أنا نبوخذُ نُصَّر –
تُلقي الفصولُ إليَّ
أعشاباً ملوَّثةً، وأُلقي النردَ
في بئر الفصول –
لأجتلي سرّاً
يعذّبني؟
يعذبني طوال الليل. حتى صيحة
الديك الذبيح.
لأجتلي سرّاً.
وأسمعَ ضجّةَ الأكوانِ
لم اكتب عن سركون الا تعزية منتظرا اربعينيته كي اسجل هذه الصفحة التأبينية وفاء مني لذكراه ، وستبقى ذاكرتي تحمل عن سركون صورة انسان يحمل فانوسا في ليل صحراوي دجي حالك الظلمة .. رحل سركون بعد ان ضاق ذرعا بتفاهة الحياة وكان يمتلئ بحزن العراق .. وهو لا يعرف من الحياة الا العراق اولا والعالم ثانيا .. رحل ذلك الشاعر الآثوري الرائع وليس في باله ووجدانه الا العراق .. رحل هذا العراقي الجميل ولم يودع احدا ، اذ طار وابقانا ننتظر من لم ينتظرنا عند الضفاف .. رحل سركون ولم يزل يحمل بيده فانوسه المشع كلما ازددنا مضيا في عتمة الليل الدجي .. رحل الى الابد صديقنا سركون بولص بعد ان كتب اشعاره ونشر افكاره ولم يبقي لنا الا اثماره اليانعة او تلك الجافة جفاف العراق .. رحل هذا الشاعر بعد حياة مليئة بالمغامرة والصخب والحب والتمرد وعشق العراق .. رحل سركون وهو القائل : ” قال الرجل .. قال الرجل : لا ترمِ في مستنقعٍ حجرا . ولا تطرق على بابٍ فلا أحدٌ .. وراءه غيرُ هذا . الميّت الحيّ الموزع بينَ بينٍ في أناهُ، بلا أنا . يأتي الصدى: هل مات. من كانوا. هنا ” . نعم ، كان الصدى قد تردد منذ اشهر ان سركون يذوى بسرعة وتتبدل صورته بغير الصورة التي عرفناه عليها .. دهشت وانا اراه يتنّقل في المحافل غير آبه بما هو عليه وضعه ! بقي يعيش حياته بشكل طبيعي وهو يدرك ان نهايته قريبة جدا .. بقي يعشق كلمته وسيكارته وحريته .. وحتى نهايته التي قفلها بكل هدوء .. لقد رحل سركون وفي قلبه غصات لم يبح بها ابدا .
ذكرى صديق عبر المراسلات :
لم التق بالشاعر سركون بولص أبدا ، ولكن حدثت بيننا مراسلات لا حصر لها ، بدأت منذ اكثر من عشر سنوات عندما كنت اعد مادة كتابي ” انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين ” ، واعتمدت على معلومات ارسلها لي بشأن جماعة كركوك الادبية التي اوليتها اهتماما كبيرا .. ثم كنا نراسل احدنا الاخر بالمناسبات ، واهداني في نهاية العام 1996 احد دواوينه الشعرية المنشورة .. وكان يرسل لي بين وقت وآخر احدث قصائده ومقطوعاته . لقد تمتعت بديوانه المرسل وعنوانه : ” حامل الفانوس في ليل الذئاب ” ، ولم يكن هناك اجمل من اهدائه ديوانه لي اذ كتب على الغلاف : عزيزي سيّار لم ازل احمل الفانوس ولم اتعب برغم اني حامل هوى .. متى سينجلي الليل هناك ونطفئ معا كل الفوانيس !!؟؟ ثم انقطعت مراسلاتنا مذ هاجر الى اوروبا ، وعادت وفي آخر رسالة مني اليه اسأله عن صمته واسرار صمته .. وارسل اليه دهشتي وانا اجده يذبل يوما بعد يوم .
كيف وجدت سركون من يكون ؟
كان انسانا صريحا متوهج الفكر قوي الارادة حرا طليقا منذ ايام انطلاقته العراقية .. ولد عام 1944 في بلدة الحبانية الواقعة للغرب من بغداد . ثم انتقل بحكم علاقته بالعائلة نحو كركوك ، وبدأ يكتب الشعر منذ مراهقته وعند شبابه وجد نفسه على غير ميعاد ضمن حلقة ادبية وهو بمعية مثقفين فكان ان تأسست ” جماعة كركوك ” وهي تضم الادباء : فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمّو وصلاح فائق .. ولقد ذاع صيت هذه ” الجماعة ” ابان عقد الستينيات .. وكان سركون قد بدأ نشر قصائده في مجلة ” شعر ” اللبنانية التي كان يحررها الشاعر يوسف الخال ، وكان ان استقبله في بيروت بعد ان غادر سركون العراق متخفيا في الصحراء نحو بيروت التي مكث فيها زمنا رائعا وهي تشهد وقت ذاك اكبر حركة نهضوية واسعة ، ولقد عمل في الترجمة الشعرية ، ولكنه غادر المنطقة نحو امريكا التي وجد فيها ذاته منذ العام 1969 وقد اقام في سان فرنسيسكو زمنا طويلا ونسج علاقات ادبية مع العديد من الادباء الامريكيين ، ومنهم جماعة الـ ” بيتنكس ” ، ومنهم : ألن غينسبرغ، وكرواك، وغريغوري كورسو، وبوب كوفمن، ولورنس فيرلينغيتي، وغاري سنايدر وغيرهم ، وبنى صداقات معهم .أسهم برفد المكتبة العربية بترجمات مهمة وأمينة لشعراء كثر. أمضى السنوات الأخيرة متنقلاً بين أوربا وأمريكا ، وخصوصاً في ألمانيا حيث حصل على عدّة مُنَح للتفرّغ الأدبي. وقبل ما يقارب السنتين بدأ يشكو من ورم اخذ يصارعه ولكن مرض السرطان كان اقوى منه فهزل جسمه كثيرا ، وراح يعاني جدا من دون ان يبث شكواه للاخرين .. لقد بقي صامتا ورحل صامتا ببرلين فجأة ، صباح يوم الاثنين 22 اكتوبر 2007 .
التركة الادبية :
لقد ترك سركون لنا عدة مؤلفات وكتابات ودواوين وترجمات ، منها : ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» (1985) ، و «الحياة قرب الأكروبول» (1988) ، و «الأول والتالي» (1992) و «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996) ، و «إذا كنت نائماً في مركب نوح» (1998) ، و “العقرب في البُستان” ، وترجمة لكتاب إيتيل عدنان “هناك في ضياء وظلمة النفس والآخر” ، و مختارات شعرية مترجمة إلى الألمانية بعنوان «رقائم لروح الكون» ، ونشر : سيرة ذاتية بالألمانية بعنوان «شهود على الضفاف» ، وله : مختارات قصصية نُشرت بالعربية والألمانية بعنوان «غرفة مهجورة». وقد قرأت انه سيصدر له قريباً:ديوان بالانكليزية بعنوان «شاحذ السكاكين» مع مقدمة للشاعر أدونيس،عن مجلة ” بانيبال ” وأيضا : ” عظمة أخرى لكلب القبيلة” الذي يصدر قريبا لدى «دار الجمل». .
وقفة عند شعر سركون
عندما اقرأ شعر سركون بولص احس بأنه يترجم نفسه للعالم .. اجده يقدم نفسه للعالم بكل خجل من دون ان يقول من يكون هذا الانسان .. اشعر انني قريب منه جدا ولكنني لم التق به ابدا .. اشعر انه انسان بسيط لا يأبه للاشياء التي لا تخصه .. اشعر به وارقب تحولاته الكبيرة من دون ان يعتلي الاماكن العالية ليتبجح بنضالاته .. لم يكن انسانا وهميا او شاعرا متكسبا ، بل اجده واقعيا الى درجة لا توصف .. ربما كان خياله خصبا ، ولكنه يترجمه في وصف المعاني وتقديم الافكار السريعة .. انه يمنحك الفكرة باقل ما يمكن من الكلمات .. بل ويجعلك وانت تقرأ بعض اشعاره تفكر كثيرا في حشد من الصور ذات الدلالات البعيدة .. عندما قرأت له قصيدة لأول مرة منذ 35 سنة وكنت طالبا في الجامعة ، لم اهتم كثيرا بها ، ولكنني اذكر انني وجدته فيها وقد انغلق تماما على ذاته على عكس رفيقه الشاعر جان دمّو الذي كان يبيح كل شيئ يجده امامه .. بعد سنوات طوال ، اكتشف اشياء كبيرة في سركون .. ربما اصابته تحولات الرجل العادي ـ كما وصف ذلك في قصيدة بهذا العنوان ـ !
سركون من خلال شعره
لم يكن سركون يشتكي ، فهو كأي واحد في ” القطيع ” اثناء النهار ، وعند الليل يغدو نسرا وهو يعبث بفريسته فوق الهضبة .. يبدو لي انه كان يعشق الليل كثيرا ويجد نفسه وحيدا في صحراء يحمل فانوسه ليمضي الى حيث لا يدري .. انه يعشق الحركة ايضا ولا يريد الثبات ، فالحقيقة عنده في الحركة والوهم لديه الثبات ! يشعرك انه يبتعد تماما عن الارث الذي يفيض في كل مكان .. انه يقدم ” رسالة ” الى الاجيال بأن لا حياة مع الماضي ، بل انها مع المستقبل . الحب عنده له قيمته ، اذ لا يمكن ان تملأه رغبة اي رغبة .. انه يتذوقه كما لم يتذوقه من قبل ! الزمن عنده ـ كما يبدو لي ـ ثمين جدا ، وان مجرد تداوله في تطور دائم ، معناه الحركة وحركة الانسان لملاحقة اي جديد من دون التشبث ببقايا الزمن .. فكيف اذا كانت بعض الازمان التي سبقتنا متعفنة ومتقيحة ومتورمة .. انه يهرب دوما نحو المجهول خلاصا من تلك ” البقايا ” ! انه دوما يختفي وبصمت وتبحث عنه فلا تجده ، وفجأة يشخص امامك !
بورتريه عراقي للعراق : رؤية بانورامية رائعة
رسم سركون بورتريه تصوري لشخص عراقي يعيش في آخر الزمن ! فانه يراه هنا او هناك .. يراه في ما وراء الحدود وفي ما داخلها .. يجده شاخصا يتأمل في بحر الظلمات .. او زائغا في نهر النكبات .. يجده مسحوقا وقد انكسر انفه بعد ان كان انفه شامخا ! يبدو انه مجرد اشلاء مطحنون البطن وقد خرج من عصر المجازر .. كان يطحن لوحده بجنون لا يصدق عند بابل منذ عشرة الاف عام .. وقد رأى سركون تلك الصورة من غير اطار بعد ان توالت انفجارات التاريخ بسيرورتها اللامتناهية ! وقد استعادت اليوم كل ملامحها القاتلة .. انها مثل امرأة باذخة مبذرة ! ندخل بمعية سركون فضاء التاريخ ، فيرى وكأنه يقرأ صفحات كتاب فيحدثنا عن طابور الغزاة وهو يمر ، وهو ينتظر فلا يرى الا السجن والمقبرة .. فينشد المنفى . تشتعل المعركة لتأكل نيرانها كل العراق .. المنجنيقات تدك اسواره التي لم يبق منها شيئا .. فتهب كل الطواعين والاوبئة والكوارث .. وبغداد تجدها كأمرأة جنحت مع الريح ، وهي صامتة لا تحكي شيئا .. عيونها تحكي عن زوبعة قادمة .. انها تبكي بحرقة وقد نثرت شعرها في دواماتها الكبيرة ! بغداد لم تعد مدينة منذ زمن مضى ، فهي مجموعة قرى وارياف بعيدة لا تعرف الا الهياج والفوضى .. لقد اختزلت تلك المدينة العظيمة في زقاق مقفر ! ولا تردد الا اغنية تتحدث عن اشياء جميلة عن الحزن او الهجرة .. او لم تجد بغداد التي انتهت ولم تمت اذ بالامكان ان تجدها في جناحي فراشة ترفرف .. اي انها لم تزل تعرف الحركة في ازقة نخشى عليها منها .. وهي ملطخة العينين عبث بهما التاريخ بمكحلته القديمة وثدييهها يختزنان الحزن الابدي .. غدت الفاكهة فيها يتيمة كالاحجار في سلة .. السلة قادمة من سوق تيبست فيه كل الاشياء واقفلت فيه كل الدكاكين .. واصفرت في خشبانه الريح الصفراء .. يا حزننا .. يا قهرنا نحن الذين ولدنا وحلمنا احلامنا الصغيرة ، ثم هجرناه .
www.sayyaraljamil.com
الف ياء ، 26 نوفمبر 2007