مثقفون طفيليون
لا اقصد من مقالي هذا كل المثقفين ، فالحياة لم تزل تتسع للخيرين والمبدعين من كتّاب ومفكرين وشعراء وفنانين ومختصين محترفين بارعين لم تزل رؤيتهم صافية ومكابداتهم مستمرة وهمومهم لا حدود لها .. ولم تزل منطلقاتهم نزيهة وحية ومفعمة بالحركة .. ولكنني اخصص مقالي هذا لكل من اضاع الزمن معاييره في الحياة وبات يحمل امراضا وتعقيدات لا حدود لها ، فضلا عن الطفيليين الذين انتجتهم الازمان الخاطئة عندما سارت بنا الحياة في غير طريقها .. دعوني اقول انه لا يمكن حصر امراض المثقفين في مقال واحد ، فهي لا تعد ولا تحصى من ترسبات تاريخ او عادات مجتمع او بقايا اوبئة سياسية متهتكة .. خصوصا اذا ما تقدمت عوامل التشخيص وفضحت المكاشفات والنقدات ما يدعيّه هذا او ذاك من المثقفين .. وغدا مصطلح الثقافة والمثقفين في حالة من الابتذال ابان هذا الزمن الصعب ! نعم ، لقد كثرت امراض المثقفين ، وتورمت عما كانت عليه منذ ازمان الانقلابات والايديولوجيات والهوس العاطفي باتجاه اليمين او اليسار ناهيكم عن عما حفل به كل القرن العشرين من نخب مثقفين سلطويين ومن مطبلين ومزمرين ورقاصين ومتهتكين من خطباء وكتّاب وشعراء وصحفيين ومؤلفين وفنانين وقوالين .. الخ
الفجوة الساكتة
من جانب آخر ، ازدادت اليوم تلك الفجوة الساكتة بين المثقف والاخلاقيات العالية او قل التقاليد الرائعة ، وباتت الامور مهترئة الى درجة لا يمكن ان تبقى مختفية .. رّد عليّ صاحبي ليفصح لي عن حقائق كانت مغيّبة عني وهي تحكي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تاريخ من جعل من نفسه أحد سدنة تاريخ العراق وثقافته التي لا أول لها ولا آخر! ماذا احدثّكم عن لصوص الكلمات ومستلبي الافكار من الذين يسمون انفسهم بالمثقفين ظلما وعدوانا ؟ وماذا احدّثكم عن مزوّري المواقف ومخرجي الادوار الذين يسمون انفسهم بالسياسيين وهم يتطفلون على الثقافة والمثقفين من دون ان يمتلكوا اي احساس بالحذاقة فالمثقف له صنعته بفكره او قلمه او ابداعه ويستوحي الاشياء ليعبر عن روح مجتمعه بعيدا عن اي سلطة او اي جاه او اي اجندة ؟ اما من يلهث وراء اي سلطة او نفوذ في الدولة ، فانهم – كما وصفهم صديقي الفيلسوف ـ بسراق الاقنعة ومنتحلي كل الادوار الرائجة .
الصناجّة الراقصة :
ماذا احدثّكم عن ذاك الصناجة الراقصة الذي يخرج على شاشة التلفزيون بين الحين والاخر ، وهو يعرض بكل وقاحة سرقاته افكاري العراقية على الناس باسمه ! لم اندهش ابدا وانا اتابع تصنيفاته للثقافة العراقية وللجغرافية الثقافية .. تلك وهذي التي عالجتها في محاضراتي المنشورة هنا وهناك .. انه مرض يستشري لدى البعض ممن لا تهمهم الا انفسهم او ذواتهم او مصالحهم .. كذاك الصحفي العجوز الذي كان ولم يزل كذبة كبيرة في حياتنا العربية ! لقد عاش منذ عقود من السنين وهو يوهم الناس بحقائق لا اساس لها من الصحة ابدا ، والناس تصدق ما يقول بلا اي نقد ولا اي تدقيق !
وهل ينتهي الامر عند هذا الحد ؟ لا ابدا ، انه يمتد الى مثقف آخر او ثلة اخرى من المثقفين الذين لا يعرفون ابدا معنى الحيادية في التفكير ، انهم متعصبون لفكرة ما او تيار ما او زعيم ما او اتجاه ما .. بل ويغالون في امر ما يذهبون اليه من دون اي حيز للمجادلة ، ولا اي هامش للمبادلة ولا اي خط رجعة للفشل .. لقد كان بعضهم متعصبا لماركسيته تعصبا اعمى ، وفجأة وجدناه وقد اصبح قوميا يغالي في شوفينته حتى جعل من الحزب الواحد مثالا يحتذى به .. وفجأة اجده اليوم وهو يركب مركب الطائفية العمياء ليغدو طائفيا مقيتا يريد قتل من ليس على مذهبه .. فماذا يمكن فعله ازاء مثل هؤلاء الذين يتقلبون سايكلوجيا ، وكنا نعذرهم لو غيروا من افكارهم نحو الافضل ، ولكنهم يتراجعون يوما بعد آخر الى الخلف !
الاستلاب في الخفاء والعلن
حالة اخرى لم تكن موجودة لدى مثقفينا في ماضينا التليد ، تلك التي تجدهم فيها يشترون منك ثم يبيعون اليك .. انهم يجترون افكارك ويستلبون كتاباتك على عينك يا تاجر .. وهذا لم نجده لدى مثقفين آخرين في هذا العالم .. هل تصدقون ان بعضهم اعتز بهم كتابا واصدقاء نشر كل واحد منهم بعض اعمالي في كتاب له نشر حديثا من دون تكليف اي واحد منهم نفسه ان يستأذن مني ذلك ، وما كنت لارفض طلب ايا منهم وانا اهاتفهم من حين لآخر .. ولكن ايا منهم لم يفعلها ابدا ، ولم يسألني استلابه من مقالاتي لينشرها في كتابه او ذاك في كتابه او الاخر في مجموعته .. فماذا نسّمي مثل هذه الحالة ؟ ومع كل هذا وذاك فلم اتنازل لأسأل ايا منهم عمّا فعله ، عّل احدهم يهاتفني يوما او اراه في مناسبة معينة كي اجد سببا مقنعا لهذا الاسلوب . كل هذا وذاك لا نجده في مجتمعات مثقفة في اي من العالم المتقدم ، فالحقوق محفوظة والامانات مصانة ويا ويل من يتجاوز على حقوق الاخرين . وان كان هذا او ذاك قد حصل في كتب ومنشورات مطبوعة ، فلا تسل عما يحدث من استلابات في الصحف اليومية والمواقع الالكترونية التي لا يمكنها ان تحيا ابدا من دون نشر مقال لهذا او ذاك من دون ان يعرف بذلك .
واذا كان هذا الصديق المثقف قد ساق مقالاتي ذاكرا اسمي ، فان آخرين لا يفعلون ذلك ، انه من ابشع ما يتصف بعض الكتاب النرجسيين العرب ان يأخذ منك من دون ان يذكرك ! نادرا ما اقف على من يعطي لكل ذي حق حقه .. وهي صفة ليست ابنة هذه الايام ، بل انها تلك التي صنّفها ابن الاثير في كتابه : ” المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر ” قائلا بأن هناك من ينسخ عن هذا أو من يسلخ عن ذاك ، او من يمسخ عن الاثنين ! لقد طفح الكيل اليوم بالنسخ والمسخ والسلخ ..
فاقد الشيئ لا يعطيه
لقد زادت امراض المثقفين العرب هذه الايام ، بحيث لا يمكن ان يجد من يحاسب السراق والمنتحلين والسلابين وفقراء المعرفة المساكين .. وربما يسقط واحدهم ، ولكن حين يسقط شرف الكلمات يبقى الكلام محكوما بالحقيقة الضائعة ! ناهيكم عن تلك المزاجية المازوشية والنرجسية القاتلة .. تجد هذا منفوخا وتجد ذاك متعجرفا وتلك تؤله ذاتها .. والاخر مزاجي لا يمكن ان تتعامل معه .. وانت في وسط غابة تعّج بالعلاقات الانانية الموبوءة والاحقاد الدفينة والكراهية التي تبدو على سيماهم واضحة جلية وخصوصا اولئك الذين يتوهمون انفسهم كبارا وهم من الصغار.. انهم يأكلون الحقيقة بقوة اللفظ لا بقوة الدلالة والوقائع والسلوك والاعمال والاخلاقيات العالية ، وهؤلاء عاشوا على قوة اللفظ ولم يعيشوا ماثرة التواضع او ايثار العرفان الفكري في الكلمة، المعرفة بلا عرفان كالهواء في الغربال … انهم اضعف الناس في المواجهة ، ففاقد الشئ لا يعطيه ، اذ تجدهم يهربون من المواجهة ولكنهم يغالون في الانشاء والكلام الفارغ والتهريج الممّل .. انهم يعدوّن من افضل المشوهين في الهامش السياسي والحوافي الفكرية ، ولعل ما نشهده من سيئات مؤدلجي بعض مثقفي الجيل الراحل اكبر بكثير مما نلحظه لدى ابناء الجيل الجديد ، وخصوصا في اسوء من هوامشه وذيوله وملاحقه ، فكيف نتصور اشباه الصناجة الراقصة يقررون مصير بلاد القيثارة والشمس وفجر التاريخ ؟؟
العملة السيئة تطرد العملة الجيدة
دعوني اكون صريحا لأقول بأن اغلب المثقفين ، هم من اكثر الناس تنّكرا لمعروف ابناء جلدتهم وليعذرني كل المثقفين ان اطلقت هكذا صفة بشكل عام ، ذلك انهم لا يقدرّون حقوق رجالهم ونسائهم خصوصا اذا اختلفوا عنهم في المذهب والتيار والتفكير.. ان بعضهم لا تعرفهم الا من خلال استعراض عضلاتهم !! وان الكثير منهم لا يعترفون باخطائهم وخطاياهم .. ويا ويلك ان اختلفت في الرأي معهم ! انهم من اكثر الناس ايغالا في الجحود وهم ينافقون ويهربون من المواجهة .. ونادرا ما اجد من يقف مخلصا للاخر او وفيا لمن يشاركه اغلى الاشياء !! وان كان هناك من يتمتع بالمصداقية وروعة الابداع والشهرة المبكرة ، فانه سيصادف مشكلات وعوائق .. ففي مجتمعاتنا تقوم العملة السيئة بطرد العملة الجيدة .
الازمة اخلاقية بالدرجة الاولى
لقد تمّرس البعض على ان يكرهوا كل الوجود بمقالاتهم السياسية ، بل غدوا يكرهون بعضهم بعضا بشكل لا يصدّق !! وليس أسوأ من يصم مؤسسات معينة باشنع الصفات لاسباب علاقات شخصية ليس الا ، ويمكن ان نختلف سياسيا وفكريا مع احترام المؤسسات الفاعلة والحيوية ، اما ان نقلب الطاولة باستخدام كل المبتذلات ضدها ، فان الثقافة العربية في ازمة اخلاقية حقيقية . لعلّ من اسوأ الصفات ان تفقد تواضعك وتحارب زملاءك وتسيئ الظنون بهم .. ان من اجمل الصفات ان تكون صريحا وشفافا وجادا ومباشرا وملتزما باصول المجتمع وتحترم كل تنوعاته من دون اي تعصّب ولا اي تطرف ..
وانظر ، انهم يذبحون البشر بالسنتهم واقلامهم قبل ان يستخدموا تصفياتهم لانفاس الاخرين .. لا اعتقد ان هناك من صنف يسيئ لنفسه وتاريخه مثل هذا الذي يفعله المثقفون !! انهم نتاج بيئات مشوهة واساليب تربوية هزيلة .. ويتوّضح هذا التشّوه في الشتات ، بحيث يريد احدهم افتراس الاخر ، بل ويحاربه حتى في رزقه !! وأسأل : هل لأنهم غير متجانسين ؟ هل لأنهم غير متوازنين ؟ ام انهم غير مثقفين حقيقيين ؟ هل لأنهم يمتلكون بقايا كمّ هائل من بشائع التاريخ ؟ هل تجدهم أسوياء في تصرفاتهم ؟ لماذا لم يستمعوا لاصوات العقلاء وضرورات المستقبل ؟ وهل خلا ثقافاتنا في بيئاتنا المتنوعة من عقلاء الى هذا الحد ؟ لا اعتقد ابدا ، فليس هناك اذكى من المثقف الحقيقي عبر التاريخ ، ولكن قوة التشوّهات التي صنعوها لأنفسهم قد جعلتهم بمثل هذا الحال وهذه الاحوال ..
واخيرا : المسكوت عنه من المخفيات يتفجر
لقد كثرت التعصبات هذه الايام حتى لدى المثقفين ، وطال الانفعال كل حياتهم ، بل ولعل اسوأ ما يعانيه عدد كبير من مثقفينا هذا الوباء الجديد الذي استشرى لاحقا .. انه الطائفية اللعينة لاديان ومذاهب بتأثير وصولها الى السلطة بعد ان كان التطرف يحكم حياة الالاف من المثقفين باسم التحزب السياسي والاتجاه نحو اليمين واليسار باطلاق الاتهامات لرجعية هؤلاء وتقدمية اولئك .. ناهيكم عن تعصبات البعض شوفينيا باتجاه هذه القومية او تلك !! الانسان مفتقد في عقولنا .. حقوق الانسان مسكوت عنها في ثقافتنا .. المرأة لم تزل مسحوقة في مجتمعاتنا .. حقوق الطفل غائبة من مقاييس مثقفينا .. ومن السخف ان اجد نفسي اليوم فجأة وسط حديث بين مثقفين لا هموم لهم اليوم الا التعصب الطائفي ، والنيل من هذه الطائفة على حساب تلك ! بل واشعر بالتقزز ان اجد غيري موضع اتهام او موضع براءة كونه ينتمي الى دين فلاني او طائفة علانية !!
اذا كان السابقون الاولون قد ارتكبوا جنايات دموية فاضحة أحدهم بحق الاخر ، فما ذنبي انا ادفع ثمن صراع قد حدث في التاريخ على السلطة قبل مئات السنين ؟ ان حلمي قد تبدد في الثقافة العربية والمثقفين ، اذ كنت اعتقد بأن زمننا سينهض على ايديهم بعد شقاء التاريخ .. ولكن انقلبت الدنيا رأسا على عقب وضيعنا حقيقتنا التي لا اعتقد انها ستتحقق ابدا في غضون الثلاثين سنة القادمة وان عاد الناس الى رشدهم وتخلصوا من امراضهم ، يكون الزمن قد فاتهم او ان جغرافيتهم قد تبدلت وبدأوا تاريخا انقساميا سيأخذهم على امتداد القرن الواحد والعشرين ..
ما العمل ؟
ليست هناك عصا سحرية تعيد الحياة الى طبيعتها .. ولكن لا يمكن لهذا الاضطراب في المعايير ان يبقى شاخصا في حياتنا الجديدة التي تفاقمت فيها مشكلات لا حدود لها ابدا .. واعتقد ان الطفيليين سوف لا ينتهي فعلهم سريعا ما دامت هناك مناخات سياسية غير نظيفة ولم تزل مجتمعاتنا اسيرة اطواق سلطات متنوعة .. بل وان الحياة الثقافية نفسها اصبحت اسيرة ومكبلة بقيود لم تكن موجودة لدى الاجيال السابقة . ان تحرر المثقفين من اطواق الحياة الثقيلة والانطلاق بتفكير نسبي للحياة .. والاستفادة من تجارب المجتمعات الاخرى ونخبها المثقفة الفاعلة في المجتمع فضلا عن ترسيخ مبدأ القطيعة بين الحياة ومطلقاتها ودعوة المثقفين الى تبني مشروعات جديدة ومن خلال علاقات جديدة واخلاقيات جديدة سيسهم في تحرر الثقافة من ايدي الطفيليين عليها .. ان الاعتناء بالجيل الجديد على اسس علمية حقيقية من دون تلويث العقول بما هو سائد اليوم سيسهم ايضا في التسريع لوأد كل بقايا الماضي الذي عاشته حياتنا على مدى ثلاثين سنة ، وسيطلق الجيل الجديد نفسه بكل ابداعاته كي يؤسس نفسه في هذا العالم بعيدا عن كل امراض ما فات .. ان التحول ليس سهلا ابدا ، ولكن ينبغي الوعي به قبل التأسيس عليه .. ثمة قيود لابد لها ان تكون في ما يخص حقوق المؤلف والمثقف والمبدع والفنان .. ثمة قوانين وتقاليد واعراف لابد لها ان تعيد للمثقفين مكانتهم في الحياة الجديدة .. ان المثقف الحقيقي الذي يحتاجه مستقبلنا هو من يؤمن ايمانا حقيقيا بالتفكير المدني والحياة المدنية والعلاقات المدنية والافكار المدنية والقطائع على اسس مدنية .. ومن خلال مبدأ العلمنة والتحرر من قبضة كل بقايا التاريخ ورواسبه القاتلة ، فضلا عن الاستعانة بالعقل دوما . ثمة علاجات واقية لابد لنا ان نجدها لدى حياة مثقفين حقيقيين في هذا العالم كي نتعلم منها الكثير من دون اي شعور كاذب بالعظمة الفارغة . فهل يمكننا ان نخطو اولى خطواتنا نحو العالم بعد عزلة كئيبة امتدت لقرابة ثلاثين سنة مضت ؟
www.sayyaraljamil.com
1 اكتوبر 2007
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …