تمّر اليوم الأربعاء ذكرى أربعينية رحيل أستاذنا الكبير المؤرخ والمثقف المستنير الدكتور نقولا زيادة الذي غّيبه الموت في بيروت يوم 29 تموز/ يوليو 2006 بعد رحلة حياة متميزة اقتربت جدا من المائة عام ، فلقد ولد فقيدنا الراحل في العام 1907 .. لقد غاب هذا المؤرخ العربي الجاد في أصعب الأزمان التي يمّر بها العرب ويمر بها لبنان وتمر بها بيروت .. غاب نقولا زيادة الذي طالما كان يفتخر انه ابن الناصرة بفلسطين وانه فتح عيونه مذ ولد في دمشق ، وانه عاش حياته ببيروت .. ليكون شاهد إثبات على التاريخ العربي المعاصر بطوله وعرضه ، فوجدناه مهموما بجروح الأمة وقروح آلامها ومعاناتها .. غاب عّنا هذا المثقف النهضوي الذي خدم ثقافتنا المعاصرة وعلومنا التاريخية الحديثة . ويعد الرجل من رعيل المثقفين المستنيرين الأوائل اذ شهد كل القرن العشرين واحداثه التاريخية المريرة ، فهو اذن بمثابة سجل حي بما أحتفظ به من الذكريات الخصبة .
رحل عّنا أستاذنا بعد رحلة حياة متنوعة ومترعة بكل التحديات والآلام والأفراح . رحل عنّا في أيام عصيبة جدا ولبنان يتعّرض لتحديات صعبة وعدوان إسرائيلي غاشم .. رحل عنّا ولم ير القدس ولا الناصرة بعد أن عاش حياته كلها يتغّنى بعبقهما . رحل عّنا وهو في كامل وعيه ونشاطه ، إذ لمّا يزل قلمه بيده يعتز به ايمّا اعتزاز ، وكنت قد قرأت له قبل رحيله بأيام آخر مقال له في صحيفة الحياة عن تجربته الأدبية ! رحل عنّا ذلك الحالم والعاشق ، ولكنه أبى إلا أن يبقي لنا كل معانيه وتجاربه وذكرياته التي لا تنمحي أبدا من ضمائرنا ووجداننا .. وكان دوما ما يشعرنا ومن مضى أو لحق من الأجيال انه لم يزل شابا في مقتبل العمر .. رحل عّنا بفكره الواقعي ورأيه السديد إذ لم يكن من أصحاب الأخيلة الطوباوية ولا من أصحاب الشعارات الهزيلة ، ولم أزل اذكر كلماته وآراؤه وأحكامه في نقد ” الهراطقة ” العرب كما كان يسميهم !
رحل عّنا بعد أن ترك لنا كتابات قيّمة وتآليف متميزة ومذكرات مصّورة طويلة بمجلدين رائعين تحكي قصة حياته العربية إبان القرن العشرين . رحل عّنا واحدا من امهر الأساتذة الأكاديميين العرب، وقد تخرجّت على يديه عدة أجيال عربية وهي تحمل عنه أطيب الأثر .. رحل ذلك الإنسان الرائع الذي كانت له من الخصال الجميلة التي لم أجدها عند غيره ، فهو عربي أصيل من نبت الأرض المقدسة حمل عبقها في طبيعة فكره وعلاقاته وآثاره .. رحل بعد رحلة مترعة بالأحداث ومثقلة بالكبرياء ومزدانة بالتواضع وزاخرة بالإنتاج ومتميزة بالخصب والوفاء والعطاء .. رحل عنّا احد ابرز رواد فكرنا الحديث. كان مؤرخا سليم المنهج، واضح العبارة، بعيد الرؤية، حيادي الرأي وسريع البديهة. تميز بحلو حديثه وحسن معشره .. كان أستاذا قديرا وباحثا ماهرا وكاتبا مجيدا .. واشتهر بمشاركاته ومحاضراته ومداخلاته ومقالاته ومساهماته وحتى في تعليقاته وسخرياته وضحكاته .. كان سريع النكتة وحاد الذاكرة وحاضر البديهة يتلقف التعابير قبل أن تصل إلى أسماع الآخرين . كان لا يفارقه غليونه وإذا ما أعجب بحديثك وحلو تصرفك معه يبقى يغرز نظراته فيك من تحت نظراته السميكة .. كان وفيا لكل أصدقائه وأصحابه والعشرات من طلبته ..
كان يعشق المدن العربية والقدس عنده من أثمن مدن الدنيا ، ولا ينفتح أمامه أي حديث عن المدن ، إلا وسارع بذكر أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ويذكر تفصيلات أيامه الأولى فيها .. والحق يقال أن تكوينه كان قويا بتأثير المدرسة النهضوية المقدسيّة التي تخّرج فيها .. كان مستاء من تاريخنا المعاصر ، ولاحظت أن انتقاداته عامة ولا يخص بها ذكر أشخاص أو أحزاب أو جماعات .. لقد علمته سنوات حياته الكثير من التجارب التاريخية التي مر بها .. نيقولا زياده مؤرخ عتيق ولكنه مجدد من جيل قديم ، فهو من أبناء بدايات القرن العشرين .. جيل المؤرخين المشهورين : فيليب حتّي ومحمد شفيق غربال وصبري الصوربوني وفؤاد شكري ومصطفى جواد ومجيد خدوري وألبرت حوراني وغيرهم .. ولا يمكن أن نتخيل سيناريوهات حياته المخضبة منذ طفولته بمختلف الألوان والأطياف والإشكال المتنوعة تلك التي رسمها بكل هدوء في مجلدين ضخمين عن سيرة حياته بطولها وعرضها مع ما رافقها من مصورات ورسوم توثّق جملة من المشاهد الحيوية التي عاشها. انه إنسان من نوع نادر يعتني بصحته وبملبسه وبأكله وشربه، ولم يزل يشعر وكأنه شاب يغرم ويحب ويعشق ويشتهي ويغازل ويهيم ويهمس .. كل ذلك يعني بكل بساطة ، انه إنسان يمتلك قلبا كبيرا لم يزل له اخضراره وحيويته في الحياة بعيدا عن أوضارها ومشكلاتها وأزماتها التي تفني أصحابها من المكابدين .
سنبقى نعتز بذكراك الطيبة يا أستاذ الأجيال.. سأبقى اذكر كل أحاديثك معي وبكل أريحيتك وتعليقاتك ( وقفشاتك ) في أروقة الجامعة الأمريكية ببيروت .. سأحتفظ بكل رسائلك ومعايداتك .. وسيذكرك كل أصحاب العقول النيرة وأصحاب الأفكار الصافية ، وستبقى أفكارك وما تركته إلى الزمن حية تضيء كل الجنبات ، وستبقى ذكراك مغروسة في الضمائر وسعيدة في الوجدان العربي .. لقد رحلت بكل هدوء من دون أن تكمل المائة من العمر ، إذ كنت تدرك بأنك ستبقى حيا في القلوب لمئات من السنين . إنني احّيي في اربعينيتك ذكراك الرائعة ، وسيبقى اسمك شعلة متوهّجة تضيء الطريق للأجيال القادمة من اجل مستقبل عربي رائع .. متمنيا عليها أن تتعّرف على طريقك الصعب الطويل الذي فرش بكل الزهور والأشواك معا.
البيان الإماراتية 6 سبتمبر 2006
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …