اننا لا نستطيع ان نقفز على الزمن لننادي بمجتمع صناعي او زراعي متطور .. علينا ان نكون متواضعين قليلا في فهمنا لاوضاعنا وتحليل تناقضاتنا .. ان مجتمعاتنا لم تمر اصلا بمراحل التطور الاقتصادي العالمي الحديث .. انها انتقلت او لم تزل في حالة انتقال من كونها مجتمعات تقليدية تعتمد السوق الريعي والاستهلاك في كل الميادين بعيدا عن الانتاج كواحد من اهم سمات التقدم او بالاحرى التحول من مرحلة السكون الى مرحلة الحركة .. لقد مر القرن العشرون بطوله من دون اي حراك حضاري في كل عالمنا العربي وبضمنه الشرق الاوسط .. والحراك الحضاري هو مقدرتنا في التأثير على العالم بأي منتج او ابداع او اكتشاف او اختراع .. كما خابت كل المساعي في تطوير اي حراك سياسي على امتداد قرن كامل ، بل حرقنا عقودا طوالا من السنين في صراعات لا معنى لها ، وفي طوباويات لا نفع فيها ، وفي خطابات مؤدلجة ادخلت الناس في متاهات لا تعد ولا تحصى ! وعليه ، لا يمكننا ابدا ان نقارن مجتمعاتنا بمجتمعات اوروربا ، فكل منهما سماته ومظاهرة وطبيعة علاقاته الداخلية وبنيوياته الخاصة .. وعليه ، فليس بالضرورة ان تتأسس ديمقراطية هنا في مجتمعاتنا على نفس الانساق التي مرت في اوربا .
لا يمكن مقارنة التجارب الاوربية في ما بين الحربين العظميين بتجارب انظمة حكم الشرق الاوسط .. واذا كان المجتمع المدني قد انتكس في كل من المانيا على يد هتلر وايطاليا على يد موسليني ، وان الاتحاد السوفييتي لم يعرف المؤسسات الديمقراطية طوال حياته ، فلا يعتبر حكم ستالين انتكاسة للمجتمع المدني ، اذ لم نجد اي مؤسسة للمجتمع المدني في الاتحاد السوفييتي مطلقا .. وبقي المجتمع مكبلا وغير مسموح له بالانفتاح ولا بالالتقاء مع تجارب اخرى .. وهذا ما جرى بدرجات متفاوتة بين الانغلاق الكامل وبين الانغلاق المشروط في كل من تجربة البانيا الشديدة وتجربة بولندا .. وهكذا بالنسبة لالمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا .. الخ
وليس هناك حالة مثالية واحدة حتى يومنا هذا حتى نقول بأن الانتكاسات قد حصلت في ما بين الحربين فقط ، اذ كانت هناك انتكاسات في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لما بعد الحرب العالمية الثانية . المهم ، ان تجاربنا الليبرالية في مجتمعاتنا الشرق اوسطية قد سحقتها الانقلابات العسكرية ، فلا يمكن ابدا ان نقلب المعادلة التاريخية لنشيد بحكومات عسكرية وفردية ودكتاتورية مستبدة وننكر وجود برلمانات واحزاب حيوية في مصر والعراق وسوريا ولبنان وتركيا وتونس والجزائر والمغرب .. فالتاريخ المعاصر للقرن العشرين يعلمنا ان الخمسين سنة الاولى من القرن العشرين كانت افضل بكثير في تجاربها السياسية والليبرالية من الخمسين سنة الثانية التي سحقتها الانقلابات العسكرية وصراعات الاحزاب الثورية ثم الممارسات الشوفينية والاحكام الاستثناية والدكتاتورية فضلا عن التناقضات التي تقض اليوم مجتمعاتنا بفعل الاسلام السياسي .
السؤال : اين هي تلك العلاقات الانتاجية الابوية في مجتمعاتنا قاطبة ؟ اين هي العلاقات الانتاجية شبه الاقطاعية ؟ متى نشأت في مجتمعاتنا علاقات رأسمالية صناعية ؟ واين هو نظام القنانة ؟ ان الوعي الاجتماعي لا يولد من خلال هذه الافتراضات ، بل يتبلور في كل مرحلة من خلال ولادة ظروف واسباب .. وربما كان المثقفون والاعلاميون اقل وعيا بالظروف والمتغيرات مما يجعلهم غير قادرين فعلا على استيعاب التحولات .. بل وان التجربة التاريخية توضح لنا بأن ليس هناك ما يسمى بـ ” الوعي الديني ” كما هي كانت اكذوبة ” الوعي القومي ” ، واذا كان الاخير يؤمن باحقية الامة العربية في تحقيق الاهداف في الوحدة والحرية والاشتراكية ـ مثلا ـ ، ؟ فماذا يريد الوعي الديني ان يقول ؟ ان الوعي بالدين سيقف حجر عثرة امام الديمقراطية التي لا وجود لها في اي دين من الاديان .. ولكن في الاسلام هناك نظام الشورى بديلا عن اليمقراطية ونظام المبايعة بديلا عن الانتخابات !
ان الوعي الاجتماعي الحديث لا ينشأ ويتبلور الا بوعي علمي وفكر مستنير .. ولا يمكن لذلك الوعي ان يقترن بوعي ديني جديد اكثر تنورا ووعيا بدور الدين ودور الدولة والفاصل بينهما .. ذلك لأننا دوما ما نقرن تحولات مجتمعاتنا بتحولات المجتمعات الاوربية ، وهذا خطأ كبير فالمسيحية في اوربا كانت قابلة للانقسامات لا الفكرية حسب ، بل للعقدية ومن هنا نشأت منذ بدايات القرن السادس عشر فجوة بين الدين والدنيا من خلال ثورة الاصلاح الديني ، واخذت تتسع على الارض بدءا بثورة الفلاحين في المانيا ابان القرن السادس عشر الى الثورة الماركنتالية ابان القرن السابع عشر ، ثم الثورة السياسية الدستورية متمثلة بحركة كرومويل وانتقالا الى الفكر الحر وثورة القانون المدني وعهد التنوير والفلسفات في القرن الثامن عشر متوجة بالثورة الفرنسية انتقالا الى الثورة الصناعية والبرق وسكك الحديد في القرن التاسع عشر وصولا الى الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين وانتهاء بثورة المعلومات والكومبيوتر والاتصالات في القرن الواحد والعشرين .. هذه كلها لم يصنعها الوعي الديني ، بل صنعها الانسان .. ومع كل هذا وذاك فان تفكير مجتمعاتنا لا ينفع معه اي وعي ديني جديد ، ذلك ان الاسلام نفسه لا يقبل اي تفسير من الناحية العقدية ، ولكنه قابل لأن يوظفه هذا وذاك لمآربه وان الفكر الاسلامي هو غير العقيدة الاسلامية وان الفقه هو غير اصول الفقه .. فانت يمكنك ان تجد عدة ( اسلامات ) سياسية ومذهبية واجتماعية وفكرية في التاريخ والجغرافية ، ولكنك لا تستطيع ان تجد اكثر من قرآن كريم واحد يجتمع عليه العالم الاسلامي كله .. انه باستطاعتك ان تجد اسلاما سلفيا واسلاما ايرانيا واسلاما تركيا واسلاما اباضيا واسلاما اصوليا واسلاما زيديا .. وزمن قبل ذلك تجد اسلاما حنفيا وآخر شافعيا وآخر جعفريا وآخر علويا وآخر حنبليا .. الخ ولكن لا يمكنك ان تبعد الاسلام برمته عن الفروض والطاعات والعبادات .. عن الحياة الاجتماعية .. الوعي بالدين لا يحل لك المشكلة ، بل ان الاجتهادات في الدين ستعمل على تفكيك كل تعقيداتها ..
المثقفون ليس باستطاعتهم ان يأخذوا دور الوعاة بالدين لا الدعاة اليه .. بل ان علماء الدين لابد ان تكون لهم مساهماتهم في ابعاد الدين عن الدولة والسياسات .. ان عليهم ان يعملوا على ابعاد الدين عن السياسة وابعاد رجال الدين عن الحياة السياسية .. عليهم ان يكونوا شجعانا ليعلنوا بأن هناك سياسة مدنية وسياسة شرعية وهناك قانون مدني وهناك شريعة دينية وان الاثنين لن يلتقيا في العديد من الجوانب .. وأسأل : أي نخبة قيادية ومفكرة ومبدعة من الاعلاميين لدينا حتى يمكنهم ان يغيروا الحياة ؟ ان الاعلام اليوم ينحصر على الشاشة بين ما يمارسه رجال الدين واهل الفن مع ركام من المراسلين والمعلقين السياسيين الذين ليس لهم الا بضاعة كلام .. ولم نشهد اي توظيف حقيقي لرجال الفكر ولا الفلسفة ولا المثقف الحر في ان يقول للعالم ما يؤمن به .. انني دوما ما اشبه عملية التحولات الجذرية لدى اي مجتمع بمغامرة يمكن ان يتبناها هذا او شجاعة يمكن ان يؤديها ذاك .. كالتجارة في السوق لا تنمو الا من خلال اناس مغامرين ! الفرق الوحيد ان التاجر محتمل يكون مغامر غبي فينجح ، اما المفكر الحر فيبقى منطويا بذكائه بسبب خوفه فيسكت مع تهميش حقيقي له .
www.sayyaraljamil.com
مزامنات ، 28 اكتوبر 2007
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …