نعم، لا يمكن نكران ما أصاب الثقافة من تشوهّات غاية في البشاعة والخطورة بفعل الفضائيات المرئية وشبكة الانترنت بمواقعها العربية. إن حصيلتها المأساوية اليوم ليست في منتجاتها، بل حتى الخلل في السلوكيات الاجتماعية، ثمة قيم ثقافية مفتقدة اليوم لدى أوساط متنوعة من المثقفين، ولا استطيع أن احدد هذا الجانب لوحده في بلد دون البلد الآخر، فلكل بيئة عربية ظروفها وتعقيداتها، فضلاً عن الحاجة الماسة لكل وسائل الإعلام الحديثة وربما نلحظ تأثر بيئاتنا العربية بانتكاسات أصابت نسيج ثقافة المجتمعات ضمن مسميات وشعارات وأهداف لا تمت للحياة المدنية ولا للإمكانات الإبداعية بصلة.
إن حجم هذه الكارثة لم نجده إلا في العالمين العربي والإسلامي! فلقد استطاعت المجتمعات الأخرى أن توظف كل الإمكانات والمجالات الحيوية الإعلامية المرئية والمعلوماتية في اغلبها لصالح اتصالاتها ونمو ضروراتها وقوة حاجاتها وإبداع ثقافاتها، في حين إذا تأملنا قليلا في كيفية توظيف مجتمعاتنا ومؤسساتنا الإعلامية للوسائل الحديثة المتطورة الميدية خصوصا كونها تدخل كل مكان، لوجدنا أنها لم توظف إلا وقتا هزيلا لضرورات المجتمع الحقيقية، بل وغدت الفضائيات العربية معولا كاسحا للثقافة العربية، وميدانا للتهريج السياسي بوجه خاص! ووسيلة لهو ونشر خرافات وأكاذيب!
ولعل ما يثير الأسى في وضعية الثقافات في منطقتنا انصياعها إزاء الانقسامات السياسية، بل واستبدال الولاءات وتبدد الهوية الثقافية إلى مجموعة هويات لا قيمة لها، فانزلقت الثقافة العربية ـ مثلاً ـ إلى أدران الانغلاقات، وبدل أن تكون حرة ومعّبرة ومسؤولة على تحديث الحياة وتجديد المجتمع وتنمية التفكير وإبداع الثقافة، أصبحت سدا منيعا إزاء ذلك، لقد أصبح الإعلام العربي ملتبسا بالشعارات بل ومتلبسا بألبسة التهييج والإثارة ووسيلة للانقسامات الاجتماعية في حلقته المريبة.
لقد كانت الثقافة لها شخصيتها القادرة على فرض نفسها في القرن العشرين، ولكنها اليوم غدت رهينة معتقدات ومؤدلجات وأجندات لا أول لها ولا آخر، وأصبح الإعلام بكل وسائله هو المهيمن على كل معطياتها وسلوكياتها، المشكلة اليوم انك تجد هيمنة الإيديولوجي أو الطائفي أو الشوفيني أو الجهوي على الثقافي والمعرفي وحتى الفكري والفلسفي.
ولقد بقي الأصفياء من المثقفين الحقيقيين يقاومون هجمة الإعلاميات بكل ما فيها من المد الإيديولوجي سابقا أو المد الطائفي لاحقا، ولكن هناك من بدأ يتخندق في طرف إزاء الطرف الآخر نتيجة ثقل المعاناة التي أفرزتها الظروف الصعبة، ولقد مر المثقف في عصور مختلفة بهكذا أحوال، وعانى منها ومن ثم عاد إلى حاضنته الحقيقية.
إن سلوكيات طارئة تفّشت على السطح، لقد كانت مختفية تحت الرماد ولكنها غير معلنة بفعل هشاشة الأوضاع التربوية والعلمية في المدارس والجامعات إبان نصف قرن مضى، ربما للمثقف الحق في أن يتحرر من قبضة سجن الماضي وسجانه، ولكنه أصبح للأسف الشديد، مزيفا ماهرا للحقائق وهو يدرك كم هو حجم الحقيقة وكم هو حجم الخبايا!!
أصبح لا يقف مع الحقيقة، لأنه يجهل المعلومة، فالحقيقة مغيبة وانه لا يميط اللثام عن الأخطاء حتى الإملائية التي تمارسها شبكة عنكبوتية من المواقع الالكترونية والتي غدت ميدانا لكل من هبّ ودبّ للتنطع وتوزيع السذاجات.
ومن حق أي إنسان إبداء رأيه شريطة رجاحة ذلك الرأي وحرص صاحبه على مزايا مفتقدة والمشكلة انه لا يهتم لافتقادها، أصبح يتكلم بأنفاس عدائية إذا أثيرت مشاعره المتنوعة، خصوصا وان واقعه المضني قتل فيه كل الأحاسيس والرقة واغتيلت عنده أساليب المحادثة والمجالسة واللياقة، بدأ أي إنسان يستخدم الإعلاميات استخداما عشوائيا كي يتأثر كل المجتمع وبسرعة مباغتة بثقافة هزيلة يحملها هذا على حساب تغييب ثقافة راقية يحملها ذاك!
لقد تابعت قبل يومين لقاء مع احد ابرز علماء الدين المعروفين في فضائية شهيرة، وقد سئل عن رجال مثقفين متخصصين ومؤلفين كان لهم وزنهم قبل عشرات السنين، كان السؤال سؤالا عابرا، فما كان من فضيلة الشيخ إلا واخذ يسبهم ويشتمهم ويصب عليهم كل البذاءات بسبب وجهات نظرهم وآرائهم التي لا تعجبه أو لا تتفق وتفكيره ومزاجه! ولم يقتصر الأمر على فضيلته بل شاركه مهرجان القذف والسب المتصلون عبر أجهزة التلفون والموبايل، التي لم يصنعها مبدعوها لهذه الأغراض!
لم اشهد في أي ثقافة من الثقافات التي خبرتها مثل هذا الذي غدت عليه ثقافتنا، فالتفكير النسبي لم يعد موجودا أبدا، والمطلقات تتحكم بالعقول، وقد أصبح الإقصاء عنوانا لثقافات المنطقة، وغدت الثقافة العربية ـ مثلا ـ تكره نفسها على أيدي أبنائها الذين لا يعرفون منها إلا تسميتها، كانت لدينا ثقافة النقد والجدل والحوار والمساجلات والمنازلات والمعارضات والنقائض والموازين والتدقيق والتحقيق والمقاربات والمقارنات والعلل والمعلولات وروائع السير والروايات والمذكرات والأمثال وأدب الرحلات والخواطر.. الخ.
وغدت لدينا المهاترات والايميلات والشعارات والمفذلكات والمفبركات واستعراض العضلات والخطب التلفزيونية والمكررات وهزيل المقالات السياسية وسرقة النصوص والمواعظ والمشاجرات والكتابات الإنشائية والاتجاهات المعاكسة واللغو والهذيانات الصحافية.. الخ.
هل نظرنا نظرة موضوعية إلى أوضاع ثقافتنا اليوم لنسأل أنفسنا سؤالا واحدا: لماذا كانت مصر في الخمسينات من القرن العشرين تعج بالعشرات من امهر الفنانين وأقوى المثقفين وأروع المبدعين ولم يتجاوز عدد سكانها عهد ذاك على عشرين مليونا، وماذا حل بمصر اليوم عندما انكفأت في كل الميادين وندر منها أروع المبدعين وتعداد سكانها اليوم قرابة الثمانين مليون نسمة؟؟
ألا يستدعي منّا هذا «الموضوع» أن نعيره بعض التفكير؟ الم يدفعنا هذا كله إلى البحث عن مقومات جديدة ومشروعات عليا لتطوير وسائل الميديا الحديثة كالفضائيات والالكترونيات؟ أليس حريا بنا أن نقوم بتغيير شامل لكل ما يلقى على الناس ليل نهار؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الأماراتية 25/4/2007
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …