لقد كتبت عن تركيا الحديثة كثيرا ، ولكنني لم اشهد انقساما كالذي يحدث اليوم في مجتمعها السياسي واجد ان تركيا تمّر اليوم بمتغيرات سياسية واجتماعية صعبة.. ذلك انها لم تزل دولة ” كمالية ” تنهج فكر مؤسس جمهوريتها اتاتورك واسلوبه في العلمنة منذ قرابة ثمانين سنة .. وان الدولة لم تزل لها تقاليدها التي سارت عليها طوال القرن العشرين .. وانها لم تجد حتى يومنا هذا رمزا جديدا كالرمز الذي يتمثله اتاتورك الذي عد المؤسس الحقيقي لتركيا الحديثة .. ولم يزل الجيش التركي حاميا لكل المبادئ الستة التي ارساها الرجل ومشت تركيا عليها هذا العمر الطويل .. ولعل ” العلمنة ” هي من اهم الركائز التي دافع عنها النظام الكمالي الذي عادة ما يقوم بانقلاباته العسكرية ويعيد تركيا الى سياستها الكمالية ، ثم يعود مباشرة الى الثكنات على عكس الانقلابات العسكرية العربية التي كانت تحدث ضد الانظمة السياسية ويحتكر الضباط الاحرار الحكم عشرات السنين ثم امسوا يورثونه لابنائهم واحفادهم من بعدهم !!
تركيا اليوم منقسمة على نفسها بين العلمانيين والاسلاميين ولكل من الطرفين مساحته الجماهيرية وقوته السياسية .. ولكن بالرغم من الانقسام الذي نسمع عنه كثيرا ، فان الاسلاميين الاتراك ممثلين باربكان او باردوغان وغيرهما .. لا يمكنهم الابتعاد ابدا عن النهج الذي رسمه اتاتورك برغم كل التطورات السياسية التي حدثت في دول الشرق الاوسط قاطبة ! ويبدو ان الثوابت القديمة التي رسّخها النظام السياسي اقوى من كل المتغيرات الجديدة التي اصابت المنطقة كلها منذ العام 1979 اي منذ استشراء المد الديني الذي زرعته ايران اثر سقوط النظام البهلوي فيها . ان الساسة الاتراك يدركون ادراكا حقيقيا ان اي تغّير في المعادلة السياسية التركية ستجعل بلادهم تمتد اليها الفوضى والتمردات والتجزؤات ، اذ يعلمون علم اليقين كم هناك من الغام مزروعة في قاع المجتمع التركي وخصوصا بين فسيفسائه من الاعراق والقوميات .. وهذا ما لم ينتبه اليه العديد من القادة والساسة العرب الذين لم يدركوا معنى الحفاظ على الثوابت الوطنية ازاء اعجابهم بالمتغيرات السياسية فانجرفت عدة بلدان عربية في ثورات وتيارات وايديولوجيات قدّمتها على النزعات الوطنية فخسر العرب كثيرا ومنذ خمسين سنة وحتى الان .
لقد أعلن عبد الله غول وهو واحد من ابرز القيادات الاسلامية التركية انسحابه من سباق انتخابات الرئاسة التركية بعد أن أخفق حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي اليه في الحصول على النصاب القانوني في البرلمان التركي ، وهذا مبدأ احترم فيه الرجل ارادة البرلمان بعد ان دخلت تركيا في أزمة سياسية اثر موجة من احتجاجات العلمانيين الذين طالبوا فيها بسحب ترشيح عبد الله غول ، وثمة مخاوف في الجيش قد نضجت ازاء فرصة تولي احد قياديي حزب اسلامي للرئاسة وللقيادة العليا للجيش. وأصدرت المؤسسة العسكرية ـ كالعادة ـ تذكيرا علنيا للجمهور بأنها المدافع الاوحد على الدولة العلمانية التركية ، وكان الجيش قد اطاح بأربع حكومات مدنية خلال خمسين عاما في دولة تأمل الآن في الانضمام لعضوية الاتحاد الاوروبي.
لقد فشل حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الاسلامية في تأمين حضور 367 عضوا في البرلمان ليتسنى اجراء تصويت على انتخاب عبد الله غول للرئاسة. وكان الرجل هو المرشح الوحيد للمنصب. ولقد ألغت المحكمة الدستورية العليا بتركيا جولة التصويت الاولى وحكمت بأن ثلثي البرلمان أو 367 عضوا يجب أن يكونوا حاضرين حتى يكون التصويت صحيحا. وجاء قرار المحكمة ردا على طلب من حزب معارض. ونظمت الحكومة في اطار مقاومتها لخطوات المعارضة اعادة للتصويت مع الدعوة أيضا لاجراء انتخابات عامة مبكرة والدفع بتعديل دستوري يسمح لجمهور الناخبين بدلا من البرلمان بانتخاب الرئيس . حدث كل ذلك وسط تواصل التظاهرات الحاشدة للعلمانيين ضد الاسلاميين.
لقد تظاهر العلمانيون الاتراك بكثافة في انقرة واسطنبول وعدد من مدن غرب البلاد للتاكيد على التمسك بمبدأ العلمانية . ان الضجة التي احدثها العلمانيون في تركيا ضد وصول قيادي وناشط اسلامي تركي لهذا المنصب لها مبررات عدة ، خصوصا وانها تحدث لأول مرة علما بأن هذا ” المنصب ” هو رمزي ، في حين ان منصب رئيس الوزراء هو المنصب الفاعل لسدة الحكم ويتقلده طيب رجب اردوغان احد قياديي حزب العدالة والتنمية !
فما سر هذه المعارضة ؟ اعتقد أن رئاسة الدولة التركية تعني شرعية تاريخية لحماية ليس العلمانية فحسب ، بل لحماية الثوابت الكمالية الستة التي قامت عليها دعائم الدولة ، وان رئيس الدولة سيكون الرمز التركي الذي سيقف على رأس السلطات وسيكون القائد العام للجيش التركي ، فلا يمكن لجنرالات تركيا الكماليين الخضوع لارادة حزب ديني ، وان المعادلة في الدفاع عن رموز وحماية مبادئ قديمة من رموز جديدة ، يمثُل ميزة تركيا منذ سقوط الدولة العثمانية . واعتقد ان الجمهورية التركية بنظامها الكمالي ستبقى تعيش ضمن هذا الاطار لزمن قادم .. اذ يعتقد العلمانيون الاتراك ان تحّول تركيا الى نظام ديني معناه سقوط ثوابتها ومن ثمّ انهيار تركيا .. وهذا ما لا يمكن تخيله عندهم والجيش في مقدمتهم ،ولم تنفع مطالبات الاسلاميين باصلاحات دستورية تقضي باجراء انتخاب رئيس الدولة بالاقتراع المباشر من قبل الشعب ، اذ يدرك العلمانيون خطورة ذلك على مستقبل تركيا .
لقد اطاح الجيش التركي بأربع حكومات خلال 50 عاما. سيقوم اردوغان رئيس للوزراء ويتمتع حزبه بأغلبية في البرلمان بتحّد غير مسبوق مقدّما موعد الانتخابات العامة بأكثر من ثلاثة أشهر عن موعدها الاصلي ، مع جهود باقتراح تعديل دستوري يحظى بتأييد شعبي. لكنه سيواجه تحديات قانونية وتحديات عسكرية اكبر منه ، اذ سيزيد غضب القوات المسلحة والنخبة العلمانية… وان تمادى اردوغان ، فسيكون للجيش دوره في حسم الامور كالعادة .. واننا بانتظار ما ستسفر عنه النتائج .
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 16 مايو 2007
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …