يتناول بعض اعضاء المجلس العراقي للثقافة اليوم مشروعا بتأسيس يوم للمثقف العراقي اسوة ببقية الايام والاعياد التي يحتفل بها مهنيون او عمال او نسوة او امهات او طلبة او صحفيون ام عشاق ام اطفال ام معلمون .. الخ وانشغل بعض الاخوة الاعضاء في المجلس بتقديم مقترحاتهم في اختيار يوم مناسب يتفق عليه الجميع ليكون يوما للمثقف العراقي في كل عام يقف فيه الجميع اجلالا واكراما في لحظة صمت ليتذكروا من سبقهم من المثقفين العراقيين خصوصا ولا اغالي ان قلت بان العراق كان البلد الوحيد في المنطقة وقد احتشد فيه وبرز منه المئات من امهر المثقفين واروع المبدعين خلال القرن العشرين .. كما ان يوما كهذا يعد رمزا لذاكرة العراق المتنوعة التي شغلها عبر تاريخ طويل مئات الشعراء والادباء والعلماء والمختصين والفنانين والمهنيين المحترفين .. انه يوم يحتفي به الجميع من اجل ان يكون منطلقا حقيقيا لنهضة ثقافية عراقية جديدة يؤمن بها الجميع من خلال بناء اجيال جديدة تواصل المسيرة الرائعة التي شغلها المثقفون العراقيون عبر التاريخ .
ولكن ؟
يبدو ان ليس باستطاعة المثقفين العراقيين ان يتفقوا على تحديد مثل هذا ” اليوم ” ، ويا للاسف الشديد ، بل يبدو ان اعضاء قلائل في المجلس المذكور غير متفقين على تحديد هذا ” اليوم ” ، ليس لأنهم في غمرة من شقاء العراق اليوم ، بل لأنهم من الصعب ان يتفقوا على ” يوم ” يجمعهم معا .. فمن قائل ان يكون ذكرى رحيل احد علماء العراق المشهورين ، ومن قائل ان يكون في ذكرى تفجير شارع المتنبي من قبل الارهابيين .. ومن قائل ان يكون ذكرى تأسيس ابرز مؤسسة اكاديمية في حياة العراق في محاولة لجمع كل العراقيين .. ومن قائل ان لا وقت نضيّعه لاختيار هذا اليوم والعراق يذبح كل يوم امام العالمين .. ومن قائل ان ننسى التاريخ ونختار اي يوم باتجاه المستقبل ، فالتاريخ لا عمل له بيننا بعد اليوم ـ كما يقولون ـ !! ومن قائل ان نجعل اليوم عيدا يتخضرم بين مطلع خاتمة عام وبداية عام آخر وان يكون عيدا من ثلاثة ايام بدل اختيار يوم واحد ليصبح العيد عيدين .. ومن قائل اقترحوا تواريخ اشخاص ليتم الاقتراع عليها ومن يفوز بالاغلبية فيكون يوم المثقف من خلال المقترعين .. الخ من المقترحات التي يناقض احدها الاخر .. وكل صاحب مقترح له اسبابه ودواعيه في اختياره اليوم الذي يريده .. فما الذي يمكننا فهمه ؟
يبدو لي ان اختيار يوم المثقف العراقي عملية صعبة جدا ليس من خلال مجلس عراقي للثقافة ، بل من خلال كل المثقفين العراقيين الذين ليس باستطاعتهم الاتفاق على تحديد يوم معين ، فكيف يمكنهم المضي في تحديد اهداف معينة لابد من الوصول لها !؟ فضلا عن ان اختيار يوم للمثقف العراقي ينبغي اشراك جميع المثقفين العراقيين فيه ، فهو ليس ملكا مسجلا لفئة من الناس على حساب الجميع .. من جانب آخر ، لا يمكن للمثقفين العراقيين قاطبة اختيار مواقف مضادة من دون اسباب حقيقية !! ان مشكلة المثقفين العراقيين انهم غير متفاهمين على اسس حقيقية تعتبر بمثابة مبادئ يجمعون عليها ، بل انهم يختلفون حتى في التفاصيل .. ولا يمكننا ابدا القول ان المثقف العراقي يعيش بعيدا عن تناقضات مجتمعه او يعيش منعزلا عن كل التخندقات السياسية .. فضلا عن ان الاوبئة الحزبية والشوفينية والايديولوجية والطائفية والجهوية التي ابتلي بها اغلب العراقيين .
فما العمل ؟
انني اتأسى جدا على كل الناس من ذوي القلوب الطيبة والنوايا الحسنة وهم يقدمون اقتراحاتهم وسط بحر متلاطم من الغاضبين والمخاصمين والمخالفين والمنكرين والمتنكرين والذين لا تعجبهم حتى انفسهم وصولا الى ركام من الصامتين ! ولكننا ان استسلمنا لهكذا بحر متلاطم ، فسوف لا يمكننا تقديم اي شيئ لحياة العراق التي تمر اليوم باصعب مراحلها التاريخية .. ولكن دعوني احدد بعض المفاهيم التي اراها ضرورية حتى وان خالفني البعض هذا اليوم ، فهو بالتأكيد سيتفق معي في قابل الايام عندما تتسّع رؤيته للعراق واهل العراق وازمان العراق :
اولا : ان يوم المثقف العراقي هو يوم لجميع المثقفين ، فلا يمكننا ان نختار اي مثقف كبير ليكون يوم ولادته او يوم وفاته يوما للمثقفين العراقيين قاطبة .. فليس في العراق شكسبير واحد ، بل اطياف متنوعة من النخب .. وما دام العراق يعج بالاسماء الكبيرة وبمختلف حقول الثقافة وميادينها ، فمن الصعوبة اختيار واحد من بين ركام من المبدعين .. صحيح ان اسما واحدا يمثل رمزا ، ولكن ثمة تنوعات اجتماعية في العراق ، وهي تتبارى في عرض ثقافتها العراقية .
ثانيا : ان المثقفين العراقيين في الحاضر والمستقبل هم مجموعات من سلاسل امتدت عبر التاريخ .. فلا يمكننا ابدا ان نجعل تواريخنا من ورائنا فالعراقيون ما زالوا يسبحون بحمد بقايا تواريخهم وتقاليدهم .. لنأتي فنقول بأن يوم المثقف العراقي لابد ان نختاره من ايام المستقبل لا من ايام التاريخ ، وكأن التاريخ في العراق اصبح وباء لا يمكننا الاقتراب منه ! فاذا كان تاريخنا السياسي له كراهيته ودمويته ويعج بالصفحات السوداء ، فما بال بعض المثقفين العراقيين ينفر من تاريخه الثقافي وهو يحمل صفحات ناصعة ومبدعين لا حصر لهم ؟
ثالثا : عندما اقترح البعض ان يكون يوم ميلاد اشهر مؤسسة ثقافية وتعليمية كجامعة بغداد يوما للمثقف العراقي ، فقد اراد ان تكون رمزا للجميع ، وبالرغم من اعتراض البعض ان المثقف لا تصنعه المدرسة او الجامعة .. فهذا كلام ليس له باع في التمييز بين الثقافة العادية والثقافة المكتسبة .. وانه لا يدري ان تكوين اغلب المثقفين والمبدعين العراقيين قد ولد في اروقة المدارس القديمة ودار المعلمين العالي وجامعة بغداد ، فالثقافة غير السياسة التي يأتي بها الشارع .. وعليه ، فان ايا من تلك المؤسسات كانت مهاجع ثقافية قبل ان تكون اروقة تعليمية .. وفي ادبيات العالم الحديثة تقرن الثقافة بالتكوينات التربوية. وعليه ، فالمؤسسة الحديثة جامعة للجميع ولا يختلف عليها أحد .. اما المؤسسات القديمة فالخلاف حولها كبير !
رابعا : اما بصدد شارع المتنبي والفجيعة التي حّلت به . فلا يمكن ابدا ان تكون هذه الذكرى يوما للمثقف العراقي ، فهي من الاحداث السياسية وهو ورقة لعبها الارهابيون ضد احد ابرز شوارعنا الموسوم بـ ” المتنبي ” . فما دخل الثقافة والمثقف بصناعة هذا الحدث المأساوي ليكون رمزا لها وله ؟ ان يوم المثقف العراقي لابد ان يخلّد رمزا في قلوب العراقيين .. ولا يمكن ابدا ان نحتفي بيوم صنعه الارهابيون الجدد كما لا يمكننا ان نستذكر ابدا اي يوم صنعه الارهابيون القدامي .
خامسا : ان ما قدّم من مقترحات لا يستوي وحجم المثقفين العراقيين .. وان هكذا ” يوم ” مهم في حياة كل مثقف عراقي لا يمكنه ان يأتي بصورة اعتباطية عبر المراسلات الالكترونية ، بل ينبغي ان ينبثق من خلال مؤتمر كتوصية من توصياته ومن ثم تتشكل لجنة لدراسة الموضوع من كل جوانبه السياسية والاجتماعية والسايكلوجية .. ودراسة كل الاراء التي يعالجها اغلب المثقفين العراقيين لطرح خلاصات العمل على الناس .. ومن خلالهم يقرر يوم المثقف العراقي بالاجماع .
سادسا وأخيرا : ان كان تأسيس يوم المثقف العراقي صعبا لهذه الدرجة او تلك ، فمن الممكن ان يختار المجلس العراقي للثقافة يوما له هو نفسه ، فان نجح في اختياره يوما له ، يكون من الممكن التطّلع ليوم المثقف العراقي كي يشكل في الحقيقة رمزا للمثقفين العراقيين قاطبة ، بل ويمّثل نسغا حقيقيا للمثقف العراقي بين الماضي الرائع للمثقفين العراقيين وبين المستقبل المأمول للمثقفين العراقيين القادمين .
www.sayyaraljamil.com
الصباح الجديد ، 26 يونيو 2007
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …