كل الصحف السياسية والمستقلة ، فكانت هناك الصحف المعبرة عن رأي الحزب الحاكم ، وعن رأي الدولة ( الذي لا يختلف في شيئ عن رأي الحزب فالدولة اضعف من الحزب ) الى جانب ما عبر عنه كل من الشيوعيين والساسة الاكراد في منشوراتهم . ولقد اختفت الصحافة الشيوعية العراقية بعد انحلال الجبهة بين الطرفين . ومنذ بداية السبعينيات ، بدأ العراق يمّول العديد من الصحف والمجلات العربية في الخارج ، وينفق بسخاء على العشرات من الصحافيين العرب .. بحيث كان العراق يستقبل تلك المجلات بشكل خاص ، وهي تعبر بالكلمة والصورة دعائيا للعراق ونظام الحكم فيه .
ويمكننا القول ، ان الصحافة العراقية بقيت احادية حتى العام 2003 ، اذ كانت معبرة عن رأي واحد فقط ، لا غير ، ومع ثقل مركزيتها ، الا ان دور الرقيب قد تضاعف اضعافا مضاعفة مع وجود عدد من الصحافيين العراقيين المهنيين الذين عانوا الامرين من مقص الرقيب .. ولقد كان المجتمع العراقي مضطرا للتعامل مع صحيفتين او ثلاث : الاولى للحزب الحاكم ، والثانية للنظام الحاكم ، والثالثة للمتحالف القائم .. وعندما برزت صحيفة رابعة ، كانت الصحافة العراقية كلها قد تيبست مع انبثاق ” نقابة ” حديدية يقف على رأسها ابن الرئيس الذي غدا ملكا غير متوّج للصحافة العراقية التي كانت تعاني من بؤس شديد ابان التسعينيات .. ولكن في الوقت نفسه ، كان يحرم على العراقيين ادخال اي صحيفة تمّثل اي تيار مستقل او حزب معارض الى داخل العراق .. لقد بقيت الصحافة العراقية تعيش مأزق الاحادية لازمان طوال ، بحيث غدت الصحافة الزاد اليومي لمقالات محددة لأسماء معينة ، او جماهير ليس لها الا ان تبحث عن كلمات متقاطعة او دائرة ابراج !
الصحافة العراقية : من رهبة المتسلطين الى عبث الطفيليين
كان المجتمع العراقي متعطشا للصحافة من دون شك ، فمع رحيل النظام السابق ، بدأت العشرات من الصحف الصفراء تطبع يوميا ، بعيدا عن اي قانون للمطبوعات ، وبعيدا عن اية مهنية ومصداقية ، وبعيدا عن اي وازع رسمي او شبه رسمي .. وتنوعت الصحف باصداراتها واسمائها ، فمن صحف اصدرتها احزاب وتيارات ، ومنها منشورات جاءت الى بغداد لتواصل نشرها منها ، ومنها اصدارات عادية بائسة ، تسمي نفسها بصحف وهي ليست بصحف بأي حال من الاحوال ! ان اغلب الصحف العراقية التي صدرت في السنوات الاخيرة اعتمدت في تمويلاتها على عدة مصادر ، بدءا بالتمويلات الامريكية التي يعرفها الجميع وانتهاء بمصادر لا احد يعرفها .
لنكن واضحين قائلين : ان الصحافة العراقية اليوم تعيش اخطر فوضي خلاقة على مستوى التحرير او المهنية والاحتراف ، او على مستوى الالتزام الاخلاقي .. صحيح ان ثمة مقالات رأي رائعة يكتبها وينشرها عراقيون سواء كانوا مهنيين في الاصل ، ام كانوا من المثقفين ، مع وجود منشورات عراقية يومية او اسبوعية رصينة ولها حرفيتها وقوة مضامينها .. ولكن في المحصلة ، فان الصحافة العراقية تعيش حالة تدافع لمصالح نفعية غير متخيلة .. بل وثمة اناسا من طارئين وطفيليين ليست لهم اية اخلاقيات مهنة يمارسون دورا بشعا باسم السلطة غير المتوجة .. بل وان صحفا عديدة تنشر لكتّاب عراقيين معروفين من دون ان تأخذ موافقتهم للنشر على صفحاتها .. انهم لم يكتفوا بسرقة الاخبار من هنا وهناك ، بل اخذوا يستلبون المقالات من هذا الموقع او تلك الصحيفة ! ليست هناك اية روادع ولا قوانين ، ويا للاسف الشديد .. لم يكتف بعض المحررين بمثل هذه الافعال ، بل اخطر ما وجدته على موقع عراقي يصدر في الداخل ، انه ينشر مقالا داعرا .. وقد ذيله باسم احد كبار الكتاب العراقيين المقيمين في الخارج ظلما وعدوانا ! انه استخدم اسم هذا الكاتب ليضعه عن قصد مذيلا مقالة تافهة لم يكتبها ! انني اسأل واناشد الحكومة او النقابة في العراق ، ما الذي يمكن ان يفعله هذا الكاتب ، وهو يرى بنفسه انتحالا معلنا على الملأ بمقال لم يكتبه ابدا وقد نشر باسمه ! انني اسأل : هل تبيح هكذا ” ديمقراطية ” ـ كما يسمونها ـ بأن تتم التجاوزات على الاخرين باساليب ليست سياسية او مخابراتية الان ، بل تنطلق من ضحالة قيمية ومن انعدام اخلاق ! بل وان الفوضى قد سمحت لكل الطارئين والقتلة والمجرمين ان يحاربوا المهنيين والكتّاب الكبار والمثقفين الحقيقيين باوسخ الوسائل ! ان من يلقي نظرة عابرة على ما ينشر من تفاهات مع انعدام الضوابط الفكرية واللغوية والقيمية والمهنية والاخلاقية .. سيقول : كيف ستنصلح اوضاع البلاد ، اذا كانت صحافتها بهذا المستوى ؟
المهزلة .. من يصفق لها ؟ ومن يقضي عليها ؟
ان ما لمسناه في انتخابات نقابة الصحافيين ببغداد قبل ايام من فوضى ومشكلات وعراك وسباب وتشهير واتهامات تكسر العظام مع وجود ممثل عن السلطة وقاضي للمراقبة .. تعلمنا ان الصحافة العراقية تعيش اليوم اسوأ ظروفها التاريخية ! ثمة ممارسات مخجلة حدثت في تدافع الصحافيين من اجل كوبونات تناول الغذاء ، وثمة اتهامات متبادلة لا يمكن الا ان يحقّق فيها .. اليوم عرفت لماذا قتل ويقتل الصحافيون العراقيون ؟ اليوم ادركت كم هو حجم المهزلة كبير ! لا يمكننا ابدا ان نصطف مع اي طرف من الاطراف ، ولكن لا يمكن قبول هكذا وضعية تفتقد فيها ابسط معايير الاختلاف ! هل وصلت الامور الى حد التنكيل بالاخر علنا ؟ هل وصل الصراع بين نخبة من العراقيين ، والمفترض ان تكون نخبة رائدة ، الى هذا الحد من الاسفاف من اجل مصالح ذاتية ، ومنافع مادية ، وعلاقات سلطوية .. الخ
ان الصحافة العراقية مطالبة اليوم بتصويب منهجها من خلال اصدار قانون جديد يحدد الاهداف والاسس والاساليب الواجب اتباعها ، واما الالتزام بها او محاسبة امام القضاء .. ان الصحافة العراقية هي ميدان للتعبير وللرأي والخبر متاح للجميع .. ولكن لا يمكن ان تبقى تعيش هذه الفوضى الخلاقة من دون تحديد من هو المؤهل كي يحمل صفة ( صحافي ) ومن يلزم باقصائه ان لم يكن مؤهلا وملتزما ومحترفا حقا ؟ متى يعاقب كل من يتجاوز ليس على حكومة او برلمان فقط ، بل على ابناء المجتمع وصفوته ؟ لنعلم ان الحكومة العراقية والبرلمان العراقي تنقص كل اعضائهما الخبرة والمعرفة واساليب الحكم والتشريع . ولنعلم ان الضوابط لا يمكن حصرها بالصحافة المكتوبة ، بل تشتمل على الصحافة المرئية ( المنشورة على الانترنيت ) والصحافة المنظورة على القنوات الفضائية .. انني اهيب بكل العراقيين الاعتناء بهذا الجانب الحيوي الذي له تاريخ مشرف في الماضي .. ولكنه غدا اليوم في عصر الظلمات !
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …