تاريخ العراق المعاصر: ملاحظات نقدية… هل من فهم المضامين من اجل تكوين جديد ؟

لم يدهشني ابدا عدم معرفة أحد ابناء الجيل العراقي الجديد باسم فاضل الجمالي ابدا .. لأن هناك ما هو اهم منه لا يدركه اليوم ابرز المثقفين والمسؤولين العراقيين وخصوصا تلك العوامل التي تحكمت في صياغة معاصرتنا العراقية التي عايشتها اجيالنا الثلاثة الاخيرة ابتداء من احتلال الجيش البريطاني للعراق بين 1914-1918، وحتى احتلال جيوش الحلفاء له في العام 2003 .. لم يكن هناك في بدايات القرن العشرين اي كيان سياسي واقتصادي يضم الولايات الثلاث : الموصل وبغداد والبصرة إلى بعضها على الرغم من أن اسم العراق كان متداولا منذ القدم ، وأطلق على منطقة وادي الرافدين Mesopotamia بالتحديد منذ فجر التاريخ ، ولكن الشيء الأساسي الذي برز بعد انقلاب الاتحاد والترقي العثماني عام 1908 ضد السلطان عبد الحميد الثاني والذي بواسطته فرضت عليه سياسة الإصلاح القومية لكنها في الوقت نفسه حفزت على نمو المشاعر القومية لدى الأقاليم العربية وبدأت الحياة السياسية من خلال التنظيمات والجمعيات ومن ثمّ الاحزاب .. وكان المجتمع العراقي في ذلك الوقت مجرد شظايا متفرقة تجمعه مدن عريقة تغلق ابوابها ليلا وسكان عشائر في بلدات وقرى منسحقة تخشى من كل النوائب والاقدار الغادرة !
ركائز التاريخ العراقي المعاصر
فات على العديد من المؤرخين العراقيين والاجانب فهم مجموعة من العوامل الأساسية التي تحكمت في سيرورة التاريخ المعاصر للعراق والتي يمكنني تحديدها بثلاثة مرتكزات اساسية لابد ان يدركها كل العراقيين :
اولاها : قوة الموروث الاجتماعي
هذه التي نجح في توظيفها الساسة من العراقيين الاذكياء القدماء وفشل فيها الاغبياء من الساسة القوميين والمحدثين العراقيين . انني اعني بقوة الموروث الاجتماعي أيضا أن الناس في العراق تقف مع هذا الحاكم أو ذاك المسؤول لا انطلاقا من برنامجه السياسي أو اعجابا بأي طبقة يمثلها حزبه او امتداده بل قد تدخل جغرافيته عاملا أو مذهبة وطائفته وانتمائه عوامل اخرى مؤثرة تأثيرا بالغا حتى وان كان مسكوتا عنه . وعليه ، فان نظام تاريخ العراق منذ تأسيسه عام 1921 وحتى 1963 كان يؤمن هذا العامل بشكل خفي اذا ما تدارسنا مرجعيات وامتدادات رؤساء الحكومات والوزراء والمتصرفين وكل المسؤولين الاداريين وحتى القضاة العراقيين .. الخ وفقا لهذا المبدأ الذي يستند في تحليله الى موضوع الارث الجغرافي والاجتماعي وتأمينه لضمان الولاءات من دون استئثار الأخيرة بالسلطة حتى وان كان النظام السياسي علمانيا ، ولم يبدأ الغباء السياسي وبلادة صنع التاريخ الا مع العام 1963 ومجيء القوميين لحكم العراق الذي لم يفهموه ابدا ولم يدركوا قيمة مواريثه الاجتماعية ومؤثراته الجغرافية وتفاعلاتهما السياسية ! مع ذلك ما يدهشني حقا أن المسار السياسي في العراق حتى في بدايات تشكيل الدولة العراقية كان متجاوزا لهذا التشديد المبالغ فيه، فنوري السعيد بحزبه ” الاتحاد الدستوري” كان يكتسب قوته بالدرجة الأولى من شيوخ عشائر الجنوب، في الوقت الذي نجد أن جماعة الأهالي الليبرالية التي ضمت وجوها شيعية بارزة مثل جعفر أبو التمن كانت تقف إلى جانب بكر صدقي ذي الأصول الكردية وذي النهج الكمالي العلماني ، لكنه المناصر لمبدأ العراق أولا بل ان الوزارة الأولى التي شكلها حكمت سليمان في فترة عهد عسكريتالية بكر صدقي عام 1936 كانت تضم عددا كبيرا من جماعة الأهالي التي تضم عددا كبيرا من الشيعة . كذلك هي الحال مع وصول الدكتور فاضل الجمالي في بداية الأربعينات إلى منصب مدير التعليم العام ليحل محل التربوي العتيق ساطع الحصري فيطبق سياسة معاكسة لسياسة الأخير مبنية على اللامركزية والعلمنة العراقية متجاوزة طابع الحصري المستند إلى رؤية طوباوية قومية مستغلة لا همّ عراقي لها الا ارضاء عواطف الفاشيين القدماء . وبفضل اسلوب فاضل الجمالي اتسع التعليم وبدأت الكوادر التعليمية الوطنية العراقية تحل محل العناصر القومية العربية. وهكذا ، علينا ان نراقب من خلال المقارنة التاريخية مواريث شخصيات عراقية قوية اخرى امثال : عبد المحسن السعدون ومحمد الصدر وصالح جبر وعبد الوهاب مرجان وصولا الى بابا علي وطلعت الشيباني ومحمد حديد وغيرهم . من جانب آخر ، لابد من القول ان بعد اشهر من اليوم ، ستمر ذكرى مرور خمسين سنة بالضبط على اهم احصاء سكاني اجرى في العراق والذي اعتمد عليه اعتمادا كبيرا ، ذلك هو احصاء 1957 الذي جرى قبل القضاء على العهد الملكي عام 1958 .. انه الاحصاء الحقيقي الذي يثبت حقيقة الهوية المكانية لكل العراقيين على الاطلاق سواء في العاصمة ام في كل المدن والاقضية والنواحي والقرى ، وكم اتمنى على العراقيين قاطبة ان يجعلونه مرجعية حقيقية في حل كل مشكلات اليوم والمستقبل .
ثانيهما : النفط والمحسوبيات
لقد عزز النفط منذ فترة مبكرة الشعور لأي فئة تحلم بتسلم السلطة في العراق اذ ان هذا الريع الطبيعي الجاهز سيمكنها من إقامة نظام سياسي يستند إلى المحسوبية ومن خلال التفضل على مجموعات ودوائر معينة من المجتمع على أساس المنطقة أو الانتماء العشائري أو غيره، فإنه سيتم ضمان موالاتها للحكام. وفي رصد المؤرخ الجاد لدور النفط في حركة السياسات التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة في علاقتها مع شركات النفط الغربية ، خصوصا شركة نفط العراق البريطانية ، توضح لنا قدرة العراقيين في النجاح والفشل سياسيا من خلال هذا العامل الخطير الذي لم نشهد تبلوره وحصوله في دول عربية بترولية اخرى بفعل وجود محسوبيات من نوع آخر. ان تاريخ العراق الاقتصادي المعاصر مليئ جدا بالثغرات والاخطاء بفعل التدخلات السياسية ( والسلطوية بالذات ) في سيرورة التطور الاقتصادي للعراق ، ولا يمكننا ان نفصل في العراق ابدا بين سياساته وبين مسألة النفط . لقد كانت تلك السياسات مشروعات مخربة للسكان وحركتهم الاجتماعية وللارض ومنتجاتها الزراعية .. بل وكان النفط احد ابرز الصراعات الداخلية والاقليمية والخارجية .. لقد كان النفط العراقي احد ابرز العوامل التاريخية التي اودت بحياة العراق من كل النواحي .. واستطيع القول بأن ثروات العراق المعاصرة قد استفاد منها الاقليم المحيط بالعراق اكثر من استفادة العراقيين منها انفسهم ! لقد كان للقادة العراقيين دورهم في الصراع بالمفاوضات المضنية من اجل جعل ثروات العراق النفطية عراقية وطنية بدءا بقانون مناصفة الارباح الذي تعب من اجله نوري السعيد عام 1952 وعلى اساسه واصل الزعيم عبد الكريم قاسم مفاوضاته لاصدار قانون رقم 80 ، ثم انتهى الامر بالتأميم الذي اطلقه احمد حسن البكر .. ويرى بعض المحللين الاقتصاديين العراقيين بأن تلك الخطوات التاريخية لم يكن لها أي نفع كونها كانت سببا لدخول العراق دوامة من الحروب مقارنة بدول نفطية عربية استطاعت ان تطور علاقاتها مع الشركات الاجنبية باستحداث شركات وطنية .. وان العراق لم ينجح في رصد 75 بالمائة من ايراداته النفطية لمجلس الاعمار اّلا في السنوات التي سبقت سقوط الملكية في العراق .. وبالرغم من الغاء النظام الجمهوري لذلك المجلس الرائع ، الا ان العهود الجمهورية قاطبة كانت ترجع الى مشروعات ذلك المجلس لتنفذ بعضها .. ويرى بيتر مانسفيلد بأن ثورة الري والاعمار لو استمرت في العراق وطبقت مشروعاتها الكبرى لاصبح العراق واحدا من اهم البلدان المتطورة في المنطقة ! ولابد للمؤرخ ان ينصف كل حقبة تاريخية من حياة العراق المعاصر ، وعليه اقول بأن السياسة هي التي جنت على الاقتصاد وكل بنيوياته الحقيقية في العراق .
ثالثها : العنف والتكوين
لم يبدأ العنف مع وصول البريطانيين الذين كانوا يمتلكون فكرة واضحة عن النظام الاجتماعي العراقي قبل وصولهم العراق بسنوات طوال اكثر بكثير من معرفة الامريكيين عنه اليوم . وبين عامي 1918 و1920 ظلت الإدارة البريطانية منقسمة بين تيارين أحداهما يتطلع لحكم العراق بشكل مباشر مثلما هي الحال في الهند، وثانيهما يذهب مع تشكيل دولة عراقية مستقلة. ولعل انتفاضة غرب الموصل والاكراد وعشائر الفرات الأوسط التي وقعت عام 1920 وما رافقها من احتجاجات ومظاهرات في المدن قد دفع البريطانيين إلى تأييد استقلال العراق. وترافق ذلك مع قدوم الملك فيصل بن الحسين إلى العراق . لقد كان مؤتمر القاهرة نهاية عام 1920 بحضور السير ونستون جرجل وزير المستعمرات البريطاني قد سمى فيصل ملكا على العراق فنودي عليه ، وفي أغسطس (آب) 1921 تم تنصيبه ملكا للعراق بعد استفتاء أوضح أن 96 في المائة من العراقيين كانوا مع ذلك التنصيب. والمشكلة الأولى التي واجهتها الحكومة العراقية الغضة هي مشكلة مطالبة تركيا الكمالية بالموصل وبالمقابل كانت بريطانيا تضغط باتجاه توقيع المعاهدة التي تتولى الأخيرة من خلالها شؤون العراق المالية والقضائية والدفاعية والخارجية لمدة عشرين عاما مطالبة بأن يصادق المجلس الدستوري عليها. وأمام الخوف من فقدان ولاية الموصل التي وعدت بريطانيا العراق بالوقوف إلى جانبه في احتفاظه بالموصل وافق رئيس الوزراء على المعاهدة كي تبقى أربع سنوات بعد توقيع اتفاقية سلام مع تركيا الكمالية ، وفي عام 1924 وافق المجلس الدستوري عليها بعد تهديد السير بيرسي كوكس بورقة الموصل. وينبغي ان ندرك ان العراقيين الحقيقيين هم الذين دافعوا عن عراقية ولاية الموصل دفاعا مستميتا بالرغم من ان الامر قد حسمته لجنة دولية ارسلتها عصبة الامم .

التوترات السياسية
بتأثير حركة 1941 القومية التي لا معنى لها نظرا لانحياز كل من الطرفين العراقيين الى كل من المحور والحلفاء بشكل فاضح ، شهد العراق بين 1942 و1958 أحداثا تاريخية عديدة مهمة ، ففي العام 1944 أبدى الوصي عبد الإله قلقه تجاه عدم تحقق اي إصلاح اقتصادي واجتماعي وغياب حريات سياسية ، فاستقال نوري السعيد وتسلم حمدي الباجه جي رئاسة الوزارة فأطلق سراح بعض أولئك المحكومين منذ العام 1941 ، وبذلك تم تخفيف أجواء التوتر، ثم بتشجيع الأمير عبد الإله صدر قانون ” ميري سيرف ” الذي بموجبه تمّ توزيع أراض منطقة الدجيل على الفلاحين المعدمين وأصحاب الاراضي الصغار والموظفين المتقاعدين وهذا ما أثار حذر الكتلة البرلمانية من شيوخ العشائر الذين وافقوا على القانون بعد أن عرفوا ان ذلك لن يؤثر على وضعهم. كذلك خرج الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني ضد حكومة الباجه جي بعد أن طالب بالمزيد من المطالب لتحقيق سلطة أوسع له ودور قومي أكبر للأكراد ، ومع رفض هذه المطالب بدأ القتال عام 1945 الذي حسمه نوري السعيد بعد ذلك باسلوب سياسي . ان حكومات العراق جميعها كانت تعتبر تمرد البارزاني مجرد حركة قبلية او مناطقية من دون ان تفكّر انها مطالب قومية ، ويعزى السبب في ذلك الى ان هناك اطرافا كردية لا تعد ولا تحصى تتعامل مع الدولة ومع كل نظام سياسي ضد ما كان يطلق عليه بـ ” حركات التمرد ” ، بدءا بنوري السعيد ووصولا الى صدام حسين . لقد أراد الوصي من الباجه جي ايضا أن يمضي أكثر في خطوات الحرية السياسية وتأسيس الأحزاب السياسية والقيام بانتخابات حرة وبإصلاحات تقود إلى عدالة اجتماعية أكبر ونظام للضمان الاجتماعي، لكن المنتقدين من الساسة والشيوخ العراقيين راحوا يضغطون أكثر فأكثر فاستقال الباجه جي عام 1946. هكذا تعلمنا تجارب تاريخ العراق المعاصر بأن المسؤولية التاريخية لا يتحملها الساسة فقط بقدر ما يشارك المجتمع ايضا في تحمل جزءا كبيرا منها !

ضياع العراق من دون الديمقراطية والعلمنة
واصل توفيق السويدي الذي كلف بتشكيل الوزارة عام 1946 وخلال فترة حكمه القصيرة حيث قدم قانون الانتخابات الجديد الذي يتضمن مرحلتين، وقسم البلد إلى مائة منطقة انتخابية بدلا من ثلاث مناطق فقط، وسمح السويدي بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال كي يمثلا اليسار والوسط ، اما اليمين ، فله احزابه الفئوية الصغيرة . واذا كان الاستقلال قد ضم العناصر القومية في العراق ، فان الوطني الديمقراطي قد ضم العناصر الوطنية .. في الوقت نفسه راح الرفيق ( فهد ) يوسف سلمان الذي كان على رأس قيادة الحزب الشيوعي السري يبذل جهودا كبيرة في بث الخلايا السرية في ميناء البصرة وخطوط السكك وصناعة النفط وفي قطاع التعليم، وعلى مستوى أقل في الجيش مستفيدا من المناخ السياسي المعتدل نسبيا. ثم جاءت عاصفة إضراب عمال النفط وتصاعد موجة المظاهرات وكأن اعصارا هبّ وهو محمل بالشرور والآلام. ويمكن القول إن مشكلة العهد الملكي في العراق ليست في الديمقراطية ولا بالعلمنة السياسية ولا بالاستعمار والرجعية ، بل كانت تتحدد بنخبة سياسية عراقية قديمة بقيت في السلطة من دون ان تلتفت الى العناصر الجديدة والافكار الجديدة والرؤى الجديدة .. كما وانها عملت بالمركزية للدولة والعشائرية والجهوية للمجتمع وتمحور معظم النشاطات والمنافع حول الدولة ومن يديرها إضافة إلى ملكية الأرض إذ كان الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية بيد 3000 شخص .. وكان الرهان لدى الزعماء الملكيين القدماء ـ كما يتوّضح ذلك من الوثائق السياسية ـ على الزمن ، اذ كانوا يعتقدون بأن الزمن هو الكفيل بتحقيق الرخاء الاقتصادي .. وكانوا يتحدون معارضيهم تحدّيا حقيقيا ان كان العراق سيتخلص بسرعة من العشائرية ومن الجهوية والمناطقية ومن الامراض الاجتماعية المزمنة ! ويبدو أن أي إصلاح حقيقي داخلي كان محكوما عليه بالفشل حتى حينما حاول فاضل الجمالي أن يطرح برنامجا سياسيا او إصلاحيا لتوزيع الأرض بشكل أكثر عدالة هبت ضده عشائر الفرات الأوسط بالنيابة عن شيوخها. ان العهد القديم كان يعيش في برج عاجي ، اذ لم يهتم بالاعلام ولا بالاعلام المضاد مقارنة بما كانت عليه مصر التي خلق عبد الناصر فيها ترسانة اعلامية !

العراقيون العسكريون
تقول الوثائق الامريكية التي عثر عليها في السنوات الاخيرة انه بعد قيام الضباط الأحرار في مصر بانقلابهم عام 1952 كانوا قد قدموا مخططا لما سيجري في العراق ، وان الرئيس جمال عبد الناصر اهتم باحداث انقلاب بالعراق قبل العام 1956 ، إذ شكل رفعت الحاج سري منظمة الضباط الأحرار العراقية والتي ضمّت عددا من الضباط أغلبهم من ذوي الاتجاه القومي ، وفي سنة 1957 تمكنوا من كسب الزعيم الركن عبد الكريم قاسم الذي جلب صديقه العقيد الركن عبد السلام عارف. ولم يكن لهؤلاء الضباط أي مخطط للمستقبل أكثر من الانتقام من كل النخبة الحاكمة حال تسلمهم للسلطة إضافة إلى تسلم المناصب الكبيرة بأنفسهم ودفع المدنيين لاحتلال المقاعد الخلفية. وكان نوري السعيد خائفا أن يتمكن الشيوعيون من التحالف مع القوميين . وهذا ما جرى عام 1957 حينما تشكلت جبهة الاتحاد الوطني من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث حديث العهد انذاك في العراق والحزب الشيوعي. ان ما اريد قوله ان الساسة الجدد تسلموا العراق من دون برنامج سياسي مشترك قوي يصلح لتركة من مواريث صعبة سياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية معقدة كما هو حاصل اليوم بالضبط ! ولقد استمر العراق على امتداد عشر سنوات 1958- 1968 يمر بمرحلة انتقالية يحكمها العسكر وغلب عليها العنف والمؤامرات والانقلابات والصراعات حتى فاز البعثيون بالعراق عام 1968 بعد ان كانوا قد اخفقوا في حكمه عام 1963 ، وبقيت المرحلة الانتقالية بعهودها السياسية الانقلابية الصعبة مؤهلة بضعفها لولادة عهد سياسي اصعب لم يألفه العراقيون ، ولكن كانت له برامج سياسية وتقاليد صارمة تبلورت عنها دكتاتورية مخيفة .. وبالرغم من كل ما تحقّق من خطوات تنموية ولكن العراق لم ينعم ابدا بأي استقرار تاريخي ومر العراق بحروب قاسية وسنوات عصيبة ، ولعل ما انجز كان يجهض قبل اوانه فلم يتطور العراق سياسيا ولم يستقر العراق اجتماعيا ولم يشعر العراقيون بالرخاء ، بل خسر العراق نصف شط العرب وانتقل من حرب الى اخرى ليكلل نهايته باحتلال امريكي . فهل من دروس تاريخية ؟

وأخيرا : ما الذي يمكننا الاستفادة منه ؟
ليس لي اليوم الا ان انصح من مكانتي المتواضعة اي حكام عراقيين جدد يبدأون حكم اصعب بلاد على وجه الاطلاق بمراعاة كسب ولاء جميع العراقيين ارثا وجغرافية وان توّزع الثروة العراقية بعدالة وان يكون العراق ديمقراطيا ومؤهلنا بعيدا عن المركزية والتعصب والطائفية .. مع استخدام حقيقي للقانون والانفتاح والشفافية ومعاقبة المسيئين .. فهل سنبدأ تاريخا جديدا .. ام سنغرق ـ لا سمح الله ـ في دوامة او متاهة لا يفكر بها الا العقلاء من العراقيين ؟! وينبغي ان انّبه ايضا الى كل من يتجّرد لكتابة أي موضوع في تاريخ العراق المعاصر ان يكف عن التعصّب لجهة معينة او زعيم معين او طائفة معينة او مدينة معينة .. ان كتابة تاريخ العراق الحديث والمعاصر بحاجة الى منتهى الحيادية بديلا عن التمجيد ، والموضوعية بديلا عن كل المفاخرات .. واعطاء كل ذي حق حقّه ، فليس من العقل ابدا ان نتغافل عن معرفة حقائق او مواقف بقصد او من دون قصد .. وليس من الامانة في شيئ ابدا ان نصبغ تاريخنا بالصبغة التي تريح انفسنا وترضي تعصباتنا واهوائنا .. او ان نلغي من تاريخنا اسماء او رموز او مواقف لاسباب معينة ..
ان وظيفة التاريخ تكمن في حقيقة الامر بالاستفادة من دروس ومضامين واشكال الماضي لمعالجة الحاضر وبناء المستقبل .. وعليه ، فان الاحكام المطلقة لا يمكنها ان تبقى ابدا ، ولكن الاراء النسبية هي التي يمكن التعاطي معها .. كما ولا يمكن ان يرجع القديم الى قدمه فضلا عن ان العراقيين كل العراقيين يصيبون ويخطئون ، فان لم يعترفوا باخطائهم وان لم يعرفوا محاسنهم ، فان التاريخ سينصفهم جميعا .. ولقد اثبت الواقع بأن حكم العراق من اصعب المهن .. وان الاوزار يتحملها الجميع ، وان ماراثون العراق الصعب قد شارك في صنعه الجميع على امتداد حياة العراق .. ان من يتعمّق في الجزئيات بدل الذي يطفو على سطح الكليات هو الذي يعرف جيدا ما يقول بحق العراق وما يطلق من احكام بحق العراقيين .. فهل سنغّير تفكيرنا التاريخي قليلا ؟ هل نتزحزح من هذه الثوابت والطقوس التي تحرك نزعاتنا وتجعلنا نتهيج بل نتكهرب من هذا او ذاك ؟ لنسمع احدنا الاخر من دون ان نفرض الشعارات ومن دون ترديد ما يقوله هذا الطرف او ذاك .. علينا ان نبدأ زمنا جديدا ندرك فيه معنى ما نقول ؟ علينا ان نجدد خطابنا العراقي من خلال فهم تاريخ العراق فهما منصفا من دون أي تعصب ومن دون أي شعارات وطقوس .. علينا بمنهج جديد يجعلنا ندرك العلل والمسببات بشكل افضل كي نستطيع التوصل الى النتائج والاستنتاجات بدل كل ما يسود من هذيان اعلامي يساهم في تمزيق وطن قديم اسمه العراق ! فهل يمكننا ان نحقق هذه التمنيات ؟ انني اشك في ذلك !

www.sayyaraljamil.com

ايلاف 6 سبتمبر 2006