تبدو منطقتنا العربية في مشهد مأساوي جدا .. يشعر الإنسان إزاءه بمزيج من الإحباط والتوتر والإخفاق وتبدو الأمور مختلطة إلى الدرجة التي لم يعد الجو يساعد على أن تضع الحياة الطبيعية ركائزها .. قلت في ورقة علمية القيتها في مؤتمر تأسيسي عن ” مفهوم العولمة “ ونشرت في يونيو 1994 : ” بأن ثمة عوامل داخلية خطيرة تواجهنا كعرب ومعنا ابناء كل المنطقة لعشر سنوات قادمة ، وعلينا بحسمها قبل أن تتسّع ضدنا التهديدات الخارجية .. إقليميا ودوليا ، وقبل ان تبدأ مجتمعاتنا بالتفكك بتأثير التصادم الديني السياسي .. ” . نعم ، لقد ازدادت اليوم المشكلات الاثنية والطائفية والاقلياتية والاقتصادية والتربوية والثقافية ، فانعكس ذلك على المجتمع انعكاسا مباشرا وتبلورت ظاهرة الإرهاب المقيتة ، وتفاقم أمرها بفعل دعم وتشجيع جماعات تتلبّس الدين وكلها تعصّبات واحقاد ليس على الدول والسلطات بل على النخب والمجتمعات ! إن ما يحل في منطقتنا من انقسامات سياسية ستقود بالضرورة إلى تفكّكات اجتماعية ، كالذي يحدث في العراق .. وإذا تحققّت هذه المصيبة وهّبت العاصفة ، فالمأساة قادمة لا محالة . ويتصدر المشكلات تصادم الأحزاب والجماعات الدينية بالأحزاب والقوى السياسية ، خصوصا إذا ما تبوأت الأحزاب الدينية السلطة .. كما هو الحال في العراق وفلسطين .. ولم تنفع أية مصالحات ولا أي اتفاقات ، لأن ليس من لغة مشتركة بين الاثنين !
إن الأمور اليوم ليست متداخلة حسب ، بل مخترقة من قبل دول أخرى إقليمية وخارجية مستفيدة بشكل نجحت فيه بإثارة وتفجير التناقضات ، سواء في العراق أم في لبنان أم في فلسطين .. النار مستعرة في العراق إلى الدرجة التي لا اعتقد أن مؤتمر المصالحة الذي تبودلت فيه الخطابات وتشكّلت فيه اللجان بقصر المؤتمرات ببغداد قبل ثلاثة أيام سيصل إلى نتائج حاسمة ، فالأمر خطير جدا في العراق ، إذ يتعّرض يوميا لهّزات قوية تسحق الإنسان وتشرذم المجتمع وتقتل المصير !!
واللاعبون فيه أصناف تختلف درجة قوتهم من مكان إلى آخر ومن زمان إلى زمان .. وتتمثّل المشكلة الأساسية بتفاقم المخاطر يوما بعد آخر من دون أي علاج حاسم وجذري .. وسننتظر ما الذي سيفعله الرئيس بوش في يناير القادم 2007 بشأن ” الإستراتيجية” التي أعلن عنها ، وهل سيوّظف بعض توصيات تقرير جيمس بيكر ـ هاملتون أم لا ؟ هل ستنفع إستراتيجيته الأمريكية الشأن العراقي الذي يسحب معه جملة مشكلات خطيرة .. وسواء انطلقت إستراتيجية بوش الجديدة أم لم تنطلق .. فان الانقسامات المذهلة التي يعيشها العراق وحالات التردي في كل مجتمعه قاطبة ستنقله إلى مرحلة عاصفة مليئة بالصعوبات .. وهذا ما يستلزم الاهتمام به والدفع بالتي هي أحسن خشية الأسوأ بين أبناء البلد الواحد ..
أما المشهد اللبناني ، فهو من نوع آخر ، إذ ينقسم على طريقته وليس على الطريقة العراقية ، ولكن ثمة مخاطر سيتعّرض لبنان لها لا تتوقف على سلسلة التفجيرات .. بل اعتقد ان لها ثمة إرهاصات ودواع وأسباب ، ولكن ثمة توابع ومعقبات وعواصف على الطريقة العراقية ستأتي بغتة .. وثمة حراك سياسي يقبض على الزناد دوما ولا يجعلها تتفجر فجأة ، ولكنها سوف لن تنتهي بغتة . ثمة ما يدفع باتجاه افتراق طرق تغذيه جهات خارجية بشكل مفضوح . واعتقد أن الصورة التي شهدناها بكل فخر في دفاع لبنان عن ترابه أمام إسرائيل ستبدو على غير حالتها بفعل تفاقم الصراع السياسي الذي انتقل مع التصريحات الصارخة وتبادل الاتهامات إلى الاعتصامات في الشوارع والحرب الكلامية بين الفرقاء .. والخوف هنا على المجتمع اذ تعلمنا تجارب لبنان التاريخية ما الذي فعلته العواصف الخارجية فيه على امتداد أربعة قرون !
السؤال : هل يمكن أن تتبلور إرادة من نوع جديد يتنازل كل من الطرفين عن أجندتهما ؟ إن الإصرار من كلا الجانبين على تنفيذ ما يريد سيمزق الوحدة الوطنية اللبنانية لا سمح الله ! لقد مرت الحرب الأهلية اللبنانية بكل عنفوانها وتقاليد لبنان الليبرالية راسخة لم تتزعزع .. اليوم أجدها تعصف بها الرياح المجنونة ، وتتعّرض الى هزّات ليست هّينة ابدا . سيبدأ لبنان قريبا منطلق تاريخ جديد يختلف عما ألفه منذ أزمان ! إنني أهيب بالأخوة اللبنانيين ان يعوا حجم المخاطر التي تهدّد شرعية البلاد كلها .. وان هناك من يريد سحق المجتمع وأن يبقيه ساحة للصراع الداخلي هذه المرة ..
أما المشهد الفلسطيني فيبدو هو الآخر يرسم أخطاء لا تعد ولا تحصى .. وثمة انقسام سياسي بين طرفين لا يتلاقيان ، طرف له تجاربه وخبراته وكل ألاعيبه السياسية وطرف آخر على النقيض منه لا يمتلك الخبرة ويتوّهم الأخيلة حقائق وله الشعارات والمبادئ .. لقد كان لحماس قدرتها ودورها وفاعليتها وهي في المعارضة ، ومذ وصلت السلطة ، فقدت كل أوراقها ولم تعد تمتلك الأداة والوسيلة وهي في الحكم لتؤمن مستلزمات شعب فلسطين .. ومنذ اللحظة الأولى لتسلمها السلطة افترقت عن مسارها الأول ، وتخّلى عنها الفرقاء ، ومع مضي الأيام ، حّل الانقسام السياسي الذي سيّجر من ورائه انقساما اجتماعيا في مرحلة تعزّز خلالها إسرائيل قدراتها وأنشطتها وبناء خططها القادمة ..
إن الفلسطينيين ربما انقسموا سياسيا في السابق ، أما اليوم ، فان هناك تعبئة لدى الطرفين احدهما ضد الآخر .. ولا اعرف ما المواقف التي ستترتب إن جرت انتخابات تشريعية وحكومية للبلاد ؟؟ أهيب أيضا بالإخوة الفلسطينيين أن يصار إلى تفاهم مشترك في ما بينهم بعيدا عن أي انقسامات ! وأخيرا أقول بأن المنطقة كلها ستمّر بمصاعب عدة على مدى السنتين القادمتين ، ولا يمكن رسم منافذ خريطة لمن ستمتد إليه النار ، خصوصا وان مجتمعات عدة في عالمينا العربي والإسلامي تجلس على براميل من بارود .. وينبغي نزع فتيل أي عصف قاتل في كل مكان بفعل تأثيرات دولية وأجندة إقليمية تسعى لهذه الغاية !
www.sayyaraljamil.com
البيان ، 20 ديسمبر 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …