جائحة الموت
فايروس كورونا مفاجئة وبائية اجتاح العالم بسرعة متناهية ليدقّ أجراس الخطر عبر القارات ، وليجدالعالم كلّه امام فايروس غير منظور مكبّلا ومسجوناً وخائفاً مرتعباً من الموت : زعماء وصغراء ء، أغنياء وفقراء ، جبابرة وضعفاء .. العالم يحتشد بالأخبار عن وباء أكل آلاف البشر في بحر شهر واحد، والعالم ازاءه مجموعة من بلدان مرتعشة تنقسم الى قسمين : بلدان منظمّة وصارمة في تطبيق القانون والصحة والتعليمات ، وبلدان منفلتة غرقت في فوضى جماعية ولا سيطرة من دولة أو وعي مجتمع ، الّا ما يفرضه الخوف من الموت .
انّ الوباء الجديد قد جعل الانسان في كلّ العالم محجوزاً او محجوراً في زوايا محددة ليعيد التفكير في نفسه ومستقبله ومصيره على الارض، وقد اغلقت حتى الاماكن المقدسة في العالم ولأول مرة ، كونها وسيلة للعدوى ، وهذا أمر صعب الاحتمال ! أكل فايروس كورونا اهتمامات العالم في اقل من شهر واحد ، ولا يعرف الانسان هوية الفايروس حتى الان ان كانَ قد انتشر من مختبرات جرثومية مصنّعة له أو أنه قد وفد من مخلفات كائنات حية ! وستكشف الأيام عن مصدره الحقيقي ، ولكن بعد أن كشف عورات الجميع، بما فيها دول ومنظومات واديان ومعتقدات وايديولوجيات واتحادات .. الخ
الكارثة : هل تجتثّ التخّلف ؟
ولكن هل الكارثة مناسبة لاجتثاث التخلّف من مجتمعنا كما قال الصديق الفنان العراقي المعروف كوكب حمزة ؟ كنت أعتقد ان مجتمعنا قد ابتلي باوبئة لها سلالاتها المتوارثة، وهي تفضي الى جهالة مركبة لا يمكن ان تجتثّها أية كوارث طارئة أو مكروبات عابرة ، وان مجتمعنا لا تقوم له قائمة ان بقيت الخرافة والخزعبلات مسيطرة على العقول ، فان بقي عموم الناس يتبّعون الجهالة وروّادها الذين يقررّون كل شيئ في الحياة باسم القداسة والطهارة ، فسيبقى التخلف سائداً في العقلية بمثل هذا الشكل المخجل !!! وان مرّت الكارثة ، فسوف تعود حليمة الى عادتها القديمة في مجتمعات ، او ستعقب هذه المحنة تحولات جذرية في التفكير عند مجتمعات أخرى .
الدجالون والمشعوذون ما زالوا يستهترون
ان الذي يهمّنا ايضا هو ما نشهد حدوثه عند بعض الدجّالين والمشعوذين الذين بقوا على استهتارهم بحياة البشر ، وهم مستمروّن على ما يقولونه للناس في مثل هذه الظروف الصعبة جدا ! مجتمعات لم تزل تؤمن بالخرافات وتوافه الأمور وتقديس الأضرحة وشم الخرق .. فما مصير هؤلاء ان لم يعيدوا التفكير بما يؤمنون به ويعتقدون ايّاه ؟ أجدهم يريدون قتل الناس، فهم بلا عقلِ ولا تفكير .. وعلى كلّ الحكومات اغلاق كلّ المعابد والاضرحة وكل المساجد والكنائس كما فعلت دول اخرى في العالم .. وان تفرض عقوبات صارمة على كلّ من يقدّم النصائح التافهة نيابة عن الله والناس تصدّقهم ويا للأسف الشديد ! لابدّ من تغيير تفكير الناس في نظرتهم لمثل هذه التحدّيات غير المنظورة .. وليسأل كلّ انسان سويّ نفسه : ماذا فعل كلّ من يتّمتع بالقداسة في حلّ مثل هذه الكارثة ؟ انهم جناة بحق المجتمع عندما يدعون بأن العلاج عندهم !!!!
الجبابرة خرّوا راكعين
لقد انشغلت كلّ وكالات الأنباء العالمية بكورونا، وعافت كلّ السياسات والصراعات وانحسرت أدوار دول كانت تتشدّق بالقوة ، وتوّضحت طبيعة العلاقات بين الدول والمجتمعات ، وتعّرت كلّ السياسات وبانت على حقيقتها .. ان أول ما جرى من تحوّلات كبرى اثر اجتياح كورونا انحسار دور امريكا كرائدة للعالم كما كانوا يسمّونها ، وبدت تلوذ بنفسها ، أما اوروبا ، فقد اظهر الاجتياح الوبائي فشل الاتحاد الاوربي في مواجهة الازمة القاتلة ، وظهر الاتحاد مجرّد تجمع اقتصادي كل عضو فيه ينشد مصلحته ،اذ انكفأت كل الدول الاوربية على نفسها ، ولم تنفع صيحات بعض الأوربيين لجيرانهم ، وظهرت الصين متماسكة وملتزمة ، لتمدّ يد المساعدة لايطاليا الاكثر فجيعة في اوربا ، وتمنّعت فرنسا في بداية الأزمة ، وبقيت تتفرّج على المشهد وهي قريبة منها , كما ذكر انه بسبب عدم استعداد دول فقيرة وخصوصا الشرق اوسطية لمثل هكذا متغيّرات كاسحة ، فستنحدر نحو الهاوية وقد يزال بعضها !
التحّول الى زمن جديد
هل تصدّقون أنّ ثمّة تغييرات كبرى في التفكير البشري ستحصل . ولكن الخطورة ان يكون مفعول الخرافة والطغيان باعتبارهما يحكمان بعض مجتمعاتنا في ايامنا هذه هو الاقوى فيزول وباء كورونا لتبقى أوبئة أخطر منه !؟ ان الحياة تجدّد نفسها دوماً ، وأن الانسان يستجيب دوما للتحديّات التي تواجهه، وسيخرج من هذه المحنة الصعبة في حالة جديدة اذ ستهتز قناعاته بالعديد من الأسس التي تربي عليها ، وسينظر الى الحياة بمنظار آخر مع رؤية مغايرة للواقع المألوف ، وسيتخّلى عن الكثير من الموروثات والترسّبات التي عاش عليها تاريخاً طويلاً .. سيبحث عن الايقونات والمتخيّلات التي ترسّخت في تفكيرهِ ، فلم يجدها .. بعد أن اقترب كثيراً من الموت .. سيكون واقعياً أكثر مما عاش عليه من التصوّرات والاخيلة . سيقترب الانسان من أخيه الانسان بشكل أكبر ، وستذوب كلّ الحواجز التي صنعها التاريخ الطويل .
ينبغي حدوث تغيير نوعي في طريقةً التفكير. ويراجع تفكيره ويحاول الاجابة على أسئلة فرضها هذا الوباء ،وسيفكّر الانسان بمن أنقذه من الموت المحقّق ؟ وهو اليوم بانتظار المنقذ المخلص الذي سيخترع له مصلاً أو مضاداً حيوياً . وسيرى بنفسه من سيوقف هذا الوباء المخيف ! فهل تبدأ مجتمعاتنا بتفكير جديد يخالف ما ألفوه من مركّبات ذهنيّة ، وخصوصاً بين المقدّس والمدنّس؟ وهل سيقف اولئك الذين تحكّموا بثروات العالم قليلاً كي يعيدوا التفكير في جشعهم واستغلالهم البشرية ، وقد وجدوا أنهم قد تساووا في لحظة زمنية واحدة على متن الكرة الارضية أمام فايروس حقير لا يرى بالعين المجردة ؟
الاسئلة الحائرة
ثمة اسئلة مطروحة تقول : هل سيعود الانسان الى طبيعته ليكون أكثر توازنا ؟ هل سيحترم البيئة أكثر ، ويخلّصها من التلوث ؟ هل سيخرج من حالة الجنون التي وصل اليها في علاقاته السياسية وولاءاته المضطربة ومشروعاته العدوانية ؟ الانسان اليوم ببيته في حالة اقامة جبرية والحياة معطلة ، والدراسة مؤجلة، والتجمعات مستحيلة ، والرعب مسيطر على الانسان . نعم ، هدأت الحياة من فوضى الانسان وضوضاء السيارات .. وكره الانسان اليوم المدن الكبيرة ، وتمنى أن يعيش في قرى وأرياف جميلة ، كما خلي العالم من المتسّكعين والسكيرين بعد أن أغلقت المقاهي والبارات والملاهي والمطاعم أبوابها ، وخليت المباني العامة من الاجتماعات وتأجّلت المؤتمرات والندوات .. وشعر الانسان بقيمة العمل والانتاج والابداعات .. وكان الاقوى من منغصاته غلق المدارس والجامعات في كلّ مفاجئاته وتصرفاته .. الخ من المظاهر الطارئة .
وأخيرا ، ان هذه ” الظاهرة ” المفاجئة للانسان قد كشفت حقائق لم يكن الانسان يفكّر فيها من قبل ،واوضحت له علنا انه بكلّ ما يملك من مال وقوة وسلاح ونفوذ أضعف من فايروس خطير حقير لا يرى أبداً !
تنشر يوم الاثنين 30 آذار / مارس 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل