البداية تساؤلات
تاريخ حكم العراق الحديث لوحة سوريالية تتلون حسب الازمنة والعهود بوجود استحواذ طبقة من العراقيين على ذروة المصالح ويبقى في القاع من ينتظر العيش بكرامة !! قبل الوقوف عند هذا ” الموضوع ” ، لابد من ان أوّضح للقراء الكرام ، بأنني مقتنع تماما ان عهود العراق المعاصر قاطبة حكمتها قوى طبقة عليا حاكمة لها نفوذها الذي يصل الى ذروة التعالي او الطغيان او القسوة او قد يبقى طبيعيا كبقية الامم الاخرى . انني اعتقد ان كل نظام سياسي حكم العراق منذ مائة سنة حتى اليوم تشكلت في دواخله طبقة حاكمة مستحوذة على المصالح ولها منافعها الفئوية ودورها في المجتمع .. دعوني اعالج ذلك
ما معنى الطبقة الحاكمة ؟
هي طبقة Plutocracy الابلوتوقراطية اي طبقة الاثرياء الحاكمة كما تصفها المصادر الاوربية ، ولكن هذه الطبقة في العراق او المنظومة العربية والاسلامية هي الطبقة الحاكمة المتنفذة في مصائر البلاد خلال عهد معين . وتأخذ هذه ” الطبقة ” دورها في تاريخ العراق المعاصر من حيث الهيمنة على السلطة وامتلاك النفوذ والاثراء من خلال الدولة ومواردها والسيطرة على المجتمع سيطرة عمياء بامتلاك مراكز القوة ، وخصوصا حصر السلطات السياسية والامنية والاقتصادية بيدها .. ( راجع : معجم بلاكويل للعلوم السياسية ) ان الطبقة الحاكمة تعمل دوما على تقريب كل المداهنين والمؤيدين والمناصرين لها ، وتبعد ما امكنها كل المناوئين والمعارضين والناقدين لها .. اما من يقف على الحياد والاستقلالية ، فهي اما تحاول تجميدهم او شراء ذممهم وتقصي من يريد ان يبقى مستقلا عنها .. والطبقة الحاكمة تنجح في بناء نفسها بثبيت جذورها وركائزها منذ السنتين الاوليتين في الحكم ، ومن بعدها تصبح لها علاقاتها وارتباطاتها وسيطرتها على المصالح وشبكات المجتمع وهيمنتها على المؤسسات ، وتحاول ان تجد لها من يحميها ويحافظ على وجودها كونها لا تثق بأية قوى رسمية كالجيش والشرطة مثلا ، فتسعى الى خلق ميليشيات او قوى امنية شبه عسكرية او شبه رسمية لتكون هي المحافظة على وجودها خلال سنوات حكمها وعهدها السياسي . والطبقة السياسية العليا هي الحاكمة لكل من الدولة والمجتمع ، وهي غير الطبقية الاجتماعية ، ولكن للاخيرة تأثير كبير على السياسية .. فمن بيده القوة والنفوذ والمال سيغدو جزءا من طبقة اجتماعية او سياسية عليا . ( وهنا لا اقصد ما رمى اليه المؤرخ حنا بطاطو الذي حاول دراسة الطبقات الاجتماعية ، ولم يقرأ الطبقة السياسية العليا ) ، فضلا عن ان المجتمع يتكون من شرائح وطبقات اجتماعية ، في ان النظام السياسي له طبقة سياسية واحدة مستحوذة عليه ، وخصوصا في العراق ، اذ لا تسمح تلك الطبقة العليا بوجود اية طبقات سياسية اخرى لا في الدولة ولا في المجتمع ، والطبقة هي التي تخلق الطغمة الحاكمة وقد تصل الاخيرة الى حد التأليه ، فتمتهن المؤسسات ويتفسخ المجتمع.
حسابات الطبقات الحاكمة : تهميش الكفوئين والمبدعين والاذكياء النزهاء
وكما قلت في ردي على إحدى السيدات العراقيات الفاضلات وقد حاورتني في كلمة سجلتها عن إبعاد الاكفاء والمبدعين العراقيين وتهميشهم من قبل السلطات الحاكمة اليوم ، ولماذا كان الاعتماد دوما على الجهلاء والنفعيين والوصوليين والتافهين والاقرباء من دون اختيار الاكفأ والافضل للمسؤولية ؟ لماذا كانت القرابة في العراق وباء في الوصولية والانتهازية لسحق الاسس الوطنية؟ من المؤكد ان القضية برمتها واضحة وضوح الشمس .. ففي كل عهد سياسي في العراق هناك طبقة سياسية تستحوذ على كل شيئ ، وتهيمن بوسائل القرابة العائلية او نسب العشيرة او الانتماء الجهوي او الطائفي ، تتشكّل عنها طغمة حاكمة :
1/ بقايا الطبقة القديمة :
لم يكن في العراق قبل الوجود البريطاني 1914 – 1918 اية طبقة سياسية حاكمة عليا ، الا بقايا طبقات حاكمة قديمة من المماليك في بغداد ، او من سوران شهرزور ، او بابان سليمانية ، وجليليو الموصل ، وآل السعدون في المنتفج ، وامراء ربيعة في الكوت ، وشيوخ مشايخ شمر وشيوخ مشايخ الجبور ( الباشوات ) في بادية الجزيرة وتميم ، وبقايا اسر قديمة من الاعيان كالنقباء في بغداد وآل العمري والسادة الاشراف في الموصل وآل باش أعيان وبقايا الخوالد والنقباء في البصرة وغيرهم من شيوخ العشائر ورجال الدين الكبار في الكاظمين والعتبات ، ولكن مع خضوع العراق للبريطانيين ، تبلورت فئة عراقية وخرجت من العباءة البريطانية ، ولكن لم يكن لها نفوذها وقوتها ، فالامور كلها كانت بايدي البريطانيين .
2/ الاعيان والشيوخ والشريفيون :
مع تأسيس الدولة / المملكة 1921 ، استحوذت بقايا طبقة الاعيان مع الضباط الشريفيين وكبار الباشوات والجلبية والافندية على النظام الملكي في العراق ، وتشكلت الطبقة الحاكمة على مبدأ القرابة اساسا من ابناء المدن الاساسية : بغداد والموصل والبصرة والحلة والسليمانية وكان لابناء هذه المدن دورهم في بناء العراق من دون اية تمايزات .. فضلا عن شيوخ العشائر الكبار بالسيطرة على مجلسي الاعيان والنواب .. وبالرغم من استحواذ تلك الطبقة على النظام مع صراعاتها السياسية والحزبية ، ولكن كانت المؤسسات في الدولة تستحوذ على اكفأ العراقيين بوجود بعض الرجال العراقيين البناة المبدعين سواء كانوا من العسكريين او المدنيين . ( وبالامكان مراجعة اطروحة د. نزار الحسو “الصراع على السلطة في العراق الملكي” عن تفاصيل ذلك ) .
3/ الشيوعيون والقاسميون
ومع سقوط النظام الملكي 1958 ، استحوذت طبقة عسكرية جديدة من رحم النظام القديم اغلب عناصرها من الشيوعيين واعتمد نظام عبد الكريم قاسم عليهم خلال عهده القصير ، ولكنها طبقة مضطربة لم تترسخ في الدولة والمجتمع ، وكانت غير واعية لا سياسيا ولا اجتماعيا ، وهي في دوامة ما تفرزه ذروة الحرب الباردة في العالم ، فتعكس ذلك على الداخل في صراع خفي مع الملكيين القدماء والقوميين الجدد من بعثيين وناصريين وحركيين .. هذه الطبقة هي التي لعبت دورها في جعل الزعيم قاسم بمرتبة الالهة ، فخرج عن طريقه ولم يعد باستطاعته صنع اي قرار .. اذ كان يخشى سطوة هذه الطبقة التي كانت ولدت في حضنها طبقة معادية لها من البعثيين والقوميين الذين كان الزعيم يخشاهم ايضا وخصوصا بعد محاولة اغتياله في رأس القرية . ( ويراجع هنا كتاب حنا بطاطو عن الطبقات الاجتماعية في العراق ، وخصوصا ما كتبه عن الشيوعيين العراقيين وتاريخهم ).
4/ القوى الفئوية البعثية
اثر سقوط قاسم على ايدي البعثيين 1963 ، لم تستطع القوى البعثية عام 1963 من بناء طبقة حاكمة بسبب قصر حياتها في الحكم ( اقل من عشرة اشهر ) ، والانقسام الحزبي الذي حل بها ، مع انقلابها على نفسها كجماعة غير مؤهلة للحكم أبدا كون اغلبيتهم من الشباب الاقل تجربة ومن المعدمين معرفيا ، فمنهم مع شرعية ميشيل عفلق ومنهم ضده لاقصى اليسار ، اي الانشطار بين ما سمي لاحقا باليمين واليسار .. ( تراجع مذكرات العديد من البعثيين الاوائل ومنهم : هاني الفكيكي وطالب شبيب ) .
5/ العارفيون والناصريون
لكن ترعرعت طبقة سياسية جديدة على عهد عبد السلام عارف ، كان اغلب الاعضاء فيها من العسكريين القوميين لتستحوذ على اقوى المناصب في البلاد بعد زوال البعثيين اول مرة، وكان اغلب هؤلاء من النفعيين الجهويين والقوميين الناصريين واقرباء الرئيس الوصوليين من حماة النظام العارفي الذي لم يستطع ان يواصل فرض هيمنته بسبب محاولات انقلابية ناصرية وبعثية واستياء عارم من قبل الشيوعيين ضده .. ولكن ملامح تبلور طبقة حاكمة كان واضحا جدا يهيمن عليها البعض من الضباط الموالين له وقد جعل عبد السلام مصير البلاد بايديهم ، وخصوصا بعد فشل محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية الاولى سبتمبر 1965 ، وانتقل عبد السلام نفسه من كونه اسير بايدي الناصريين الى اسير بايدي الضباط العشائريين ، ليأتي من بعده شقيقه الاكبر عبد الرحمن الذي استغل حكمه العسكر بتآمرهم واختراقهم النظام ليتسلمه البعثيون على طبق من ذهب وكانوا قد خرجوا توا من أوكار الهزيمة ! .
6/ البعثيون : طبقة منقسمة انشقاقية
وهنا استحوذت بعد 30 تموز / يوليو 1968 بالذات وبعد تصفية الحساب مع عناصر 17 تموز / يوليو 1968 ، طبقة من الحزبيين البعثيين ايام نظام حكم احمد حسن البكر على مدى اكثر من عشر سنوات من حكمه العراق ، وبالرغم من الانقسامات بين البعثيين العسكريين والمدنيين ، وخصوصا من التكارتة وقد ذبح احدهم الاخر ، ووجود قصر النهاية ، انتقل الصراع بين جناحين يقودان السلطة جناح البكر العسكري وجناح صدام المدني ، ولكن الطبقة الحاكمة ترسخت برغم محاولات انقلابية عدة بفعل قوة النظام والخوف منه ، لكي تتحول تلك الطبقة الحزبية لاحقا الى حكم مستبد يتمتع بحماية العشيرة المقربة وبالادوات التي استخدمتها اجهزة لا تعرف واحدتها الاخرى .
7/ طبقة اسرة الرئيس : حكم العائلة
مع بقاء البعث في السلطة ، وانتصار جناح صدام القوي ، تحولت الطبقة الحاكمة العليا من حزبية عشائرية جهوية ، شيئا فشيئا الى طغمة عائلية مسيطرة ومخيفة ومرعبة ، ويقف على رأسها السيد الرئيس واخوته واولاده ونسبائه واقربائه وهيمنتهم القوية على نظام الحكم ، وتمتعت الطبقة الحاكمة بنفوذ واسع وهيمنة قاسية على الناس ، وامتدت منها اطراف وفروع واصبحت كالتنين تنشر قوتها على كل العراق من خلال اجهزتها السرية التي ساعدتها في الحكم وسيطرتها على المصالح وفرض الامن الداخلي لسنوات طويلة، خصوصا وان ذلك العهد تخللته تحديات ومخاطر وحروب واحتلال الكويت ( الذي ادانه ادانة صريحة عزت الدوري الامين العام للحزب في خطابه الاخير نيسان 2019 !! ) وحصارات وانتصارات وهزائم ومجاعات وهجرات وانفصال كردستان 1991 وهروب جمعي متوجا ذلك بالاحتلال 2003 .. وفي ظل ذلك العهد ، بقيت المؤسسات في الدولة تعمل بقوة مع تغلغل الفساد في كل مفاصلها . وكان العراق كله بيد رجل واحد ، فكل العراقيين يخافون منه ومن بطشه جدا ، وقد صّرح مرارا انه هو العراق ،فما ان رحل حتى رقص الملايين من المصفقين له على اشلائه كالعادة ، وقد دفع العراق كله ثمن مسلسل تعاقب طبقات الحكم ! ( راجع ما كتب عنه من مصادر منصفة ومعتدلة ) .
8/ الطبقة الحاكمة الجديدة
بعد الاحتلال ، انتهت الدولة العراقية نهاية انتحارية عام 2003 ولم يذبح النظام لوحده ، بل جرت مجزرة تاريخية لكل العراق ودولته وأهله ، واستحوذ الاميركان ومن جاء بمعيتهم من العراقيين ، وهلل بعض المثقفين الساذجين للفاجعة ، وانقسم المجتمع انقسامات حادة ، واستحوذت طبقة فئوية وطائفية من رجال دين ومشعوذين وحزبيين اسلاميين ودعويين على نظام حكم لما بعد 2003 وكلهم غير مؤهلين له ولمؤسسات مسحوقة ومنهوبة وولدت دول داخل دولة مسحوقة .. وكم كان الناس يأملون بتغيير سياسي ونهضوي مدني حقيقي ، ولكن الاحتلال وتداعياته قد سحق العراق وفرّق العراقيين ، وقد تبلورت طبقة سياسية جديدة في حكم العراق من الابلوقراطيين الجدد ، والتي لا معرفة عندها ولا قدرة تمتلكها لحكم بلد معقد مثل العراق .. وهي الطبقة التي تستحوذ عليها كل اربع – خمس سنين طغمة من المدعين والطفيليين والمقلدين والكذابين والوصوليين والنفعيين والمهرجين والانتهازيين والوصوليين والفاسدين فضلا عن هيمنة المليشيات التي تعلن عن ولائها لايران علنا والتي اخترقت العراق طولا وعرضا .. وهم كثيرون اليوم ، والطبقة كلها لم تعمل ابدا من اجل العراق ومصالح شعبه بما فيها جوقات من الاعلاميين بكل فضائياتهم وما ينشرونه بملايين الدولارات ، هذه الطبقة من الابلوقراطيين دمرت البلاد وسرقت اموالها بالمليارات ، وغدا العراق في آخر السلم بين الدول في العالم .. ومجتمع العراق كله بمن فيه مذاهبه وطوائفه وعناصره ومكوناته براء من هذه الطغمة الطفيلية الحاكمة التي اجتمعت فيها كل المثالب والرزايا والخطايا بعيدا عن وطن ذبيح اسمه العراق .
تنشر بتاريخ 11 ابريل / نيسان 2019 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
اللوحة المرفقة سوريالية معبرة عما كتبته في اعلاه ، وقد رسمها تشكيليا الصديق الفنان الدكتور علاء بشير