ليس الأعلام ، باعتقادنا ، سوى اداة (ادوات) تمارس دوراً اساسياً في ايصال المعلومات والمستجدات والاحداث الى الجمهور ، كما ويقوم بدور تحريضي عبر طرح المشاكل المرتبطة بحياة الناس سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية او غيرها مما له تأثير مباشر على افراد المجتمعات ، ووعيهم . واذا كان الاعلام يسعى، عبر ممارسة دوره المذكور الى ايصال الحقائق والاحداث ، وسائل وتقنيات محددة وكوادر لها القدرة على استخدام تلك التقنيات ، فأن حياديته وصدقه ستكون مرهونه بتوفر هذه الوسائل والتقنيات والكوادر بعيدا عن قدرات تحكميه خارجية كالسلطة و رؤوس الاموال والايدلوجيات .
فهل يقع الاعلام في البلدان العربية في هذه الساحة المحايدة ؟
وقبل الاجابة على هذا السؤال هل ندرك نحن اليوم خطورة دور الاعلام؟
نظراً لخطورة الاعلام في توجيه وبلورة الوعي ، فأن واحداً مثل لينين كان يسعى الى بناء امبراطورية ( شيوعية) كان يدرك ذلك ، وباستخدام ادوات ذلك العصر ( كالمنشور والصحيفة السرية ، اوالعلنية ) التي لاتضاهي التقنيات التي تمتلكها مؤسسات الاعلام اليوم ، فأنه ( أي لينين) أطلق عبارته الشهيرة – اعطني صحيفة اعطيك ثورة- هذا كان في بداية القرن العشرين ، فما بالك اليوم ، حين تمتد شبكة عنكبوتية هائلة يمكن ان تدخل كل بيت في ارجاء المعمورة – شبكة الانترت- التي تركت وسائل الاعلام الاخرى المتطورة حتى نهاية القرن الماضي كالاذاعة المرئية والمسموعة خلف ظهرها !
الاعلام العربي ، وستكون مزحة سمجة ، اذا اتهمناه (!) بالحيادية والاستقلال ، فهو خاضع لما يسمى بالرقابة ، والرقابة مؤسسة لاتمثل اكثر من يد ضاربة للسلطة ، والسلطات العربية تسعى للتجهيل ، وتنشئ المدارس والمعاهد والجامعات لاجل تخريج الكوادر الجاهلة
( وبامتياز) ، والحديث لايجري عن مدارس وكليات التجهيل الاعلامي فحسب ! والاعلام يجب ان يسبح بحمد القائد والزعيم والملك والرئيس وحاشيته وحزبه او ماشابه من تجمعات، ووسائل الاعلام تعلمنا الصلاة للقائد وعائلته او عشيرته قبل تعلم الصلوات الاخرى ! والويل والثبور لخارجٍ عن طاعة القائد وكيل الخالق عز وجل في بلداننا المنكوبة بطاعون الرؤساء مدى الحياة !
والسلطة ،اللعنة ، والعين الساهرة على كل حرف من حروف الاعلام ، تمتلك غالباً (القدرة الكلية ) في كل مايخص الاعلام . فكل وسائله وادواته بيدها ، وكل تقنياته مسيطر عليها ، وكل يوم ( هو الفاتح العظيم ) كما يحلو للاعلام الليبي وصف ثورة القذافي الازلية ( اي كل يوم هو ثورة الاول من سبتمبر !) ولايكتفي الرئيس بالسلطة المطلقة فهو يفرض ابنائه وعشيرته في كل مكان ، وهذا نموذجاً علي صالح محمد ، والقذافي ، و حسني مبارك وقبلهما السادات التي عُينت زوجته رئيساً شرفياً لنقابة الفنانين التشكيليين في مصر ، وصدام الذي عين ابنه المعتوه والسادي عدي نقيباً للصحفيين العراقيين ، والاسد الاب الذي فرض ابنه رئيساً بعده ( تقريباً) قبل ان توانيه المنية . ليس الهدف الحديث في الشأن السياسي ، ولكن الغرض ، التأكيد ان الاعلام هو في سلة السلطة ايضاً ، مازالت كل مرافق الدولة ومفاصلها بيد القائد الأوحد.
اما رؤوس الاموال التي يحتاجها الاعلام فبيد السلطات العربية ايضاً ، وشبكة الاعلام اليوم لن تكون اعلاماً ان لم تمتلك مايجعلها قادرة على رصد الحدث في لحظته ومتابعة تطوراته اولاً بأول ، في وقت يموت فيه المثقف والاعلامي غير المرتبط بسلطة ولايملك طبلاً وزماراً يغني للقائد ، يموت على قارعة الطريق ، او على افضل تقدير في المنافي ، كما لو انه في سلة مهملات !
الاعلام العربي ان لم يكن بيد السلطة او في اكمامها ، واذا افلت من براثنها بان اصبح مهاجراً ، مثلاً ، فأن معظمه ملوث بالايدلوجيا ، السياسية اوالدينية ، وهذا ايضاً يجد من يفتح صنبور المال والحلال في حوضه ، بالرغم من ان الايدلوجيات الثورية الشمولية احتضرت من زمن بعيد ، الا ان النفخ في جثث ميتة يظل هواية المؤدلجين ! في هذا الاطار تضخ ادوات الاعلام الاخيرة سلعة قديمة ومهللة (ثياب ايدلوجية مرقعة بشرائط ملونه ) وتبيعها على زبون ، ليس فقط لايبحث عن الموضة ، ولكنه ايضاً لايمتلك ليشتري مايستر !!
الاعلام العربي برأينا غائب عن الوعي ، أومغيب ، وليس اكثر من اداة بيد السلطة أو الأيدلوجيا المُستهلَكَة ، وليس محياداً ، لانه مشدود بسلاسل من حديد الى سلطات حديدية السيطرة على مقدرات شعوبها ، في بلدان يحكم كل منها ملهم واحد احد ! ومايحاول الافلات من دعسة العقب الحديدية للسلطات العربية محاصر ، وممنوع ، ومحارب ، وتمتد اليد لقتله ( لنتذكر الرسام ناجي العلي ، د. فرج فودة ، سيد القمني المصري ، واليوم من العراقيين د. سيار الجميل الذي يراد غل صوته واسكاته ).
مستقبل الاعلام العربي اكثر سواداً ، وبلا تشاؤم ، مالم يتحقق شرط واحد من اهم الشروط ، شرط جعل الاعلام في البلدان الغربية المتحضرة سلطة ، احياناً فوق كل السلطات وأقوى منها ، هذا الشرط هو الديمقراطية . نعم ، بدون ديمقراطية فان بساطيل العسكر تحيل الاعلام الى علكة مدهوسة ، كالمواطن المدهوس . وليس لامة ان تنهض بدون ديمقراطية واعلام حر !
العرب اليوم
6/2/2006
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …