شاهدت أمس من خلال اليوتيب برنامجا تلفزيونيا على قناة فضائية يمتلكها رئيس وزراء عراقي سابق اسسها من اموال السحت الحرام ، وكان عنوان البرنامج ” مكاشفات ” وهي مفردة كنت قد استخدمتها بعد نحتها عربيا في ادبياتي النقدية .. لا ضير ، وفي حلقة بثّت في الاسبوع الماضي ، كنت اعتقد ان الانفاس الطائفية الكريهة قد انحسرت عند من يسمون انفسهم بعراقيين جدد ، ولكن هالني ما سمعت ورأيت ، فالكراهية بلغت اليوم اعلى مداها في مجتمعنا العراقي الذي يأكل نفسه بنفسه ، وهي لم تقتصر على جوانب سياسية معينة يكثر فيها الخلاف في الرأي ، بل مسّت عصب المواطنة والانتماء والضرب على الرأس في الصميم .. ولقد توضحت كم هو حجم الاساءة للشخصية العراقية وسط هذا العالم !
ان احقاد العراقيين ضد بعضهم البعض الاخر لم تزل متأججة من دون ان يصدر بشأنها اي حساب ، ولا اي عقاب سواء من خلال جهات رسمية او أي ردع من قبل سلطات اجتماعية ، فالجميع يؤثر السكوت .. وبات الاقصاء الجهوي والتمايز الاجتماعي في اعلى مداه .. ولم تقتصر على القاء التهم جزافا ، بل دخل فيها التشمّت والتشفّي بمصير مدينة منسحقة او منطقة منكوبة واتهام أهلها بالعار والشنار ! ويأتي هذا على ألسنة من يدّعون انهم من المحللين واصحاب الشهادات العليا المزوّرة ، اذ امتلأت نفوسهم المتوحشة قيحا ، وبدوا وكأنهم يريدون افتراس اهلهم من ابناء شعبهم العراقي ومحوهم من الوجود ، والمشكلة ان هؤلاء وامثالهم لا يجدون من ينصحهم ، ولا يتورعون أبداً ممن يردعهم ! وصدق فيهم المثل العراقي : ” يثرد بدم اخوه ” !!
ماذا نفسّر هذه الاحقاد العميقة المتداولة عراقيا بين تسميات مضادة وتصنيفات مضحكة ، فهذا ابن الشمال وهذا نفط الجنوب ؟ لقد سمعت باذني في البرنامج المذكور من يسمّي هؤلاء بالشروقية واولئك بالغربية ؟ ما هذه الديماغوجية السمجة بحيث اسس النظام الجديد مبادئ الكراهية بتصنيف العراقيين لتكون بحرا من البشاعات .. واسس لدستور تمنح بعض بنوده للعراقيين حقوقهم من خلال المكونات والادارة الفيدرالية .. ولكن يتخلى بعضهم اليوم عن تلك البنود لينفث سمومه ضد ابناء وطنه ، وكأنهم اعداء لدودين وتاريخيين ؟؟ لقد وصلت الحالة البشعة ان يعّير الجنوبي ابن الشمال برزقه كون الجنوب نفطيا وهو يعيله ! .. ومع ذلك ، فالحكومة لا تمنح الحق لاهله من العراقيين بالتساوي وتمايز جهويا بينهم ، بل وانها تعاقب مدنا كبرى ، فهل تريدون ان يسكت الناس ؟ لابد ان يبحثوا عن وسائل ادارية واقتصادية في اطار القانون لعيشهم واصلاح مدنهم وبناء مستقبل اولادهم ..
انني اخاطب هذا الذي رضي ان يخرج على الناس في مثل هذه القناة الفضائية ويعرض قضيته امام خصومه ، وليست لديه القدرة ان يدافع عنها في مناظرة فاقدة للاخلاق وكل المعاني ؟ المشكلة اليوم ، انك متهم في وطنيتك في ظل نظام يدعي الديمقراطية كذبا وبهتانا ، وهو اصلا جعل الوطن مزبلة للاخرين يعبثون به فسادا ليل نهار ! المشكلة اليوم انك ليس لوحدك متهما في وطنيتك ، بل يسحب ذلك على اجيال سبقتك برز منهم اعاظم الرجال لا يعترفون بهم فقط ، بل يشوّهون صورتهم اللامعة ويتنكرون لادوارهم الوطنية ! المشكلة اليوم ان ليس المشاعر الوطنية قد ماتت لدى العراقيين ، بل ان اللا وعي الجمعي بذلك قد طغى على الجميع ما دام كل من النظام السياسي والشرائح المجتمعية راضية وساكتة على نشر مثل هذا الغسيل القذر على العالم من خلال الفضائيات دون ان يوقفه أحد !
وعليه ، انصح كل المخلصين العراقيين ان لا يتورطوا ابدا ويوقفوا تسارعهم للظهور فقط على الشاشات ، فبضاعتهم خاسرة ذلك ان معد البرنامج ومقدمه والقناة كلها لا تمتلك ادنى درجة من الحيادية والموضوعية والاخلاق والنزاهة ، بل انها مساهمة في بث الكراهية والاحقاد والعمل على وأد اي مشروع فكري ، او برنامج سياسي ، او تشويه سمعة اصحابه باساليب غاية في القذارة والاساليب اللااخلاقية .. يبدو ان العراق لم يزل غير مكتمل في تشظيه ، وان النظام السياسي الحالي يمعن في تمزيقه اربا بفرض ارادته التافهة هو وحده على كل العراقيين من خلال قوى وعصابات وجماعات متوحشة واقزام تافهين يقدمونهم كونهم من (الدكاترة ) المزورين .. وهذا جنون ولا يمكن ان يحدث ابدا في اي امة تحترم نفسها .. انكم نازعتم الدنيا من اجل الفيدرالية ، ولكنكم لا تريدونها اليوم .. انكم تتشدقون بالديمقراطية ، ولكنكم لا تسمحون لأحد ان يبدي رأيه السياسي او مشروعه الفكري ، او فكره المعارض .. انكم يا قوم تحملون ايديولوجية تمايزية بشعة ولا تتقبلون ان يعارضكم احد ، بل ولا يخالفكم احد .. والتمايز يعاقب عليه القانون في الامم العاقلة . ولم اجد احدا في كل امم الدنيا يتهم ابن وطنه بدينه او مذهبه او طائفته او مدينته او منطقته او عشيرته ، بل يفخر به ويحترم كل خصوصياته ..
انكم تدركون جيدا انكم فئات ضالة تختلفون عن العراقيين الحقيقيين الاصلاء ، ولكنكم تريدون ابتلاع كل العراق لوحدكم دون الاخرين .. وهذا سوف لم ولن يحدث ابدا ، فالعراقي الحقيقي معدنه واحد ، وانتمائه واحد ، وهويته واحدة ، وثقافاته متنوعة ، وارثه واحد وفكره مستنير .. العراقيون الحقيقيون ليسوا بنهابين ولا سراقا ولا مرتشين ولا اكلة السحت الحرام .. العراقيون الحقيقيون لا يكرهون اهلهم ولا ابناء جلدتهم ، ويقدمونهم على انفسهم .. العراقيون الحقيقيون يحترمون شعائر اخوانهم وثقافتهم وقيمهم واعرافهم ولا يفرقون بين سني وشيعي ولا بين شمالي وجنوبي او شرقي وغربي .. العراقيون الحقيقيون يعشقون كل العراق وأهله بمدنه وانهاره وقصباته واهواره وكل اجوائه واطيافه ..
سيلفظكم الزمن في مزبلة التاريخ قريبا ، كما لفظ من سبقكم في حكم العراق .. ستبقى ارادة العراقيين الاحرار متأصلة في النفوس مهما طال الزمن ، ولابد لليل ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر عما قريب .
تنشر صباح الاثنين 4 /3/ 2019 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/