تتجاوز أهمية الحوار مسألة المعايير الشكلية التي تحكم تبادل الرأي بين المتحاورين إلى أبعاد فكرية و فلسفية أعمق. و ذلك لأن الموقف الفكري للمتحاور من الحوار يرتبط أساسا ً بموقفه من الذات و الآخر و بالموقف من الحياة نفسها. و يمكن لنا أن نذكر حضارات، مثل الحضارة الإغريقية، جعلت من الحوار أحد أهم المكونات الأساسية لرؤيتها للحياة فكأن أن ازدهر لديها المسرح بما هو أدب حواري يعبر عن تعددية فكرية و صراع بين مواقف متباينة، كما ازدهرت لديها ممارسة الفكر الفلسفي بما هي فلسفات متعددة في الرؤى و المواقف قد تصل إلى حد التناقض. و هناك حضارات أخرى نهجت منهجا ً واحديا ً في الفكر و الحياة مما أدى إلى ضمور في الأدب المسرحي أو أي أدب ذي طبيعة حوارية. كما ضمرت في هذه الحضارات الممارسة الفكرية فلم ترق إلى مستوى تأسيس مدارس فلسفية أو بروز فلاسفة متميزين. و لعل الحتمية الجغرافية لعبت دورا ً في هذا الأمر. فالحضارات التي نشأت حول الأنهار كانت أكثر ميلا ً نحو الواحدية في الفكر و الحياة بسبب من كون طبيعة نظام الحكم قد ارتبطت بشكل عضوي بسلطة الملك الذي يمسك بيده أمر شريان الحياة، أعني النهر( سواء أكان هذا النهر دجلة أم الفرات أم النيل أم الغانج). فليس الملك هنا أحد السادة الإقطاعيين الذين اختيروا ليكونوا ملوكا ً على سادة و نبلاء من معدنهم نفسه. و إنما هو إله أو نصف إله كما هو الحال مع ملوك سومر و بابل و آشور و فراعنة مصر و أباطرة الصين و الهند. غير أن هذا التصور الجغرافي التاريخي لحضاراتنا لا يعني بالضرورة أن نظل أسرى حالة الإرتهان بالماضي السحيق. فالحياة تتطور، و المعارف تتسع، و نحن نتغير شئنا أم أبينا، و يتعين علينا أن نغير من نمط استجابتنا لمنطق الحياة الذي يرفض الجمود و لا يسمح للماضي بإزاحة الحاضر و الحلول محله. و من هنا رأيت أن أكرس هذه المقالة لهذه المسألة ذات الأهمية البالغة، وأسلط الضوء على أهمية الحوار و أخلاقياته و شروطه المعرفية.
الاختلاف في الرأي هو لب الحوار و حافزه الأساس. أنه بمثابة الجوهر الثابت الذي لا وجود للحوار بدونه. إذ لا يقوم الحوار بين المتفقين في الرأي و إنما بين المختلفين منهم. و هدف الحوار الأول و الأخير هو هدف التفاعل مع الآخر و ليس هدف إزاحته. بمعنى أن من يخوض حوارا ً سياسيا ً أو فكريا ً أو اجتماعيا ً إنما يكون قد أقر سلفا ً بجملة مبادئ هي:
إن المحاور الآخر ليس خصما ً بل شريك على درجة عالية من الأهمية.
إن القضية التي يتحاور حولـها مع الآخر هي، في الأساس، من الأمور ذات الطبيعة الخلافية التي ليس من حق أحد أن يزعم امتلاك الحقيقة كلها بشأنها.
إن في رأي الآخر شيئا ً من الحقيقة التي قد يكون المحاور غافلا ً عنها، أو قد لا يكون عارفا ً بها أصلا ً.
إن المحاور نفسه بحاجة حقيقية إلى رأي الآخر ولـه مصلحة فعلية في سماع رأيه بإخلاص و تبصر بداية و التفاعل معه بروح إيجابية بعد ذلك.
إنه قد يكون في رأي المحاور شيء من الخطل و مجانبة الصواب. و لذلك يوكل للحوار العمل على تجنب مواضع الشطط فيه، و ذلك بفضل التفاعل الحر و الخلاق و ليس التصلب و روح المجابهة السجالية،إن المرونة في الحوار هي علامة قوة و ثقة بالنفس و بالآخر، و ليس علامة ضعف و تخاذل إزاء الآخر.
إن في الحوار جوانب إيجابية كثيرة ترفع من شأن تصورات المحاور نفسه و تصورات الطرف الآخر عن المسألة موضوع الحوار.إن احترام الآخر هو تعبير عن رؤية أخلاقية نابعة من جوهر العقل الحواري.في حالة كون الحوار منشورا ً، فإن الجمهور الذي هو هدف المتحاورين سيستفيد من الحوار لأن الحوار سيجعله على بصيرة أدق و أعمق بشأن القضية موضوع البحث. و يعتمد تطور فهم الجمهور لتلك القضية على مقدار موضوعية المتحاورين أنفسهم. و هو ما يمكن أن يثمر أداءا ً سياسيا ً أفضل للجميع.
و قد تبدو هذه المقدمة النظرية على درجة من الطوباوية في النظر إلى مسألة الحوار و أهميته. و كننا نعتقد بأن الجانب الحضاري المدني للممارسة الحوارية شيء لا بد منه لتأسيس ثقافة الحوار إزاء ثقافة الإقصاء و التهميش و نفي الآخر التي تمثل شجرة مسمومة لا تصلح ثمارها لأحد. و لتسليط بعض الضوء على مشكلة أبعاد الحوار الأخلاقية و المعرفية سننظر بشيء من التفصل في البرامج الحوارية على القنوات العربية.
يلاحظ المهتمون بالشؤون الفكرية والسياسية و العلمية( العلوم الاجتماعية بخاصة ) حين يشاهدون الحوارات التي تعرضها بعض الفضائيات العربية ذلك العنف و الروح العدائية و البعد عن الموضوعية الذي يميز أسلوب أغلب المتحاورين في قضايا خلافية عديدة. وتشمل هذه القضايا مجموعة متنوعة من مثل : العولمة و الهوية الوطنية ، و قضية فلسطين ، و مسألة العلاقة بين الديمقراطية و التنمية ، و الدين الإسلامي و نظم الحكم ، و قضية حقوق المرأة و دورها في المجتمع ، و إسهام مؤسسات المجتمع المدني في الحياة العامة وعلاقتنا عربا ً و مسلمين بالآخر الغربي وغيرها.
قد يقال إن ظاهرة العنف و انتفاء الموضوعية هذه هي من قبيل الممارسة الحرة التي تتيح التعبير عن الرأي و الرأي الآخر دونما شروط، أو هي من قبيل المعارك الفكرية التي شهدتها ثقافتنا العربية في مراحل مختلفة في القرن العشرين. و هذا صحيح لو كان الأمر كذلك . لكننا نلاحظ أن تلك الحوارات تفتقر جوهريا ً إلى أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية . و هذا أمر خطير نظرا ً لانتشار هذه الفضائيات و سعة تأثيرها في قطاعات واسعة من الناس، و لطبيعة البرنامج التلفزيوني التي لا تتيح إمكانية التوقف عند كل نقطة اختلاف و فحصها و التثبت منها و من دقة المعلومات التي تحتويها و نقض ما قد يكون باطلا ً أو مفتقرا ً إلى الدقة مما أورده المتحاورون .
ولكي لا تتحول هذه الفضائيات إلى وسائل و مراكز لبث روح الفرقة و التناحر والتعصب الأعمى و الانغلاق و نفي الآخر فإن من الضروري مراجعة مثل هذه الدعاوى و المزاعم تحريا ً عما تحتويه من حقائق، و بحثا ً عن ما يمكن أن تنطوي عليه من مغالطات. و في تقديري ، فإن البحث في جوهر أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية موجه إلى معدي البرامج الحوارية و الذين يضطلعون بمهمة تقديمها و كذلك إلى المتحاورين الذين يسهمون فيها، و لكن الهدف الأسمى لها هو أن تصل فائدته إلى جماهير المشاهدين فهم من يسعى الجميع, كما يعلنون, لخدمتهم في البرامج الحوارية . و لسوف نعالج المسالة على النحو الآتي :
أولا : في توصيف الظاهرة موضع البحث و النقد
لقد ألف مشاهدو الفضائيات العربية تلك الخيبة التي تنتابهم بعد الانتهاء من متابعة أغلب البرامج الحوارية، و ليست جميعها، في شتى أسمائها و تجلياتها . و ذلك حين يكتشفون أنهم لم يتمكنوا من تصور أفضل للمسألة المطروحة و إنما ازدادت القضية اضطرابا ً و التباسا ً في أذهانهم و الأهم من كل ذلك أن مثل هذه البرامج لا تشجع روح الحوار بقدر تبعث على التعصب نظرا لما يشهده الناس من ( حوار ) هو أقرب إلى القتال منه إلى التفاعل الحواري الخلاق. ذلك أن من المفترض أن تقوم هذه البرامج و على نحو غير مباشر بتنمية و تعميم ثقافة الحوار بازاء ثقافة الإقصاء و التهميش و إلغاء الآخر . فنحن قد نكتشف أن محاورا ً في برنامج يشير عنوانه إلى تعدد الآراء يسعى بكل ما أوتي من جهد إلى إلغاء الرأي الآخر و تسفيه صاحبه متخذا ً من اعتقاد خاطئ بأنه هو وحده من يملك الحقيقة المطلقة سندا ً لـه، و متطاولا ً على الطرف الآخر بالكلام البذيء ، و محاولا ً منعه من إكمال كلامه بأية وسيلة. و قد يظن مشارك آخر في برنامج يشير أسمه إلى آراء متعاكسة أو يواجه بعضها بعضا ً أن من تمام إقامة الحجة على خصمه أن يرفع عقيرته بالصراخ للتغطية على صاحب الرأي المقابل . وقد يصل الأمر بين رجلين يفترض أنهما (متحاوران) إلى حد كيل الاتهامات و التشكيك بالعقيدة أو الوطنية. وكل ذلك لا يعزز روح الحوار و إنما يولد انطباعا ً عميقا ً لدى المشاهدين حول جدوى الحوار إذا كان تعدد الآراء يثير ردود أفعال مثل تلك التي أظهرها المتحاورون الذين نفترض فيهم النضج المعرفي و الفكري اللازمين للحوار فضلا ً عن أسلوب التحاور الحضاري . و من هذه المشاهدة يتسلل التأثير السلبي المضاد، بل المدمر، للهدف الحواري المعلن لهذه البرامج .
ثانيا ً: في أسس معالجة أزمة الحوار
من هنا نجد أن توصيف الحالة المأساوية للبرامج الحوارية سيؤول في نهاية المطاف إلى تذكير بما أوردناه من شروط قلنا أن البعض قد يعدها طوباوية. فنحن لا محالة ملزمون بأن نرتقي بأدائنا الفكري على شتى الأصعدة و لا سيما صعيد أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية التي نعيد صوغها بعد مراجعة حالة البرامج الحوارية، فنقول: يمكن إيجاز أخلاقيات الحوار الحضاري المتمدن و شروطه المعرفية ، ذلك الحوار الذي يسهم في إضاءة كثير من القضايا السياسية و الفكرية و الاجتماعية و ينمي روح التفاعل الإيجابي بين المتحاورين و يثري وعي مشاهديه ، في الآتي:
1. أن القضايا التي يجرى التحاور حولها إنما هي من القضايا الخلافية التي لا ينبغي لأحد أن يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة الكاملة بشأنها. لذلك فأن هدف المتحاورين ليس هو الدفاع عن قناعاتهم فقط و إنما محاولة الوصول إلى قناعات مشتركة و متكاملة بشأن القضية موضع البحث والمحاورة.
2. و ينبغي أن ينطلق المتحاورون من قناعة راسخة و حقيقية بأن معرفتهم حول القضية التي يجري الحوار حولها قد تكون معرفة مباشرة و جيدة و لكنها ليست معرفة كلية مكتفية بنفسها أو شاملة أو نهائية . ونحن هنا نستعمل مصطلح المعرفة بمعنى ما يعرفه المرء و هو ما يطلق عليه بالإنجليزية لفظ knowledge في مقابل علم و آليات تحقيق المعرفة الذي يقابله اللفظ الإنجليزي epistemology الذي اشتققنا منه وصف المعرفي في هذه المقالة . فالنقص يكتنف ما يعرفه كل إنسان مهما كان علمه، ناهيك عن المتحاورين أنفسهم . و من هنا تأتي إمكانية أن يضيف المحاور الثاني إلى ما طرحه المحاور الأول من معلومات أو معرفة بالقضية موضوع الحوار ثم يستفيد الثاني من آراء الأول في ردم ما يمكن أن يمثل فجوة معرفية لديه.
3. في مناقشة القضايا ذات الطابع العقدي ، و هي من أخطر القضايا وأكثرها إثارة للعواطف مثل قضايا الاختلافات المذهبية و السياسية و كذلك القضايا التي تمس الذمة كقضية كوبونات النفط العراقية، تشتد حدة الاستقطاب و تكاد تنعدم فرص التحاور المعرفي المثمر ، فإذا كان المتحاورون في هذه المسائل يمثلون اتجاهات متناقضة على أرض الواقع حد الاحتراب فأن الحوار الذي يجري في الفضائيات قد يمثل فرصة لتوضيح المواقف و استثمار ما يراه المتحاور من وسائل لنصرة ما يعتقده صحيحا ً، ولكن ذلك يجب أن يجري مع مراعاة النقطتين (1 و 2 ) أعلاه.و من دون تجاوز على أخلاقيات الحوار و شروطه المعرفية . و يقع ضمن ذلك ضرورة احترام المحاور المقابل و انتقاء لغة حوار تعكس أخلاق صاحبها و إيمانه بقضيته على نحو متحضر و متمدن.
4. و تأسيسا على ما سبق ، فأن الإيمان بأن رأي الآخر هو خطأ يحتمل الصواب و رأي صاحب القضية صواب يحتمل الخطأ ( و رحم الله الأمام الشافعي على هذا الموقف الحضاري المتمدن ) نقول أن هذا الإيمان يجب أن يكون حاضرا ً في عقول و ضمائر و لغة المتحاورين حتى لا يتحول الحوار إلى سجال مذهبي يكشف عن ضيق أفق المتحاورين فضلا ً عن ضيق صدورهم . و يفرض هذا على المتحاورين النظر عميقا ً في حجج الطرف الآخر ، ليس لدحضها فحسب ، و إنما من أجل اكتشاف ما فيها من صواب قد يكون قد فات أحد الأطراف الانتباه إليه، و كذلك من أجل البحث عن إمكانات التكامل بين أوجه الصواب و نبذ أوجه القصور في كل رأي . و هذا يعني التعويل كثيرا على حسن نوايا المتحاورين . و من هنا انطلقت إشارتنا إلى أخلاقيات الحوار. بيد أن ذلك لا يعني إغفال الجوانب الإجرائية التي تخص أسلوب إدارة الحوار ، و هو ما سنناقشه لاحقا.
5. و يتكامل مع النقطة السابقة أن نقول بأن فن الحوار لا يعني إبراز قدرات المحاور الكلامية ، و هي قدرات ذات أهمية جوهرية في الحوار ، و إنما يعني ، و بالقدر نفسه من الأهمية ، فن الإصغاء إلى الآخر و فهم مقاصده بحسن نية و إظهار روح الإنصاف لدى المحاور إزاء آراء الطرف الآخر.
6. الانتباه إلى أن الحوار ليس معركة يجب كسبها ، أو إنها يجب أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين و اندحار الطرف الآخر، و إنما هو مسعى حضاري و معرفي على المستويين الذاتي و الاجتماعي. فعلى المستوى الذاتي هو مسعى لتنمية الأفق الفكري للمتحاورين أنفسهم . و على المستوى الاجتماعي فأن طبيعة وسائل الإعلام و سعة انتشارها تجعل من الحوار فرصة لا تقدر بثمن لتنمية الأفق الحواري لدي المشاهدين . و بهذا يكون الحوار قد صار تفاعل ًا خصبا ً و مثمرا ً للآراء و ليس إزاحة لرأي و إحلال رأي آخر بدلا ً عنه.
7. ثمة شروط لا تخص المتحاورين أنفسهم و إنما تتعلق بمن يدير الحوار و يقدمه للمشاهدين. و هؤلاء لهم دور مهم في دفع الحوار نحو التكامل الحضاري بين المتحاورين. و لعل من أهم هذه الشروط أن يكون من يتصدى لإدارة الحوار ملما ً على نحو دقيق بجوانب القضية المطروحة للمناقشة فلا يكفي الإلمام البسيط في تمكين مقدم البرنامج من التصدي لإدارة الحوار بنجاح و إضاءة جوانبه المختلفة . كما يجب على مقدم البرنامج أن يعطي فرصا متساوية للمتحاورين و عدم مقاطعتهم إلا بعد الانتهاء من إكمال ما يريدون قوله . كما أن عليه أن يكون حياديا ً فلا يسمح لنفسه باستغلال موقعه لتوجيه الحوار باتجاهات يفضلها هو نفسه أو تفضلها القناة التي يعمل لديها. و لعل هذا الشرط من أعسر الشروط و أهمها في الحفاظ على الجوهر الحواري للبرنامج . و لعله أيضا سبب إخفاق الكثير من البرامج الحوارية لأن أغلب القنوات، إن لم نقل جميعها، منحازة بهذه الدرجة أو تلك.
8. و من المعلوم أن إدارة الحوار يسبقها إعداد وتخطيط يقوم به معد البرنامج الذي قد يكون مقدما لـه في الوقت نفسه. و يساعده في ذلك أشخاص آخرون . كما يساعد مقدم البرنامج أثناء تقديمه على الهواء محررون مساعدون و فنيون ممن يتلقون الاتصالات الهاتفية و الفاكسات و يقوم هؤلاء بأدوار مهمة و خطيرة في التأثير على اتجاهات الحوار و دفعها إلى نتائج معينة قد لا تكون نتيجة فعلية لصيرورة الحوار نفسه أو لقدرات المتحاورين أو لحقيقة ما يجري من مناقشة . ومن المنطقي أن نفترض أن هؤلاء لا يفعلون شيئا إلا بناء على توجيه مسبق من معد البرنامج. ولتأكيد صحة مثل هذا الاستنتاج نتذكر جميعنا كيف اكتشفنا مصادفة أن أحد مقدمي البرامج كان يعمل على نصرة اتجاه بعينه و ذلك بتنسيق الاتصالات مسبقا ً مع صحفي معروف بحماسه المفرط لهذا الاتجاه . و لم نكن لنعلم ذلك لولا أن الصحفي نفسه أفصح عنه في لحظة انفعال مقررا ً بأن ذلك هو ما اتفقوا عليه قبل البرنامج. و يقول قائل أن ذلك من قبيل التوابل التي تزيد التشويق . ويمكن الرد على هذا بأن من يرد التشويق فليتصل بصحفي آخر و من الاتجاه المعاكس للغرض نفسه، لا أن يأخذ اتصالات من بسطاء الناس الذين قد لا يحسنون عرض قضيتهم لمواجهة رأي صحفي متمرس. و من صور الانحياز أيضا أن يؤخذ عدد أكبر من الاتصالات الهاتفية المناصرة لرأي بعينه بغية الإيحاء بأغلبية وهمية تناصره . و هنا يصل الأمر حد التدليس و التزييف و هو ما ينال من السمة الأخلاقية للحوار.
9. و نرى أن تجنب النزعة الاستقطابية المفرطة التي تمثل ملمحا ً رئيسيا ً في بعض برامج الحوار و الرأي الأسبوعية خاصة مهم للغاية لإبراز التنوع في الرأي . ففي كل قضية يجب أن نسعى لأن يكون هناك أكثر من رأيين . فمن الضروري هجر نظرية ” أما أبيض و أما أسود ” الإعلامية البالية التي نعتقد أنها تتجسد في مقولة ” من ليس معنا فهو ضدنا ” . و هذا الأمر ممكن بإشراك ما لا يقل عن ثلاثة متحاورين يمثلون مواقف مختلفة . فإذا كانت القضية المطروحة تحتمل الاستقطاب فليكن أحد المتحاورين يمثل طرفا ً و المتحاور الثاني يمثل الطرف المقابل ؛ على أن يمثل المحاور الثالث الاتجاه الوسطي المعتدل . هذا فضلا عن إلزام المتحاورين بضرورة التزام أخلاقيات الحوار و دعم ما يقولونه بما يتيسر من وثائق حتى لا تضيع الحقيقة في زحمة الادعاءات و الادعاءات المتقابلة و ينتهي البرنامج الحواري و المشاهدون أكثر حيرة من ذي قبل .
هذه هي جملة الشروط الأخلاقية و المعرفية التي ، بحسب تقديري ، يمكن لها أن تؤسس للحوار المعرفي الحضاري المتمدن لا أن تبعث على اليأس منه. ذلك الحوار الذي نأمل أن يؤثر في مختلف أطياف المجتمع على نحو إيجابي و فعال و بما يرسي دعائم ما نطمح إليه من حرية و ديمقراطية ، و هو حوار مختلف عن الكثير مما نشاهد من برامج ترفع يافطة الحوار و لكنها في واقع الأمر تزرع و تنمي و ” تذيع ” روح التعصب و الانغلاق و الشك بالآخر و العمل على نفيه و إقصائه. وهو أمر لا أزعم أنني الوحيد الذي يعمل من أجله . فهو الهم الأول لكثير من الكتاب و أصحاب الكلمة الطيبة. كما أنني لا أزعم أن كل البرامج الحوارية هي من هذا القبيل، بل الحقيقة هي بعض البرامج يحترم هذه الأصول الأخلاقية و المعرفية و خصوصا ً بعض البرامج الحوارية العراقية. و لعل هذه المقالة ستساعد القارئ الكريم في أن يتعرف على البرامج و أن يتفحص محتواها و أسلوب إدارتها و تقديمها ليتمكن بوعيه من لجم عملية الإساءة إلى الحوار باسم الحوار نفسه.
الحوار المتمدن
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …