قبل ان يكمل نصف قرن في الحكم ، قرر الزعيم الكوبي فيدل كاسترو ان يغادر الحكم طوعا ، وقد تجاوز الثمانين سنة من العمر بقرابة سنتين .. وقد عرف بخطاباته النارية وشعاراته المضادة ومواقفه القوية ، وهو شاهد رؤية لأحداث تاريخ عالمنا المعاصر ، والاهم من كل هذا وذاك ، انه يعد آخر الزعماء الثوريين الذين برزوا في الخمسينيات من القرن العشرين ، وشكلوا لهم تاريخا نضاليا وثوريا متنوع الصفحات ، امثال : ماوتسي تونغ وكيم ايل سونغ وشو آن لاي وجواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف بروز تيتو ..
ان كاسترو هو البقية الباقية من شيوعيي العصر وبمغادرته الحكم فبراير 2008 ، تنتهي صفحة مثقلة بالاحداث من التاريخ المغاير الذي شكّل في القرن العشرين جدارا صلبا ازاء السياسات الغربية التي وصفت بالامبريالية العالمية والتي تصدرتها قوة الرأسمالية . كان كاسترو جزءا حيويا في الحرب الباردة التي استمرت طويلا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي .. بل وبسببه ، كادت تتفجر حرب عالمية ثالثة ، ولعل ما يميّز كاسترو في كوبا انه الاقرب كثيرا الى خصمه اللدود الولايات المتحدة الامريكية ، وقد بقي صامدا بوجه تحدياتها زمنا طويلا ، وثمة اسرار يمتلكها هذا الرجل الذي لا اعرف هل كتب مذكراته عن تلك المرحلة الصعبة من تاريخ العالم ام لا !؟ لقد بقي حتى اليوم يحمل فكره وشعاراته ومفاهيمه ، ربما غدا اكثر ليونة من الماضي في خطابه ، ولكنه بقي صارما شديد الصرامة في واقعه على الارض .
كاسترو المولود عام 1926 زعيم ثوري ـ كما يصنف نفسه ـ ، وهو مثقف ثقافة ماركسية تخرج في جامعة هافانا بشهادة في القانون وعمل محاميا في بدايته . بدأ عمله السياسي ثائرا وليس نائبا في برلمان .. كان رافضا لكل الاحوال الكوبية ، اذ قاد الثورة ضد حكم باتيستا عام 1953 ، وفشل في البداية مع مجموعته باقتحام ثكنات مونكادا العسكرية ، وقبض عليه وسجن ولكن اعفي عنه بعد عامين . اختار النفي بالمكسيك والولايات المتحدة لاكثر من سنة ، ثم عاد عام 1956 وقد جمع حوله العشرات من المتمردين والثوار واختار اسم ( حركة 26 يوليو ) لتنظيمه الثوري ، وانضم اليه الثائر الشهير تشي جيفارا ، وناضلا معا حتى تكلل عملهما بالاطاحة بالحكم الدكتاتوري لباتيستا عام 1959 ، ثم افتراقهما .
كانت اجراءات كاسترو الثورية وخصوصا تأميمه بعض الشركات الامريكية في كوبا بعد ان وجد ذريعة واهية برفض تلك الشركات تحسين شروط تكريرها للنفط ، فقام عام 1960 بتأميمها ، وبدأ يشتري النفط من الاتحاد السوفييتي بثمن بخس .. مما ادى الى قطع العلاقات بين كوبا وامريكا منذ تلك اللحظة التاريخية . متوجها بثقله الى السوفييت . وبالرغم من شعاراته الايديولوجية الكوبية بعدم وجود شيوعية ولا ماركسية .. بل ديمقراطية نموذجية وعدالة اجتماعية ومنظومة اقتصادية .. الا ان كوبا كانت تحسب على المعسكر الشيوعي .
لعل معركة خليج الخنازير من اهم احداث المواجهة ابان الحرب الباردة ، فنتيجة لقوة كوبا بالسوفييت ، قادت الولايات المتحدة في ابريل 1961 محاولة لاسقاط كاسترو ، اذ جنّدت جيشا قوامه من المنفيين الكوبيين لغزو كوبا . وفي خليج الخنازير ، ردت الحملة على اعقابها بعد الفشل الذريع الذي واجهته والهزيمة النكراء التي لحقتها من قبل القوات الكوبية .. وقتل واسر الالاف من المهاجمين .
وحدثت ازمة الصواريخ بعد عام ، اذ رصدت الولايات المتحدة نصب صواريخ سوفييتية في كوبا باتجاه امريكا ، ففزع العالم من اندلاع حرب عالمية نووية ستأكل كل العالم ، وهدد نيكيتا خروتشوف رئيس مجلس السوفييت الاعلى باستخدام الصواريخ ضد امريكا ، ولكن اتفق الطرفان على ان يسحب كل منهما صواريخه : السوفييت من كوبا والامريكان من تركيا !
كان كاسترو هو العدو رقم واحد للولايات المتحدة ، وحاولت دوائر الاستخبارات الامريكية اغتياله عشرات المرات ولم تفلح .. لقد اعتمد كاسترو على الاتحاد السوفييتي اعتمادا اساسيا ، وبالرغم من مشاركته منظمة عدم الانحياز ، وشعاراته عن الحياد الايجابي ، الا انه كان تابعا للسوفييت ومنحازا بشكل سافر ويدعم العديد من الحركات الثورية الماركسية .. وسنرى ان الدعم السوفييتي سيرفع عنه بعد سياسة الوفاق بين القطبين في حين تشدد الولايات المتحدة حصارها الاقتصادي على كوبا لسنوات طوال حتى شلت الحركة في المجتمع ، وبدأ الكوبيون يهربون الى المجهول اذ وصلت الاوضاع الاقتصادية في كوبا الى حالة متردية عند منتصف التسعينيات .. كانت البلاد اصلا منغلقة وزادت انغلاقا ، وبدأ الناس يهربون افواجا الى الولايات المتحدة وغرق الالاف منهم .. وبقي كاسترو صامدا .. ولم يتبق له الا فنزويلا والبرازيل في محيطه الاقليمي .. وعلى الرغم من كل المأساة ، فان كوبا قد عرفت على عهد كاسترو افضل نظام صحي وافضل نظام تعليمي يقارنه المراقبون بما هو متوفر في الدول المتقدمة .. ومع انعدام الديمقراطية باشكالها التقليدية والمتعددة ، والاخذ بخناق المعارضين والرقابة والاضطهاد المنظّم لكل ” اعداء الثورة ” .. وبالرغم من الاستقرار السياسي الا ان الحياة المعيشية كانت ولم تزل تعيسة سبّبت نفورا واسع النطاق من قبل الشعب لزعيمه كاسترو الذي يرونه اليوم خارج حياة العصر ، وعليه ان يغادر التاريخ في حين لم يزل اتباعه وكل محبّيه والموالين له زعيما فذا لا يمكن ان ينجب العالم مثله ابدا ! وليس لنا نحن الا ان نقول بأن كاسترو هو آخر الزعماء الثوريين من ابناء القرن العشرين .. ودع التاريخ يقول كلمته فيه .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 5 آذار/ مارس 2008
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …