لعل أولى الإشارات التاريخية لمفهوم ” الشرق الأوسط ” قد تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية وعلى امتداد أكثر من نصف قرن .. وكان النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد نضجت فيه المسألة الشرقية ومفهوم ” الشرق الأدنى ” بشرقي أوروبا .. لقد فشلت مشروعات الشرق الأوسط سابقا بفعل قوة الدولة والمجتمع ، ولكنهما اليوم قد ضعفا مما أفصح عما اختزنته طويلا . ولكي يدرك العالم كله بأن منطقتنا واحدة من ابرز أقاليم الدنيا ، ليست هينة بل عصية جدا حتى وان كانت كلها في رعاية الغرب سابقا .. ولكن الأمر اليوم يختلف كثيرا ، ولقد فات هذا على صنّاع القرار من الأوربيين والأمريكيين في الماضي ، فهم اليوم يدركون تماما حجم ما تختزنه المنطقة من ترسّبات التاريخ ومن كل منطلقات العقائد ومن ثروات النفط الهائلة .. فضلا عن كونها المعبر الجاذب لكل من الشرق والغرب معا في جغرافية العالم الاقتصادية والحضارية . وعليه ، فمن البديهي أن تعيش المنطقة دوما تناقضات الماضي وصدامات الحاضر ومواجهات المستقبل .. إنها كانت ولم تزل تواجه تحديات صارمة وتدخلات خارجية سافرة .. ينتج عنها المزيد من الاضطرابات والكوارث .
واعتقد إن كانت التكوينات السياسية قوية فسوف تصمد أمام عواصف وأعاصير تهب على المنطقة من هنا وهناك والعكس يحصل لدى التكوينات الضعيفة .. ودوما نجد أن التدخلات الخارجية وراء إثارة الصراعات الداخلية . إن منطقتنا مقبلة على صراعات متنوعة لها مسببّات عدة في أماكن معينة وستحترق مناطق أخرى لم تكن قابلة للاشتعال في الماضي . إن جوهر معضلة منطقتنا اليوم أنها تمتلك المجال الحيوي الحقيقي في العالم. ولعّل الذي زاد من حدة التصادم ما روّج عن المسلمين وعالمهم الكبير والذي غدا يترصّده الغرب معتبرين إياه خصما حضاريا متصادما بفعل الافتراضات التي رّوج لها باسم ” تصادم الحضارات ” .. لقد مّر وقت قصير حتى غدت تلك الافتراضات حقيقة بفعل الأرضية المؤهلة ليس لذلك ” التصادم ” ، بل للصراعات الخارجية ..
لقد غدت المنطقة تنتقل من موديل لآخر نتيجة للتحولات الصعبة ، وتحّل فيها كل القسوة والآلام .. لقد مررنا بصفحات لا تعد ولا تحصى من الصراعات والتي يتفاقم حجمها يوما بعد آخر .. إن مرحلة الصراعات العربية كانت نتيجة للحرب الباردة في العالم بين الشرق والغرب ، وغدت اليوم قابلة مباشرة للاشتعال بفعل وسائل الإعلام المعولمة .. فالكتب والمحاضرات التي كان يلقيها أساتذة ومستشرقون وتتضمن أقسى الآراء ضدّنا .. كانت منحصرة في قاعات الدرس أو ردهات الجامعة أو رفوف المكتبات ! اليوم ، أصبح الخطاب مشاعا بسرعة خاطفة مما يعجّل بصنع شحنات مضادة متفجرة غضبا .. فما هي الصورة التي تمنحنا إياها الرؤية المستقبلية للمنطقة في ظل التفاعلات السريعة ؟ أقول بأن المنطقة كانت وستبقى تعيش سلسلة صراعات غاية في العنف :
صراعات الحقوق المستلبة من تراب أوطاننا وهي صراعات حدودية وإقليمية تاريخية موروثة في ظروف مختلفة ، وثمة صراعات قومية ثقافية تفّشت واستعرت في أكثر من مكان بمنطقتنا ، وهي الأكثر سخونة .. وهناك صراعات عرقية شوفينية بعد أن اندفعت الشعوب اندفاعات مستديمة لمزيد من التطرف القومي ، فطغى على المصالح الإقليمية والوطنية معا ، وتكاد تغيب الأوطان على حساب التماهي مع الأعراق المتصارعة سرا وعلنا .. وهناك صراعات داخلية متنوعة منتشرة .. إن منطقة الشرق الأوسط ستمزقها الأهواء والتعصّبات والتشنجات والصراعات على امتداد خمسين سنة بفعل تصادم المذاهب والطوائف والملل لتغدو المصالح بيد الآخر .. وكلنا لن ينسى ما كان يحاك من مؤامرات في عواصم ضد أخرى ! ولقد استغل العالم الخارجي مثل هذه الهشاشة وتلك ليكرس المزيد من التهديدات والتدخلات .
إن صراعات الشرق الأوسط الإقليمية والتي تزدحم بالمشكلات الإقليمية والحدودية والبحرية والسكانية والمذهبية والاقتصادية أجدها نتاج تاريخ عقيم من العلاقات والرؤى والأحداث .. إنني أرى بأن الانقسام اليوم في بداياته كما يبدو .. وخوفنا من أن يتحّول إلى صراع خطير تتمحور حول ثنائيته دول هنا ودول هناك بفعل تباين استراتيجياتها وسياساتها الخارجية ! فان الحاجة تدعو اليوم لتأسيس مبادئ جديدة وتحالفات قوية وإرجاع الحقوق إلى أهلها ..
لقد تفّشت الصراعات اليوم في بعض دول منطقتنا على مستوى الأحزاب السياسية والدينية معا ، فغدا لكّل منها ميليشيات ومرتزقة واوليغاريات عسكرية طاغية تخشى منها حكومات ودول ، إذ أن لها نفوذها في المجتمع وهي نتاج الحروب الحدودية والأهلية والإقليمية في بلدان معينة ! ومع تفاقم المخاطر ، نجد أن الصراعات الطائفية هي من اخطر ما تعيشه بعض مجتمعاتنا بحيث حّلت الانقسامات والتخندقات محل التوحدات الوطنية والسياسية فغدت مجتمعاتنا عرضة للاضمحلال الوطني على حساب التماهي مع الطائفية التي ستهدد مجتمعاتنا بالكامل وتزيد من إشعال الحروب الأهلية .. وخصوصا في مجتمعات مختلطة بالطوائف والملل والنحل.. إن صورة العراق المأساوية خير دليل على ما يكتنف منطقتنا اليوم من صراعات والتي نتمنى أن تذهب والى الأبد !
وأخيرا ، ثمة صراعات مختلطة جراء تفاقم ظاهرة الإرهاب الذي مرّ بمراحل خطيرة جدا وصولا إلى الحد من الحريات الشخصية وفرض الأقلية نفسها وصّيا على كل المجتمع والدولة والأعمال الأدبية وقتل الأفكار .. ومرورا بمشروع اغتيال الإبداع وانتهاء بهمجية قطع للرؤوس وتفخيخ للسيارات في قلب المدن العربية . إن هكذا منطقة تعّج بالتناقضات الساخنة لا تصلح أن تغدو مشروعا لأي طرف إقليمي أو دولي .. إذ لابد أن تمتلك إرادتها وتتخلّص من كل مشكلاتها وتعقيداتها . فهل سيحدث ذلك عمّا قريب ؟ إنني اشك في ذلك !
البيان الإماراتية ، 27 سبتمبر 2006
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …