لكّل أمة من الأمم الحية عدد من أصحاب الفكر والرأي الذين تعترف الدولة بمكانتهم بعد أن تزكيهم مجتمعاتهم من خلال أعمالهم وأنشطتهم وفعالياتهم الفكرية وتآليفهم المتمّيزة ناهيكم عن قوة حجتّهم ، ونفاذ رأيهم ، ورجاحة موقفهم ، ونظافة سيرتهم ، وعمق ثقافتهم وبعدهم عن أي تحّيز لهم لأي جهة طائفية أو طرف عرقي أو جماعة أو جهوية معينة في المجتمع أو الدولة .. والأمر لا ينحصر بنخبة أكاديمية أو جماعة إعلامية أو عصبة سياسية أو مجموعة ثقافية .. فالتمايز ـ على حد تعبير كارل مانهايم ـ بين المفكريّن هو الأساس في تحديد سمة النشطاء منهم في تكوين مستقبل الجماعات والشعوب ، كما وان الاعتماد على الاكفّاء هو الذي يصنع المستقبل .
إنني لا اقصد نفر محدّد من المختصين العاديين .. بل اعني بالذات : قادة فكر ورواد تفكير وواضعي خطط وراسمي برامج وصنّاع أفكار ناضجة تمكنهم وتميّزهم في بلورة دورهم الحيوي الفعال في الحياة العامة ؟ لو أحصينا كم من المفكرين العرب الممتازين والجادين والمبدعين من الذين تمّ إقصاءهم أو تهميشهم أو تهجيرهم .. لقلنا بأن الحياة العربية المعاصرة هي من أسوأ بيئات العالم في صنع مستقبلها . ولو فحصنا من يعّشش في أروقة الجامعات والمعاهد العربية من أناس خاملين متكلسين لا يفقهون من المعرفة المعاصرة أي شيء لبكي هذا العالم على حالنا !
لا اعتقد أبدا أن للمفكرين العرب اليوم أي دور فاعل في تشكيل أي توجهات لصنّاع القرار السياسي أو التحديث الاجتماعي في الأوطان العربية باستثناء بلد أو بلدين اثنين فقط .. ربما كان هناك بعض من الناس قد عدّوا أنفسهم مستشارين لزعماء أو قيادات أو سلطات معينة ، ولكن غالبية من نجدهم يتوزعون هنا وهناك في الارض العربية ، لم تجد نفسها بعد في مثل هذا السياق ! إنني اعتقد اعتقادا جازما أن المفكرين العرب بالرغم من كثرة عددهم ، بسبب من اختلاط شأنهم ، اذ لم تحدّد الثقافة العربية حتى الان من يستحق مثل هذا ” اللقب ” حقيقة لا دعاية وتفاعلا لا استعراضا..
ان ما ينتج اليوم من قبلهم يمكن أن يشكّل قوة دافعة لا ضاغطة ، فاغلبهم يتمتعون بقدرة فائقة في كتابة انشائيات وخطابات وإلقاء مواعظ ووجهات نظر ولكن يندر من يستخدم المعلومة ويحللها ويستخلص منها أي استنتاج أو رأي محدد ! وهم في غالبيتهم غير حياديين ولا موضوعيين ، بل ينطلقون من مرجعيات سياسية او تاريخية محددة ، كما أن اغلبهم لا يتمتعون بأي واقعية في معالجة قضاياهم ديماغوجيون.وطوباويون وخياليون يتوهمون الأوهام حقائق ويجعلون الأساطير والخرافات مرتكزات يعولون عليها في معالجة أوضاع اليوم ، وهم يعبّرون عن وضعية مجتمع لا يريدون تغييره نحو الأفضل وتخليصه من آثام الماضي وموبقات انقساماته ، بل وان بعضا منهم له انتماءاته حتى يومنا هذا إلى تلك الملل والنحل الماضوية !
ان صناعة القرار السياسي أو رسم الخطط الاجتماعية في الأوطان العربية بشكل عام لا يتمتعان بأي مرجعية فكرية تمّكن القائد السياسي الاطمئنان لرأي مفكّر معّين أو عدد من المفكرين .. باستثناء تجربة واحدة أو تجربتين عربيتين ، إذ نلحظ أن تهميشا يصيب البعض من امهر المفكرين العرب وأكثرهم حرفية وتضلعا ، وهذا يندر حصوله في بيئات سلطوية لا يطمئن فيها صانع القرار إلى صنّاع الفكر . أما من جانب آخر ، فليس هناك أي برامج ولا أي خطط لدراسة مستقبليات المشكلات العربية ، كما لا يوجد أي إنفاقات بحثية وعلمية مقارنة ببرامج وخطط ينتجها مختصون ومفكرون وعلماء في بلدان العالم الأخرى .
أما عن كيفية تأثّر النخب العربية المفكّرة بالفكر العالمي ، فالأمر يكاد يكون معدوما ، إلا لدى ذاك البعض من المغتربين . إن العملية لا يمكنني أن أسميها بتأثر وتأثير لأن العلاقة أو الرابطة التي تربط الاثنين تكاد تكون مقطوعة أو غير موجودة أساسا ، فليست هناك أي فرص حقيقية للحوار والأخذ والرد كما هو الحال بين نخب الفكر في العالم . إن ندرة من المفكرين العرب من لهم علاقات متبادلة مع المفكرين الدوليين ، وهناك من اعترض على صيغة السؤال الذي وصف نخبة المفكرين العرب بـ ” صناع الأفكار العرب ” . اذ كان الجواب بأن هؤلاء لم يصنعوا أفكارا ، إنهم يكتبون مجرد آراء وكتابات عادية واغلبهم يتطّفل احدهم على الآخر في تقديم الأفكار واجترارها .
وإذا تتبعنا أصل تلك ” الأفكار ” فسوف لن نجد مرجعيتها عربية ، بل أنها موجودة لدى الآخرين .. وأنها ترجمت وبدأت تلوكها الألسن في محيطنا بعد أن يكون العالم المعاصر قد تجاوزها إلى فكر جديد ! ثمة ثلة صغيرة من المفكرين العرب الجادين والممتازين الذين يمكنهم أن يصوّبوا الأفكار ويحللوا النظريات وينتقدوا الآخر .. ولكن هؤلاء لا يجدون فرصتهم في التقدم لا من الناحية المعنوية ولا الإعلامية ولا من الناحية الفكرية ولا السياسية ، بل تكاد أوضاعهم المادية تكون صعبة للغاية وبالأخص من يبقى مستقلا ، إذ لم يلقوا أي دعم لا من الدولة ولا من المجتمع ، بل ويصل الأمر إلى تسفيه أفكارهم وتحريم رؤاهم .. فالمجتمع العربي تمتلكه سلطات قوية جدا لا تمكّن أي مفكّر عربي من التعبير الحر وقول ما يريده بشكل حيادي وموضوعي ! إن الأزمة ليست أزمة صناعة قادة ، بل أن ألازمة تكمن في واقع مليء بالمخاوف والتناقضات والأضداد .. وآخر ما يمكنني ملاحظته أن بعضا من المفكرين العرب في الغرب له كلمته المسموعة وان أفكاره تدّرس وان مقالاته تترجم وان محاضراته تسمع .. فأين نحن العرب من هذا العالم ؟
www.sayyaraljamil.com
24 /1/2007 ، البيان
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …