معاني الطائفية
الطائفية هذا الوباء المدّمر الذي يجتاح كياننا ومجتمعنا العراقي لابد من التصدّي له مهما كانت الاثمان .. ومهما اوغل العراق في خضمه ومآسيه الصعبة . ومن سخرية القدر ان غدت هذه ” الظاهرة ” تطغى بكل عهرها وفجاجتها على تفكير العراقيين ، بل وان قباحتها غدت شتيمة يطلقها هذا على ذاك بمنتهى السهولة .. فالعراقيون يدركون كم هي قبيحة هذه ” الطائفية ” المميتة ، ولكنهم لا يفكرون بمعناها ولا بمخاطرها وبلواها .. خصوصا وانهم يعيشون احترابا طائفيا مفضوحا ، ولنعترف به شئنا ام ابينا .. وليعلم الجميع ان الطائفية بعيدة كل البعد عن الدين والعقيدة .. بل هي نزعة انحيازية وسايكلوجية عصابية في الانتماء الى طائفة معينة بذاتها ، ولم يكن يحملها في الماضي العراقي الا جماعات من المتعصّبين المهوسيين من هذا الطرف او ذاك .. ولكن تفاقمت شرورها ، واصبحت نزعة يحملها الملايين .. بل انها ـ على حد وصف احد اعز الاصدقاء ـ خازوق دق في قلب العراق .
وعليه ، فان الطائفية ليست مجرد فكرة عارضة ولا علامة فارقة في حياتنا العراقية .. بل هي ظاهرة تاريخية مدمّرة تعمل على خلق التناقضات المفجعة في كل مفاصل الحياة ابان زمان ومكان معينين . ان الطائفية التي يمكن ان توصف بـ Sectarian في الحياة الاجتماعية والسياسية ، أو انها مصطلح Denominationalism في العلوم الاجتماعية المعاصرة . تعني ـ بتفصيل اكبر ـ : اقصى انواع التحيزات في الانتماء الى مذهب معيّن او ملة بذاتها أو طائفة لها خصوصيتها وبشكل واضح فاضح او خفي مستتر ، وتتجّلى بكل فضيحتها من خلال محدداتها وانغلاقاتها باتجاه تعظيم الذات الجمعية او الجماعية المذهبية وخلق محددات باسم المقّدس دوما بحيث تغدو لا تعتني الا بصنمية الاشياء الثابتة والمقدسة وفرضها على الاخرين .
البقايا التاريخية
ان الطائفية لا يمكنها ان تكون البديل المقدّس التي لا يجادل احد فيه ابدا .. وعليه ، فان المجتمع العراقي اليوم بعد مضي تاريخ سياسي صعب ومرير انما يواجه اكبر الاخطار بانقسام المجتمع الى قسمين اثنين : سنّة وشيعة .. ناهيكم عن انقسامات اخرى . ولعل الطائفية هي من اسوأ ما خلّفه التاريخ السياسي الاسلامي على امتداد عصور خلت ، متركّزا في العراق الذي يعد محور استقطاب العالم الاسلامي كله منذ انبثاق ذلك ” التاريخ ” وبدء انقساماته وامتلائه بالمزدوجات والتناقضات وانفصال السياسي بكل شروره عن الحضاري بكل رقيّه وابداعاته . لقد غدا كل عراقي متدين يوصم بوصمة الطائفية بشكل متعاكس من قبل هذا الطرف ضد ذاك او من قبل ذاك ضد هذا .. علما بأن ” الطائفية ” لا علاقة لها بالاسلام ابدا ، فهي ظاهرة تاريخية مترسخة في العالم الاسلامي .. ويبدو واضحا ان الجميع يرفضها رفضا قاطعا بل ويستنكرها استنكارا كبيرا ، ولكنه ينحاز اليها من حيث شاء ام أبى سواء بعلمه او من دون علمه .. انه بتعلقه بمذهبه او طائفته تعلقا راسخا يعده الطرف الاخر ” طائفيا ” ، او قد تجد هذا المستنكر للطائفية يصم حتى العلمانيين بالطائفية لأنهم استنكروا مظاهر طائفية ..
لقد اصبحت الظاهرة مقيتة بشكل مقّزز بفعل واقع سياسي واجتماعي اسس نفسه على اسس محاصصية واضحة . ولقد ذّكرني احد الاصدقاء من المفكرين العراقيين قبل ايام ان ثمة طائفية خفية يختزنها عراقيون على مستوى من التخصص والثقافة ومن حملة الشهادات العليا ، وذلك في اللاوعي عندهم سواء بادراكهم المتبادل ام من دونه .. فأحدهم ـ مثلا ـ يجرد الطرف الاخر من فضائل معينة ، او يهمل ذكره او يتجاهل اسمه عمدا ولا يلقي بالمديح والتفاخر الا لبني طائفته فقط .. قلت : هذه مأساة أخرى ربما أنّبه اليها كل المثقفين العراقيين من اجل فحصها ورصدها وتحليلها وفضح امثلة منها .. فأي طائفي لا يمكنه ان يتقّبل الطرف الاخر ولا يأنس بمكانه ولا يتفاعل معه ، بل تصل درجة الكراهية الى اعلى درجاتها .. ولم يفهم بأن العراقيين سواسية في مكانتهم وابداعاتهم ولا يمكن ان يأتي لمن يفاضل هذا الطرف على حساب الطرف الاخر والا تكون الطائفية قد نخرت عظام العراقيين نخرا ان مارسها بعض الذين يعدون انفسهم بمثقفين وعلماء ومختصين .
العراق : الطائفية والمكونات لا تنتج اي مشروع حضاري
ان الطائفية اخطر داء وبيل يواجه العراقيين نظرا لصعوبة المعادلة بين الاثنين المتضادين سياسيا والمتكافئين عدديا .. ولعل من اسوأ سلاسل التجارب التاريخية في العراق اعتماد التقسيم الطائفي في اي تجربة سياسية او ( ديمقراطية ) ممثلة بواجهات حزبية او فصائل او تيارات او كتل او جماعات او هيئات .. في حين لم نشهد في تجارب العالم المتمدن اي اعتماد لمثل هكذا صيغة بليدة لا تنتج الا الخراب والدمار .. كما ان الفكر السياسي المتقدم لا يعتني بهكذا موازنة مخّلة بحياة المجتمع ، اذ انه يعتمد صيغة السياسي المدني في تطور المجتمع ونحن ندرك ادراكا راسخا ان الطائفية لا تقدّم اي مشروع حضاري تقدمي معاصر ، بل وانها تعتمد في تغلغلها على الماضي او من يمثّل الماضي في هذا العصر لتستند الى ما يقوله ويأمر او ينهي عنه .. هنا مربط الفرس في ان تكون طائفيا او لا تكون .. هنا عليك اما ان تؤمن بالقطيعة مع هذا النوع من الانتماء فتنفصل على ان تكون طائفيا ، او تقع تحت وطأة هذه الظاهرة من دون ان تشعر .. فتتّبدى عندك بطريقة مباشرة وانت بمنتهى وعيك .. ام انك لك موقف ادبي منها ولكنها تعيش في اللاوعي الذي يتملكك شئت ام ابيت !!
الطائفي في تفكيره ومواصفاته
تتبدى المظاهر بقصدية فاضحة ام من دونها وانت لا تشعر .. ولا يكشفها عند هذا الطرف او ذاك الا ذاك المتجّرد الذي تمكنت منه القطيعة بينه وبين هذه الظاهرة وغيرها في تفكيره ومشاعره ووجدانه .. انه الذي يعالجها موضوعا بعيدا عن ذاته وانتمائه .. انه الذي يعيش معاصرته في اي زمان ومكان بعيدا عن هذه الظاهرة الخطيرة . ان مجرد انحراف الانسان لجعل طائفته تسبق اولوياته الاخرى كوطنيته مثلا يعد طائفيا مهما دافع عن نفسه باستماتة ! والطائفي من يلقي بتهمة الطائفية على من ينتقد مثالب الطائفية .. والطائفي من يميّز نفسه عن بقية ابناء وطنه مهما كانت اديانهم او طوائفهم او مللهم او نحلهم .. الطائفي لا يؤمن بالديمقراطية ، لأنه يؤمن بظاهرة قميئة افرزها تاريخ لم يعرف الديمقراطية .. والطائفيون لا يمكنهم ان يكونوا بديمقراطيين ابدا .. فالديمقراطية لا تعرف التمييز بين المواطنين .. وعليه ، فان الاحزاب الدينية والطائفية لا تستوي والديمقراطية الحقيقية .
الكل في العراق يعتقد بكراهية الطائفية وغدت سمة سبّ وشتم لكل من يختلف بالرأي .. اصبحت تهمة سريعة ممجوجة لهذه الطائفة او تلك .. ولكن الطائفي هو من يبقى يصّر على الترويج والتباهي بطائفته ويستعدي الناس ضد الطائفة الاخرى . كل من لا يهتم بذكر طائفته ولا يقدمها على اولوياته الوطنية وافكاره المدنية ويؤمن بالعلمنة والديمقراطية والحريات والمساواة ويتساوى الجميع امام ناظريه وفي تفكيره ولا يميز الانسان على اساس الطائفة .. فهو ليس طائفيا ابدا .. وكل من يبقى يلوك هذه الاسطوانة المشروخة ليل نهار ويميز الناس على اساس طائفي ولا ينظر بعين متساوية الى كل ابناء مجتمعه فهو بطائفي .. كل من ينتج عملا او يقر قرارا او يكتب فكرا او يقر دعاية او يتباهى حّبا او يتباكى تمثيلا او يحمل كرها لأي طائفة اخرى .. فلا يتلمس المرء منه الا ان يكون طائفيا ، واذا كان قد ترّبى على هكذا نزعة من الاحقاد والكراهية ، فلا يمكن ان يتغّير ابدا ليغدو ديمقراطيا بل يعد مؤسسا لايديولوجية طائفية كريهة ومنغلقة تعمل على تكريس الانقسام والصراع . وانه ينظر بعين واحدة من اجل تحقيق مصالح فئوية وليس لمصالح عامة .
التمييز الطائفي : فجيعة العراقيين المعاصرين
ان المشكلة ليست في ” الطائفية ” بحد ذاتها ، ولكنها في التمييز الطائفي الذي كسر ظهر المجتمع والدولة العراقيين معا . ان التمييز الطائفي خطل كبير في حياة المجتمع ، فلا ديمقراطية مع اي طائفية او مرجعية طائفية او هيئة دينية او اجنحة مذهبية او سلطة كهنوتية .. ان الديمقراطية ـ كما يعلمنا تاريخها أياها ـ قد تطورت بعيدا عن ذلك وبعد ان قضي على نفوذها منذ نهايات القرن الثامن عشر في غرب اوروبا . ان المجتمع المدني بكل مؤسساته هو البديل الحقيقي والمعبر الوحيد عن الارادة الشعبية ازاء مؤسسات الدولة التي يجب ان تغدو في رعاية المجتمع المدني ومؤسساته من اجل رعاية المصالح الجمعية . ان الديمقراطية اذن لا تنمو وتتطور الا في ظل مؤسسات مؤهلنة ( أي : معلمنة ) لضمان الحريات والانتخابات وتداول الاراء وصنع القرارات وتأمين ثقافة ديمقراطية يتساوى الجميع من خلالها في ظل القانون الاساسي للبلاد والقوانين المنبثقة عنه .
ان الطائفية هي الهالكة للحرث والنسل وهي التي جّرت على تاريخ اوروبا لالف سنة مضت الاهوال والفجائع والحروب والصراعات الدموية .. ولم تستقر المجتمعات الاوربية الا بعد معرفتها ان مصائرها لا يمكن ان تكون بايدي رجالات طائفة بعيدا عن الكهنوت وبعيدا عن استهلاك العواطف والركون الى العقل من خلال مبادئ القطيعة مع كل افرازات الماضي وبقاياه واهتراءاته ! وعليه ، فلا يمكن ان ينتصر الانسان في العراق الا من خلال ثورة مدنية باستبدال القداسة بالاحترام ، واستبدال الطائفية بالوطنية ، واستبدال التقليد بالقطيعة ، واستبدال العبودية بالحريات ، واستبدال التحالفات بالعهود ، واستبدال المكونات بالمواطنة ، واستبدال المنافع بالمبادئ .. الخ
انتظر للموضوع صلة
www.sayyaraljamil.com
International Newspaper – Issue 2707 – Date 28/5/2007 Azzaman
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …