مقدمة
لقد استوقفني مصطلح ” الثقافة ” طويلا ، وهو من المفردات الشائعة والأكثر شيوعا لدى قطاعات كبيرة في مجتمعاتنا مع تقادم الزمن . ويعد هذا ” المصطلح ” من أكثر المفردات خطورة لدى كل من المجتمع والدولة .. إذ لا يمكن لكليهما أن يعيشا أبدا من دون ثقافة أو مثقفين إذا ما كان لكل منهما منهج ومشروع للتقدم والتنمية . ان ” الثقافة ” ليست ، كما غدت اليوم ، مادة مبتذلة لدى الناس ، بل يستوجب ان تكون مادة حقيقية وقوية لاغناء العقل وتهذيب السلوك واتساع المعرفة وأسلوب حياة وحذاقة العمل .. إن خصب المعنى يمنحنا القدرة للبحث عن التباينات في الرؤية لـ ” الثقافة ” لدى أي شعب من الشعوب او مجتمع من المجتمعات . إننا في ثقافتنا العربية التي تعتبر الى حد اليوم أخصب ثقافات الشرق الأوسط ، واغلب ثقافات المنطقة متطفلة عليها بسبب الأصالة والتنوع .. ناهيكم عن حجم ما أنتج في الثقافة العربية مقارنة بالثقافات الأخرى المتعايشة معها .. إن واحدا من الأسباب التي تجعلني أؤكد على كل من المعنى والتأصيل لـ ” الثقافة ” صعوبة إطلاق صفة ” المثقف ” على هذا او ذاك ، فالمثقف الحقيقي في أي مجتمع يعد صاحب قيمة لا تتوفر بسهولة أبدا .. وهو الإنسان الحاذق والقادر على أن يحقق اعترافا وطنيا او دوليا بابداعاته .. وهو القادر بالوقت نفسه على ان يوظّف إبداعاته في خدمة مجتمعه والعالم لا أن يكون بيدقا من بيادق الدولة او كما يطلق عليهم بـ ” مثقفي سلطة ” ! دعوني احلل معنى الثقافة وأقدم تأصيلا للمصطلح الذي نستخدمه نهارا وليلا من دون فهم أبعاده الحقيقية ( وساعالج مستقبلا فلسفة المفهوم الدولي والعالمي لـ ” الثقافة ” ) .
1/ الثقافة والمثقفون : المصطلح والمضمون
ان الجذر التاريخي لاستخدام كل من مصطلح ” الثقافة ” ومصطلح ” المثقّفون” شفويا وتحريريا لا يربو في حياة العرب على سبعين سنة من الزمن في الأعم الأغلب . والمصطلح بصيغته المتعارف عليه : كلمة موّلدة ، اذ هي ترجمة للكلمة الانكليزية Intellectual وللكلمة الفرنسية Intellectuel التي يرقى استعمالها في الأدبيات الانكليزية الى القرن السابع عشر ، ولكن تم تشكيل حصيلتها على مدى أكثر من قرن من الزمن لدى الفرنسيين . والمصطلح بصيغته المرجعية في المضمون العام مشتق من Intellect الذي يرمز الى العقل في تشكيله او الفكر في بنائه ، وصاحبه هو الذي له ميل أو نزوع نحو الفكر ، وهو الذي اكتسب في حياته شؤون الفكر ، فأصبح في عداد أصحابه ، مقتربا في ذلك الى النشاط العقلي ، وهو الانتماء الأعلى لسمو الحياة .وان ذلك لا يتم ـ حسب المفاهيم الانكلوسكسونية ـ الا بواسطة التربية الأولى ثم من خلال آليات التربية العليا Education and high Education .
وبذلك ، فان مثل هذا المثقف يختلف في رؤيته وتفكيره عن ثقافة المجتمع والمحيط التي تدعى عادة بـ Culture الانكليزية أو الفرنسية . والمصطلح كان قد انطلق أصلا في معناه الحقيقي من ” فلاحة الأرض ” ، ثم تبلور عن مجموع العمليات التي تمكن أساليبه المنظمة من استنبات ما ينفع الإنسان والحيوانات الأليفة التي تحيطه .. ثم تطور معناها المجازي كي يعطي دلالات جديدة عن ” تنمية بعض الملكات العقلية بواسطة تدريبات وممارسات وتمرينات ” للإنسان في بيئة معينة او مجموعة بيئات متنوعة ، حتى وصلت الدلالات لمضامين من نوع واسع في تعريفاتها التي منها : ” مجموع المعارف المكتسبة التي يتمكن الانسان بواسطتها من تنمية ملكاته في النقد والذوق والإبداع واقرار الاحكام في الحياة ” ، أو هي بمعنى أوسع وكبيرآخر : ” أسلوب حياة للإنسان في بيئة معينة وظروف ملائمة ولغة ( أو : أكثر ) ..
وعليه ، فان المثقف ( أي مثقف بهذا المعنى أو ذاك ) ، سيكون هو ذاك الذي اكتسب بالتربية والتعليم اولا وبالتدريب وفهم الحياة ابان مرحلة تكوينه التي لا تقل عن ثلاثين سنة بعد ولادته ، جملة من المعارف والأساليب التي تنمّي قدراته وملكاته ، وعاداته وتقاليده ولغته في دواخل أي مجتمع يعيش فيه ، ويتميز المثقف هنا بأسلوب حياته ونمط عيشه وتفكيره .. وعليه أيضا ، فان هذا المعنى لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم المثقف الذي كان قد تجاوز صيغ أسلوب الحياة Culture للوصول إلى حالة Intellectual كمفهوم أوضحنا سماته قبل قليل ، والذي يتسع ليشمل النخبة في المجتمع ، أي يشمل أولئك الذين يمتهنون العمل الفكري والإبداعي والنقدي والسياسي والأكاديمي والتخصصي وحتى المهني .
2/ مصطلح ” الثقافة ” عربيا :
إن لفظ ” مثقف ” والذي يتم استخدامه اليوم في لغتنا العربية المعاصرة هو لفظ مولد ـ كما هو معروف ـ ، اذ لا يمكن العثور عليه في الأدبيات العربية القديمة ، وهو اسم مفعول من الفعل ” ثقف” ، أي : بمعنى : حذق . فلقد جاء في ” لسان العرب ” : ” ثَقِفَ الشئ ثَقفا وثقافا وثقوفة : حذقه . ورجل ثَقَف ( بفتح الثاء والقاف ) وثَقِف ( بفتح الثاء وكسر القاف ) وثَقُف ( بفتح الثاء وضم القاف ) : حاذق فهم ..” ولم نعثر قط على لفظ ” مثقف ” . أما لفظ ” الثقافة ” ، فقد ورد كمصدر : بمعنى : الحذق . يقولون : ” وثقف الرجل ثقافة : أي : صار حاذقا خفيفا ” ، أي : ماهرا ، وبرغم وجود أصله في اللغة العربية القديمة ، الا أن استخدامه كان نادرا . أي بمعنى : الحذق في أي صنعة من الصناعات المادية والفكرية ، وهذا ما نص عليه في لسان العرب لابن منظور .
وعليه ، فان ” الثقافة ” مصطلحا ومفهوما ، دلالة ومضمونا ، حاضرا وتاريخا لم يكن لفظا متوازيا مع ما يستخدمه العرب اليوم في لغتهم الحالية وخطابهم المعاصر ، فلا هي ” الثقافة” كما عرفها العرب القدماء ، ولا هي ” الثقافة” التي نجدها في اللغتين الأساسيتين : الانكليزية والفرنسية اليوم . ولابد من الفصل بين الدلالات ، للوقوف على المعاني الأساسية التي نريد المقاربة منها. واذا كانت المجامع اللغوية والعلمية العربية لم تفصل حتى يومنا هذا بين هكذا مفاهيم ومصطلحات ، وبقي الخطاب العربي المعاصر لا يميز بين ” الحاذق ” وبين ” المتربي ” وبين ” المتكوّن ” وبين ” المفكّر” وبين ” المهني ” وبين ” صاحب أسلوب حياة ” .. التي يجمعها كاملة مصطلح ” المثقف ” .. فان الحاجة والضرورة الأساسية باتت تطالبنا نحن العرب وخصوصا عند من يكتب تاريخ الثقافة العربية الحديثة ، أو الباحث المتوغل في أي جزئية منها أن يراعي هذا الجانب الحيوي ، لأنه سيفصل في تفكيره وبحثه وخطابه بين ما هو حقيقي من المفاهيم وما هو غير حقيقي من المصطلحات أو يكون دارسا حاذقا يجمع الاثنين في درس متنوع المضامين .
3/ معنى الثقافة العامة ومستلزماتها
إذا كانت الثقافة المحلية والوطنية والدولية حاجة منهجية اساسية في ان يتسلح بها الجيل الجديد ، فهي كتعبير، مستمدة ، من الكلمة اللاتينية والتي تعني حراثة الأرض والتربة, وهو معنى متصل بجانب مادي ذي مفهوم عملياتي ويعني” إصلاح الأرض وزراعتها وجني الثمار” وهي تعني أيضاً : عبادة الآلهة أو ممارسة العقائدية وهو ما يمثل البعد الديني لمصطلح الثقافة..
وفي قواميس اللغة العربية( = تاج العروس مثلا ) نجد الكلمة ” ثَقِفَ ” – مثلا – ، فيقال تثقّف الكلام خدمة وفهمه بسرعة. والثقافة في عالم الفكر تعني: الارتقاء و التسامي بالنفس البشرية، وتصعيد الإنسان إلى أعلى مستوى من التلاؤم و التأقلم مع بيئته ومحيطه، وتعني: الثقافة لدى علماء الاجتماع بحيث تعتبر ركناً أساسيا في حياة كل مجتمع بغض النظر عن حجمه و إمكاناته ودرجة تطوره ، وتتدخل هذه الثقافة لما تحتوي على مجموعة من القيم و الاتجاهات، و الآراء وأنماط السلوك التي تعبر عن الواقع الراهن، سواء أكان هذا التعبير قابلاً لهذا الواقع أم متصرفاً إلى تجاوزه بالتطوير أو التغيير . لقد تعاظم دور الثقافة في حياة الجماعات و الشعوب ، فالكلمة المجسدة للفعل, المثقلة بالرموز و المعاني المحددة في كلامها المنطوق و نضالها اللغوي خطاباً عاماً أو خاصاً, وتثقف في نفوسهم ومهاراتهم، لتربطهم فيما بينهم بحيث تعيد انتاج قوة عملهم بما يفتح أمامهم مزيداً من الحرية و التطور .
وقد اتخذت الثقافة معناها ايضا في حياتنا المعاصرة من أنماط السلوك المادية و المعنوية السائدة في مجتمع من المجتمعات التي تميزه عن سواه, واتسمت معانيها في العقود الأخيرة لترمز إلى جملة النشاطات و المشروعات و القيم المشتركة التي تكون أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم, و التي ينبثق عنها تراث مشترك في الصلات المادية و الروحية يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية و الجماعية إرثا ثقافيا بالمعنى الموسع لهذه الكلمة التي يبنى على أساسها مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد .
والثقافة لا يعلو شأنها إذا لم تجسد نسيجا متكاملا لمجتمع أحادي أو متعدد أو متنوع بحيث يعبر عن الأساسيات التي تختص به كله . وهنا يسمى بمجتمع متعدد الثقافات ، فيقبل التعددية مهما كان جنسها ونبذ ثقافة الفكر الواحد والقبول بالرأي الآخر. وان تفعيل هذه الثقافة بمعناه الإنساني تقوم على كاهل النخبة الثقافية ذوي الروح المتعددة بالميول الإنسانية والذين يحملون الروح السمو و الارتقاء و روح التضحية بالنفس عن كل نوازع المعترضات من الفكر الشمولي المقيت، و الذي يسلطونه على المجتمع المتعدد الأعراق. وأول حقوق الإنسان, هي حرية الفكر وحرية القول, وحرية العمل. وبالطبع هذه العوامل جميعها هي التي يرتقي المجتمع بجميع مناحيه الثقافية المجسدة لعملية التطور الإنساني في المسار الصحيح الحي النابض بكل شيء بناء على المقومات الأساسية التي يتميز بها النخبويون منذ تاريخ طويل .
يتبع
www.sayyaraljamil.com
المجلس ، 1 تموز / يوليو 2007
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …