إذن العولمة ظاهرة موضوعية، ولكن أين تقع في التاريخ الإنساني؟ لم يستطع المفكرون أن يصلوا إلى إجابة قاطعة على هذا السؤال،فسيار الجميل يرى في العولمة ” مرحلة انتقالية إلى زمن دولي مجهول الأبعاد والمضامين، ولكن بالنسبة لمحمد السيد سعيد فإن تلك المرحلة ليست مجهولة الأبعاد بل تتسم بتعددية مراكز القوى وتوازنها لنسبي عبر مرحلة انتقالية تبرز فيها الولايات المتحدة كقطب وحيد للعالم أما سمير أمين فيختلف كثيرا في رأيه، إذ يعتبر انه توصل إلى ” قراءة جديدة للتاريخ المعاصر على انه يتكون من ثلاث مراحل متتالية هي: مرحلة الليبرالية الوطنية ثم مرحلة الاجتماعية الوطنية ثم مرحلة الليبرالية المعولمة “، وما بين سيار الجميل وسمير أمين يقف أنور عبد الملك الذي يعلق بأن البشرية على مفترق طرق: أما إعادة إنتاج نظام الهيمنة، أو خلق ما بعد الهيمنة، والذي يستمد مضمونه من أرضية مشتركة بين التقاليد المكونة للحضارة الإنسانية، أما عبد الوهاب المسيري فله رأي مختلف كثيرا ” النظام العالمي الجديد هو امتداد للنظام العالمي القديم وإعادة إنتاج للرؤية المعرفية العلمانية للإمبريالية. لكن، ومهما أختلفت الآراء، فان الذي لا يختلف عليه أحد هو: أن العولمة قد جاءت مترافقة من أنتهاء مرحلة النظام الدولي القائم على توازن القوى بين القطبين الكبيرين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وبانهيار الاتحاد السوفييتي أعلن عن انهيار للمنظومة الاشتراكية والتي هي النقيض الأيدلوجي للنظام الرأسمالي، هذا الوضع أدى لنشوء مرحلة جديدة: تفرد النظام الرأسمالي في إدارة الاقتصاد العالمي، وتفرد الولايات المتحدة كقطب وحيد في العالم، هذا التفرد يفتح الأبواب على مصراعيها لكل ما هو جديد، يفتح المجال لأن تبقى الولايات المتحدة على سيطرتها وهذا يعني سيطرة العولمة القائمة على اقتصاد السوق، وسيادة الثقافة الرأسمالية كثقافة عالمية، وهذا ما هو حاصل حتى الآن، واستمرار هذا الوضع مرهون بعدم بروز قوى اجتماعية ” عالمية ” أخرى لتعطي العولمة مضمونا اجتماعيا معقلنا تنصهر فيه مصالح وثقافات مختلفة. لهذا فان الانتقالية ستبقى سمة العصر حتى تتحدد مضامين العولمة التي ستسود لأن المضامين هي التي تعطي العصر سمته الرئيسية. بالرغم من أن صاموئيل هنتنغتون يعتبر أن ” الدول القومية ستظل (اللاعبين الرئيسيين) في شئون العالم، يتشكل سلوكها الآن كما في الماضي بالسعي نحو القوة والثروة كما يتشكل بانحيازاتها الثقافية، وبما هو مشترك وما هو مختلف فان الوقائع التي ترافقت مع العولمة تدل على ما هو عكس ذلك، فالعولمة تبني نظامها على أنقاض الدولة الوطنية حيث يجري تفتيت الوحدات، والتكوينات السياسية ” الدول ” إلى كانتونات، ودويلات صغيرة ضعيفة، ومهزوزة، ومبتلية بالكوارث، والصراعات، والأزمات. لكن حتى الذين يختلفون مع هذا الرأي فانهم يقرون بأن العولمة، وأن لم تؤد بالضرورة إلى “تفجير الدولة الوطنية لصالح جماعات تحت أو فوق وطنية، فأنها على اقل تقدير تؤدي إلى تغير جوهري في مضمون ووظيفة الدولة. هذا التغيير في دور الدولة يمس من حيث المبدأ مضمونها فهي لم تعد بحدودها الإقليمية مستودعا للهوية بحد ذاتها، فلم تعد حدود الهوية متطابقة مع الدولة الوطنية، إذ تفرض مسألة الهوية نفسها من زاويتين مختلفتين: زاوية تكبيرية تجعل للهوية أبعادا أممية أو عابرة للحدود مثلما هو الحال للهوية الإسلامية، وزاوية تصغيرية تربط الهوية بانتماء ذري لجماعة عرقية قد تكون متناهية في الصغر كما هو الحال لبعض الانتماءات القبلية في القارة الأفريقية. هذا يعني أن الدولة الأمة والتي انبثقت عن الثورة الصناعية في طريقها إلى التغير إلى دولة ليست منتجة، بل هي في أحسن الأحوال حامية لحرية التجارة، وحارسة لنظام العولمة نفسه ” فالعولمة أول ما تعني رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة، ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والأعلام….الخ. وهكذا تتقلص شئون الدولة إلى شأن واحد تقريبا هو القيام بدور الدرعي لنظام العولمة نفسه. هذا يعني أن الجهود التي تبذلها المؤسسات المالية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي والتي تتمثل في رفع القيود الجمركية وفتح الحدود على حرية التجارة وحركة رأس المال، هذه الجهود تلتقي مع الجهد الأمريكي في تدعيم سلطة القمع لدول دكتاتورية أو موالية للولايات المتحدة ” حين يتم ضرب دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي يجري تدعيم دورها القمعي وهذه هي إحدى مفارقات العولمة . وبغض النظر عن درجة عمق المتغيرات التي تجري على الدولة، سواء وصلت بها إلى حد إلغاءها أو الى حد تغيير في طبيعة دورها فإن العولمة وضعت أساسا أيدلوجيا لاستيعاب هذا التغير وهو عولمة الثقافة، فالدولة الأمة قامت على التراث القومي أو الوطني الذي جرى إحياءه في مرحلة تاريخية كانت الدولة ضرورة سياسية واجتماعية واقتصادية، ووصل الأمر الى ” الأمة المتخيلة ” أما في عصر العولمة فيجري تغيير جوهري وعميق على هذا الأساس ليستوعب الدولة في شكلها ودورها الجديدين. وهنا يأتي دور العولمة الثقافية والتي تستخدم فيها الماكينة الإعلامية الضخمة بكل ما تعني من إمكانيات مادية وفرتها الشركات العملاقة، وإمكانيات فنية وفرتها ثورة الاتصالات المتسارعة، فالعولمة الثقافية تقوم على تسييد الثقافة الرأسمالية لتصبح الثقافة العليا،كماأنها ترسم حدودا أخرى مختلفة عن الحدود الوطنية مستخدمة في ذلك شبكات الهيمنة العالمية على الاقتصاد والأذواق والثقافة. لتحقيق هذا الهدف، فإن العولمة لا تكتفي بتسييد ثقافة، بل تنفي الثقافة من حيث المبدأ، وذلك لأن الثقافة التي يجري تسييدها تعبر عن عداء شديد لأي صورة من صور التميز. الثقافة الغربية تريد من العالم أجمع أن يعتمد المعايير الغربية كأساس لتطوره وكقيمة اجتماعية وأخلاقية، وبهذا فان ما تبقى يجب أن يسقط. وما تبقى هنا هو ” ليست خصوصية قومية بل مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخا بعينه بل فكرة التاريخ، وليس هوية بعينها وانما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بل فكرة القيمة، وليس نوعا بشريا وانما فكرة الإنسان المطلق نفسه “. أن عالما تختفي فيه القيم ليصبح الربح هو القيمة المطلقة، وتنسحق فيه الخصوصية سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات وتبتلعها عولمة الإعلام والثقافة سيلغي حتما الإبداع، خاصة لهؤلاء الذين تحولوا إلي أطراف. والإبداع كان دوما شرطا من شروط التطور الإنساني وإحدى أهم شروطه هو وجود الدافع، ولكن عندما يكون الدافع دوما هو الربح كما في العولمة، فإن قيمة الاشباع المادي هي التي ستحدد السلوك وسيصبح العالم غابة يركض فيها الكائن الإنساني بحثا عن ما يشبع فيها حاجاته المادية. لكن الخطاب العربي يتسع لرأي أخر حول الدولة في عصر العولمة. فعصام خفاجي غير متأكد بان العولمة تقود الى تفكيك الدولة القومية بل على الأرجح أن تعطي العولمة للدولة بعدا مختلفا تماما، فالدولة ليست شرطا وحيدا للتقدم، لأننا نمتلك دولا منذ خمسين عاما وتحول الدولة ليست مأساة للتطور ربما أن تغييرها وتفتيت بعدها القمعي سيعطي أبعادا أخرى حيث أن التطور يجب أن يتم في أجواء اكثر ديمقراطية وليس في إطار الاستعباد. افتراض عصام خفاجي بأن العولمة ستفتت البعد القمعي للدولة سيبقى في موضع الشك خاصة في ظل الدور المناط بالعولمة والمتمثل في حمايتها، لكن حتى وفي ظل هذا الشك فإن مقدرة الأمم على عملية تفكيك محلية للطابع العالمي للرموز والخطابات المهددة وتوطينها في سياقات زمانية ومكانية محددة، تحديدا في تاريخ وجغرافية الآخر، هذه المقدرة تهدم الافتراض القائل باحتمالية التوحيد الثقافي للعالم تحت رايات الغرب، وهذا يعني بأن الدولة الأمة ستحافظ على وجودها وستكيف نفسها مع المتغيرات وهذا ما يؤيده هنتنغتون باعتبار انه ” في السياسة الكونية الناشئة تحل دول المركز في الحضارات الرئيسية محل القوى الكبرى في الحرب الباردة وتصبح هي أقطاب الجذب بالنسبة للدول الكبرى “. والذي يجعل الحضارات الرئيسية عصية عن التعولم بالمفهوم الأمريكي للمصطلح هو الاختلافات الثقافية والتي هي الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها المؤثرات الخارجية حيث تتبلور على وجه الإجمال في مسألة الهوية. وبالرغم أن هناك من يرى في الاتحاد الأوروبي الذي يتقدم بشكل ملحوظ على انه تكيف مع العولمة، فان من الممكن رؤيته على انه انحياز واضح وجلي لهوية ثقافية هي اكبر من الدولة الأمة، ولكن لها خصوصياتها، وتمثل في المحصلة النهائية حضارة لها ثقافتها. ولو كانت المسألة اقتصادية بحتة لوجدنا على سبيل المثال اليابان جزءا من هذه الوحدة. لا يختلف المفكرون العرب على أن العولمة ستترك تأثيراتها على الواقع العربي، لكن الذي يختلفون فيه هو اتجاه هذه التأثيرات وعمقها، وهذا الخلاف يعكس نفسه على طريقة التعاطي معها. وأيا كانت الآراء حيال الواقع العربي في عصر العولمة، فان الخطورة تكمن في ان تفرض العولمة شروطها على الأمة العربية بمنظار الآخرين لا آن يكيف العرب العولمة بما يتناسب مع مصالحهم وثقافتهم. هذا التخوف نابع من التجربة العربية مع عصر الدولة القومية، فالعرب وبمختلف مواقفهم ومواقعهم انخرطوا في العصر بمواصفات وأفكار الآخرين، وبالتحديد أفكار ومواصفات الاستعمار دون أن يكون للمصالح العربية أي تأثير يذكر. وبقراءة متأنية موضوعية للنظام العربي الذي ساد في النصف الأخير من القرن العشرين ومواصفات الدولة القطرية الإجتماعية والسياسية والاقتصادية نستنتج أن العرب لم يستطيعوا توظيف تطورات العصر بما يحقق مصالحهم القومية. لهذا ” علينا هنا أن نؤكد آن ما ورثه العرب في القرن العشرين من انقسامات جغرافية من بقايا القرون المتأخرة، قد شكل واقعا سياسيا خرج على العالم بتكويناته التاريخية المعاصرة، ولم يفهم العرب على امتداد القرن العشرين: جذورها، وتبلور منظوماتها، وصراعات عروشها، وتكتلات اقتصادياتها… فكان أن خسروا جولتهم باجترار الشعارات وتوارثهم المسميات والمثاليات، بدل محاكاة الواقع والمضامين والفهم والتهيؤ والتسلح بمواجهة المشاريع المضادة أو المؤامرات الخطيرة، أو حتى المجادلات المحاكة لقضاياهم وتناقضاتهم. إلا أن في هذه المرحلة التي كثر الحديث فيها حول الغزو الثقافي وتداعياته السلبية، لم تكن وسائل الإعلام ووسائط الاتصال قد بلغت من التطور والانتشار ما وصلته الآن وهذا التطور الثقافي في وسائل الإعلام، واكبته احداث سياسية واقتصادية مهمة عرفتها الساحة العالمية. فالمعسكر الاشتراكي تعرض للانقسام السياسي والتجزء، بفعل الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عرفتها دوله خلال السنوات الأخيرة، مما عجل بسقوطه وتفكك كتلته السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، في المقابل نجدان المعسكر الغربي والرأسمالي يعتبر هذا التفكك والانهيار انتصارا له ولأيديولوجيته السياسية والاقتصادية. ومن ثم انطلق الحديث داخل أوساطه الفكرية، حول انتصار النموذج الغربي الليبرالي وأنه النموذج السياسي والاقتصادي الأخير والأفضل الذي وصل إليه تطور البشرية، وأن على الدول التي كانت تقف البارحة منه موقف المعارض والرافض، عليها ان تسرع لركوب قطاره وسلوك طريقه، وبدأ الحديث عن القطب الواحد الذي يتحكم في تسيـــير دواليب الاقــتصاد العالمي، حيث العمل على قدم وساق لتحرير الاسواق العالمية وإلغاء الحواجز الجمركية بين الدول لاستقبال السلع. يرافق ذلك دعاية واسعة النطاق للترويج لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وضرورة تبني الإيديولوجية الليبرالية جملة وتفصيلا.
سكينة العكري – البحرين
14/05/2003
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …